الجانب الإيجابي في أزمة الاتحاد الأوروبي عودة الدول القومية لأوروبا
برلين: جاكوب جريجيل
* أوروبا تشهد أسوأ الأزمات منذ الحرب العالمية الثانية .. والعودة إلى الدول القومية يمكن أن تمثل خطورة ليس فقط على القارة بل على العالم بأسره
* أصدر الشعب البريطاني انتقادا حادا للكتلة الأوروبية عندما صوت لصالح المغادرة بنسبة 52 في المائة رغم تحذيرات صندوق النقد الدولي وبنك إنجلترا
تشهد أوروبا حاليا أسوأ الأزمات السياسية والأقتصادية التي تعرضت لها منذ الحرب العالمية الثانية. ففي كل أنحاء القارة، فقدت الأحزاب السياسية التقليدية شعبيتها، وظهرت حركات متشككة في الاتحاد الأوروبي وتمكنت من تكوين قواعد تأييد قوية. ويبدو أن الآمال التي كانت معقودة على الوحدة الأوروبية تتراجع يوما بعد يوم. كما كشفت أزمة اليورو عن وجود فجوات عميقة بين ألمانيا والدول الجنوبية الغارقة في الديون مثل اليونان والبرتغال.
اصطدمت كل من ألمانيا وإيطاليا بقضايا تتعلق بالرقابة على الحدود والقيود البنكية. وفي 23 يونيو (حزيران)، أصبحت المملكة المتحدة أول دولة في التاريخ تصوت لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، وهو ما يُعدّ ضربة هائلة للكتلة.
وفي الوقت ذاته الذي تواجه فيه أوروبا أزمات سياسية داخلية، فإنها تتعرض لمخاطر خارجية جديدة. ففي الشرق، يلوح في الأفق تحفز روسيا، بعدما قامت بغزو أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم. وفي جنوب أوروبا، دفع انهيار كثير من الدول الملايين من المهاجرين إلى الشمال ووفّر البيئة المثالية للإرهابيين الإسلاميين. وأظهرت الهجمات الأخيرة التي وقعت في باريس وبروكسل أن المتطرفين يستطيعون أن يضربوا في قلب القارة.
وعلى الرغم من أن تلك الفوضى أبرزت كلفة تجاهل الصراعات الجيوسياسية التي تحيط بأوروبا، فإن الاتحاد الأوروبي، الذي يرزح تحت وطأة أزمة اليورو والانقسامات حول كيفية توزيع اللاجئين، لم يعد قويًا أو موحدًا بما يكفي للتعامل مع أزماته المحلية أو التهديدات الأمنية على حدوده. وبالفعل، بدأ قادة الدول في جميع أنحاء القارة الاتجاه إلى الداخل، بعدما توصلوا إلى أن أفضل وسيلة لحماية بلدانهم هي تحقيق قدر أكبر من السيادة الوطنية. ويبدو أن كثيرًا من المقترعين يتفقون مع ذلك.
وكما يوضح تاريخ أوروبا على نحو قاسٍ، فإن العودة إلى الدول القومية يمكن أن تمثل خطورة ليس فقط على القارة بل على العالم بأسره. ومع ذلك فإن أوروبا التي تتكون من دول قومية أكثر قوة قد تكون أفضل من الاتحاد الأوروبي الممزق والضعيف الذي يفتقر إلى الشعبية في الوقت الراهن. وهناك سبب قوي يجعلنا نعتقد أن الدول الأوروبية سوف يكون أداؤها أفضل فيما يتعلق بقدرتها على تحجيم روسيا، وإدارة أزمة المهاجرين، ومكافحة الإرهاب مما كانت تفعل وهي تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.
الاتحاد الأكثر امتدادا
في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، قدم كثير من الزعماء الأوروبيين حجة مقنعة بأن القارة ستتمكن عبر الوحدة من التخلص من ماضيها الدموي وتضمن الازدهار. وبالتالي، أنشأت كل من بلجيكا، وفرنسا، وإيطاليا، ولوكسمبورغ، وهولندا وألمانيا الغربية «الجماعة الأوروبية للفحم والصلب». وخلال عدة عقود تالية، تحولت تلك المنظمة إلى «المجتمع الاقتصادي الأوروبي» ثم أصبحت في النهاية «الاتحاد الأوروبي» وتزايد عدد أعضائه من ست دول إلى 28 دولة. وخلال تلك الفترة، وفيما تراجعت المخاوف من الحرب، بدأ الزعماء الأوروبيين الحديث حول التكامل ليس فقط كقوة للسلام ولكن كوسيلة تسمح لأوروبا بالوقوف إلى جانب الصين، وروسيا، والولايات المتحدة كقوة عظمى.
واحتج المدافعون عن الاتحاد الأوروبي بأن مزايا العضوية - سوق متكاملة، وحدود مشتركة، ونظام قانوني عابر للقوميات - واضحة للغاية. ومن هذا المنطلق، فإن توسع الاتحاد شرقًا لا يحتاج إلى قوة أو إكراه سياسي، بل إنه يتطلب ببساطة الصبر، نظرا لأن الدول غير الأعضاء سرعان ما ستدرك مزايا العضوية وتهرع للانضمام. ولسنوات طويلة، كان هذا هو ما يحدث، حيث تسارعت بلدان أوروبا الشرقية للانضمام بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وأصبحت ثماني دول - جمهورية التشيك، إستونيا، المجر، لاتفيا، ليتوانيا، بولندا، سلوفاكيا، سلوفينيا - أعضاء في 2004، ثم لحقت بهم كل من بلغاريا ورومانيا في 2007.
ثم جاءت أزمة أوكرانيا. ففي 2014، نزل الشعب الأوكراني إلى الشوارع وخلعوا رئيسهم الفاسد، فيكتور يانوكوفيتش، بعدما ألغى فجأة صفقة اقتصادية جديدة مع الاتحاد الأوروبي. وبعدها مباشرة، اجتاحت روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها، وأسرعت في إرسال جنودها ومدفعيتها إلى شرق أوكرانيا أيضا. وكان زعماء الاتحاد الأوروبي يأملون أن تزيد الإغراءات الاقتصادية عدد الدول الأعضاء بالاتحاد وتجلب السلام والازدهار إلى ذلك الجمهور الكبير. ولكن يبدو أن ذلك الحلم لم يكن ذو أهمية كبرى لدبابات روسيا ومن يطلق عليهم «الرجال الخضر».
وعلى الرغم من أن مناورات موسكو في حد ذاتها لم تكن كافية لعرقلة الاتحاد الأوروبي، فسرعان ما وقعت أزمة أخرى قد تكون قد دفعت بالاتحاد إلى حافة الانهيار. ففي عام 2015، دخل أكثر من مليون لاجئ - نصفهم تقريبا جاء فرارا من الحرب الأهلية في سوريا - إلى أوروبا ومنذ ذلك الحين، تدفق المزيد من اللاجئين. في البداية رحب عدد من الدول، خصوصا ألمانيا والسويد، باللاجئين وانتقدت قيادات هذه الدول بعض الدول المجاورة التي حاولت التهرب من اللاجئين. وخلال العام الماضي، وبعدما أنشأت المجر سورا شائكا على طول حدودها مع كرواتيا، أدانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تلك الخطوة باعتبارها إحدى ممارسات فترة الحرب الباردة، كما قال وزير الخارجية الفرنسية، لوران فابيوس إن تلك الخطوة «لا تحترم القيم المشتركة لأوروبا».
ولكن في بداية العام الحالي، غير كثير من هؤلاء الزعماء نبرتهم وبدأوا الضغط على دول أوروبا الحدودية لتعزيز إجراءاتها الأمنية. ففي يناير (كانون الثاني)، حذرت كثير من الحكومات الأوروبية اليونان من أنها إن لم تجد طريقة لوقف تدفق اللاجئين، فإنها سوف تخرجها من منطقة «الشينغن» وهي منطقة لا تتطلب جوازات سفر داخل الاتحاد الأوروبي.
وسواء عن قصد أم لا، أخفق السياسيون الأوروبيين الذين كانوا ينادون بالحدود المفتوحة في منح مواطنيهم أولوية على الأجانب. ربما كانت نية هؤلاء القادة نبيلة، ولكن الدولة إذا فشلت في أن تقصر حمايتها على مجموعة محددة من الناس – مواطنيها - فإن حكوماتها تخاطر بفقدان شرعيتها. وبالفعل، يتمحور المعيار الرئيسي لنجاح أي دولة حول كيفية حمايتها لشعبها وحدودها من التهديدات الداخلية، سواء جيرانها المعادين، الإرهاب، أو الهجرة الجماعية. وفي هذا الإطار، أخفق الاتحاد الأوروبي ومؤيدوه. وأدرك المصوتون ذلك، حيث أصدر الشعب البريطاني انتقادا حادا للكتلة في يونيو، عندما صوت لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي بنسبة 52 في المائة، في مقابل 48 في المائة، رغم تحذيرات «صندوق النقد الدولي» و«بنك إنجلترا» ووزارة الخزانة البريطانية بأن ذلك سوف يسفر عن كارثة اقتصادية. ووفقا لاستبيان حديث أجراه «مركز بيو للأبحاث» في فرنسا، فإن نحو 61 في المائة من السكان لديهم رؤى سلبية بشأن الاتحاد الأوروبي ويتفق مع تلك الرؤية نحو 71 في المائة من السكان باليونان.
وقبل أن تواجه أوروبا تلك التهديدات الأمنية الضاغطة - كما كان الحال خلال معظم العقدين الماضيين - كان بإمكان أعضاء الاتحاد الأوروبي أن يسعوا لتحقيق أهداف منفتحة للغاية، مثل إزالة الحدود داخل الاتحاد. ولكن بعد ظهور تلك المخاطر، وبعدما أظهر الاتحاد الأوروبي أنه غير قادر على التعامل معها، أصبح على القادة الوطنيين بأوروبا أن يفوا بواجبهم الأساسي: الدفاع عن بلدانهم.
العودة إلى الأسس
لقد أنشأ مهندسو الاتحاد الأوروبي رأسًا دون جسد: فقد أسسوا بيروقراطية سياسية وإدارة موحدة ولكنهم لم ينشأوا دولة أوروبية موحدة. وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي كان يتطلع لتجاوز الدول القومية، تسببت تلك الثغرة الخطيرة في الإخفاق المستمر في الاعتراف بوجود اختلافات قومية وأهمية معالجة المخاطر على تلك الجبهات.
وكان إحدى عواقب ذلك الخطأ هو نشأة الأحزاب السياسية التي تستهدف استعادة الاستقلال القومي، من خلال التقرب إلى التوجهات اليمينية المتطرفة، والشعبويين وفي بعض الأحيان المعادين للأجانب. ففي 2014، فاز حزب «الاستقلال البريطاني» بالتصويت الشعبي في انتخابات في البرلمان الأوروبي، أول مرة منذ عام 1906 يتمكن فيها أي حزب بالمملكة المتحدة من هزيمة حزبي العمال والمحافظين في اقتراع على مستوى البلاد. وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فازت مارين لوبان رئيسة حزب الجبهة القومية اليميني في فرنسا بالجولة الأولى في الانتخابات الإقليمية بالبلاد. وفي مارس (آذار) الماضي، فاز حزب «البديل من أجل ألمانيا» في ألمانيا بنحو 25 في المائة من التصويت في ساكسونيا أنهالت.
وفي مايو (أيار)، خسر نوربرت هوفر، مرشح حزب الحرية اليميني بفارق ضئيل في الانتخابات الرئاسية بالنمسا. (ألغت بعد ذلك المحكمة الدستورية تلك النتيجة وقضت بإعادة إجراء الانتخابات في أكتوبر/ تشرين الأول).
وقد استفادت بعض تلك الأحزاب من تأييد روسيا في إطار مساعيها للحصول على النفوذ في أوروبا. فحتى وقت قريب، كانت موسكو تستطيع الاعتماد على الزعماء الأوروبيين الذين كانوا لديهم علاقات طيبة مع روسيا بما في ذلك المستشار الألماني السابق، جرهارد شرودر، ورئيس الوزراء الإيطالي السابق، سيلفيو برلسكوني. ولكن الآن، وبعدما حصلت أحزاب جديدة على المكانة التي كانت تحتلها الأحزاب العريقة، أصبح الكرملين بحاجة إلى شركاء جدد. ومن ثم فقد قدم الأموال إلى «الجبهة القومية» كما طلب الكونغرس الأميركي، من جيمس كلابر، مدير الاستخبارات القومية الأميركية التحقيق في صلة الكرملين بالأحزاب الهامشية بما في ذلك حزب «الفجر الذهبي» اليوناني وحزب «يوبيك» الهنغاري. ولكن تلك الأحزاب سوف يسطع نجمها حتى دون مساعدة روسيا، حيث يشعر كثير من الأوروبيين بالسخط تجاه السياسيين الذين يؤيدون وحدة الاتحاد الأوروبي والحدود المفتوحة والتراجع التدريجي للسيادة القومية، وأصبح لديهم رغبة عميقة وقوية في إعادة تأكيد هيمنة دولهم القومية.
[caption id="attachment_55255651" align="aligncenter" width="1024"] أنصار الاستقلال عن المملكة المتحدة يرتدون أقنعة العلم الاسكوتلندي خلال اجتماع حاشد بساحة جورج في غلاسكو في يوليو الماضي (غيتي)[/caption]
وبالطبع، لا يسعى السياسيون المتشككون في الاتحاد الأوروبي إلى حل الاتحاد كليا، حيث ما زال كثير منهم ينظر إلى إنشاء الاتحاد باعتباره نصرا تاريخيا للغرب. ولكنهم يرغبون في تحقيق قدر أكبر من الاستقلال القومي في السياسات الاجتماعية والاقتصادية والخارجية خاصة بعدما تزايدت مهام الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالهجرة ومطالب إصدار قوانين موحدة على مستوى القارة في قضايا مثيرة للجدل مثل الإجهاض والزواج. وقد طالب الكثيرون في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نظرا لاستيائهم من عدد من القوانين البريطانية التي جاءت من بروكسل ولم تأتِ من ويستمنستر.
وعلى الرغم من أن الرهان ضد السيادة قد أخفق، فإن العودة للحديث عن السيادة أعادت إلى الأذهان الذكريات المؤلمة المقترنة بالقومية، التي دفعت بالقارة مرتين إلى حافة الإبادة. ويخشى كثير من المراقبين حاليا من أن السياسات الأوروبية أصبحت تشبه سياسات الثلاثينات من القرن الماضي، عندما كان الزعماء الشعبويون يبثون الكراهية للحصول على الدعم. ولا تعتبر تلك المخاوف دون أساس تماما، حيث يذكرنا حزب «الحرية» النمساوي المعادي للأجانب بالأيام الأولى للفاشية. كما انتشرت معاداة السامية في جميع أنحاء أوروبا وامتدت إلى أحزاب من كل أنحاء الطيف الآيديولوجي من حزب العمال بالمملكة المتحدة إلى حزب «يوبيك» الهنغاري. وفي اليونان، نادى بعض أعضاء الحزب اليساري الراديكالي «سيريزا» بانسحاب اليونان من حلف شمال الأطلسي، وهو ما يعد مثالا رئيسيا على تنامي التوجهات المعادية لأميركا، التي يمكن أن تؤثر على أساس الأمن الأوروبي.
ومع ذلك، لا يقترن تأكيد السيادة القومية بالضرورة بالقومية الخبيثة. فعلى سبيل المثال، لم يكن دعم البريطانيين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تعبيرا عن العداء تجاه الدول الأوروبية الأخرى، ولكنه كان تأكيدا على حق المملكة في حكم ذاتها. ولا تتضمن العودة إلى الدول القومية تلك النزعة القومية فقط بل تتضمن الوطنية كذلك، التي كما يقول جورج أورويل: «الانتماء إلى مكان محدد وطريقة محددة للحياة».
جدير بالذكر أيضًا أن أحد أكبر التهديدات التي واجهت أوروبا في القرن العشرين كان تهديدا عابرا للقوميات في طبيعته: الشيوعية، التي قسمت القارة لمدة 45 عاما وأدت إلى وفاة الملايين.
ما بعد الاتحاد الأوروبي
قد تكون عودة الدول القومية هي أفضل أمل بالنسبة لأمن القارة. فقد كان مؤسسو الاتحاد الأوروبي يعتقدون أن ذلك الكيان سوف يضمن لأوروبا الاستقرار والازدهار وهو ما حدث لفترة من الوقت. ولكن اليوم، وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي تمكن من تحقيق ثروة كبيرة عبر الأسواق المشتركة، فإنه أصبح إلى حد كبير مصدرا للاضطرابات. كما كشفت أزمة اليورو عن عدم قدرة الاتحاد على حل المشكلات بين أعضائه: فلم تكن هناك حوافز كبرى بالنسبة للألمان تدفعهم لمعالجة الأزمة اليونانية والعكس صحيح. كما يعاني الاتحاد الأوروبي مما أطلقت عليه المحكمة الدستورية الألمانية: «عجزا ديمقراطيا بنيويا». فمن بين مؤسساته السبع، لا توجد سوى مؤسسة واحدة (البرلمان الأوروبي) ينتخبها الشعب انتخابا مباشرا، وهي لا تستطيع إصدار التشريعات. وأخيرا، فإن هيمنة ألمانيا في الفترة الأخيرة على الاتحاد الأوروبي أقصت الدول الأصغر بما في ذلك اليونان وإيطاليا.
وفي الوقت نفسه، أخفق الاتحاد الأوروبي في الحفاظ على أمن أوروبا. فمنذ عام 1949، كانت أوروبا تعتمد على حلف شمال الأطلسي (خصوصًا الولايات المتحدة) لتأمين حدودها. كما أدى ضعف إنفاق الدفاع في كثير من البلدان الأوروبية إلى زيادة اعتمادها على الوجود المادي للولايات المتحدة في أوروبا. ومن المستبعد أن يؤسس الاتحاد الأوروبي جيشا بنفسه على الأقل في المستقبل القريب، إذ إن أعضاءه لديهم أولويات استراتيجية مختلفة ورغبة محدودة في أن يسلموا السيادة العسكرية لبروكسل.
وما زال الكثيرون من مؤيدي الاتحاد الأوروبي يصرون على أن الفوضى ستسود القارة في غيابه. ففي 2011، حذر الوزير الفرنسي للشؤون الأوروبية، جان ليونيتي، من أن إخفاق اليورو يمكن أن يدفع أوروبا إلى «الانهيار». وفي مايو، زعم رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يمكن أن يعزز مخاطر الحرب. ولكن كما كتب عالم اللاهوت الأميركي، رينولد نيبور في الأربعينات من القرن الماضي: «إن الخوف من الفوضى أقل أهمية من الخوف من العدو الواضح».
واليوم، يبدو خطر الأعداء الواضحين الذين ظهروا في جميع أنحاء أوروبا من روسيا إلى «داعش» أكثر إثارة للقلق لمعظم الناس من الفوضى المحتملة التي يمكن أن تنجم عن حل الاتحاد الأوروبي. وهم يأملون أن تستطيع الدول توفير ذلك النوع من الحماية الذي لا تستطيع بروكسل توفيره.
علاقات خاصة
من وجهة النظر الأميركية، يمثل انهيار الاتحاد الأوروبي تحديا كبيرا ولكنه ليس تحديا لا يمكن تجاوزه. ففي العقود التالية للحرب العالمية الثانية، سعت واشنطن لاحتواء الاتحاد السوفياتي ليس فقط عبر الردع النووي، ولكن عبر وضع قوة عسكرية كبيرة في أوروبا وتعزيز الوحدة الأوروبية، حيث كانوا يعتقدون أن وجود قارة موحدة سوف يهدئ أوروبا ويعزز اقتصاد حلفاء الولايات المتحدة ويشجعهم على التعاون مع واشنطن لمواجهة التهديد السوفياتي. ولكن الولايات المتحدة أصبحت اليوم بحاجة إلى استراتيجية جديدة لأن الاتحاد الأوروبي لم يعد قادرا على القيام بمهمة حماية حدوده أو المنافسة الجيوسياسية، كما أن ممارسة أميركا للمزيد من الضغوط من أجل وحدة أوروبا سوف يعزل ببساطة العدد المتزايد من الأوروبيين الذين لا يرغبون في استمرار الاتحاد الأوروبي.
ويجب على واشنطن ألا تخشى حل الاتحاد الأوروبي، فقد تصبح الدول الأوروبية المستقلة أكثر براعة من الاتحاد الأوروبي في ردع التهديدات التي تتعرض لها جبهاتها. فعندما غزت روسيا أوكرانيا، لم يكن لدى الاتحاد الأوروبي رد فعل بخلاف فرض العقوبات والمطالب بإجراء حوار. ولم تجد الدول الأوروبية المجاورة لروسيا ما يطمئنها في الاتحاد، وهو ما يفسر اللجوء إلى حلف شمال الأطلسي والقوات الأميركية. وقد تستطيع الدول بمفردها النجاح فيما فشل فيه الاتحاد الأوروبي، فالوطنية وحدها لديها القوة والجاذبية الشعبية التي تمكنها من حشد أوروبا للتسلح مرة أخرى في مواجهة الجيران المهددين.
فدائما ما يكون الناس أكثر استعدادا للقتال من أجل بلدهم، وتاريخهم، وأرضهم، وهويتهم الدينية المشتركة من الدفاع عن كيان إقليمي مجرد تم إنشاؤه بالأمر.
ومن جهة أخرى، لا يجب أن تدفع الدول القومية أوروبا إلى العودة إلى المزيج الفوضوي من الحكومات المتنازعة. ولن تمنع زيادة الاستقلال دول أوروبا من التجارة أو التفاوض مع بعضها البعض. وكما أن القوميات الكبرى لا تضمن التناغم بين الدول فإن السيادة لا تعني العداء بينها أيضا.
وفي أوروبا التي تتضمن مجموعة من الدول القومية، سوف تستمر البلدان في تشكيل تحالفات تعتمد على المصالح المشتركة والمخاوف الأمنية. وقد فعلت بعض الدول ذلك بالفعل إثر إدراكها ضعف الاتحاد الأوروبي، فعلى سبيل المثال، انضمت جمهورية التشيك، وهنغاريا، وبولندا إلى القوى التي تعارض خطط الاتحاد الأوروبي التي يمكن أن تجبرهم على قبول الآلاف من اللاجئين.
ومن جانبها، فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى شريك أفضل في أوروبا من الاتحاد الأوروبي. وذلك إذ إنه إذا ما انحل الاتحاد، سوف تتزايد قدرة حلف شمال الأطلسي على الحفاظ على الاستقرار ومواجهة التهديدات الخارجية وتعزيز دور واشنطن في المنطقة. ودون الاتحاد الأوروبي، سوف تميل كثير من الدول الأوروبية التي تتعرض لتهديد روسيا وتئن تحت وطأة الهجرات الجماعية إلى زيادة استثماراتها في حلف شمال الأطلسي، وهو التحالف الأمني الوحيد الذي لديه قوة وقادر على حماية أعضائه.
وحان الوقت بالنسبة لزعماء الولايات المتحدة والنخبة السياسية الأوروبية إلى الإقرار بأن العودة إلى الدول القومية في أوروبا لا يجب أن يتحول إلى مشهد مأساوي. بل على العكس، سوف تتمكن أوروبا من التعامل مع أكثر التحديات الأمنية التي تواجهها عندما تتخلى عن فانتازيا الوحدة القارية وتحتفي بالتعددية الجيوسياسية.
* جاكوب جريجيل، زميل الباحثين بمركز تحليل السياسات الأوروبية