الغاية تبرر الوسيلة، المبدأ الذي تحدث عنه الفيلسوف الإيطالي نيكولا مكيافيلي في القرن السادس عشر، فاعتبر أن الإنسان باستطاعته أن يستخدم الوسيلة التي يريدها أيا كانت وكيفما كانت للوصول لهدفه. مبدأ يعارضه الكثيرون من منطلق أخلاقي بحت، فكيف عندما تكون كل من الغاية والوسيلة إجراميين ولا أخلاقيين وأكثر؟
ومما يزيد الأمر صعوبة عندما يختلط الحق بالباطل وتمحي الحدود الفاصلة بين الشك واليقين، كما هي في كثير من الحالات التي واجهتها منطقتنا، وذلك عندما يرتكب الفعل طرف ثم ينسبه لطرف آخر ليظهره أكثر شرا منه، وللأسف حدث هذا في سوريا والعراق ولبنان بشكل كبير حيث لم يعد أي شيء قابلا للتصديق وكل شيء يمكن أن يصدق.
في العراق برزت ظاهرة الأطفال الانتحاريين، حين قام تنظيم القاعدة بتجنيد الأطفال بأعماله الإرهابية بدءا من تدريبهم على المراقبة، وجمع المعلومات ونقل الرسائل بين المسلحين، مرورا بزرع العبوات الناسفة والمشاركة في عمليات القتل، وصولا إلى تنفيذ عمليات انتحارية، وأطلقوا على التنظيم اسم «طيور الجنة». ففي عام 2005 فجر طفل نفسه أو فجروه عن بعد مستهدفا قائد شرطة كركوك، لتكر السبحة بعد ذلك.
وفي سجل العراق الحافل بالعمليات الإرهابية مثلا عملية نفذها طفل وهو تحت تأثير المخدر، وعملية أخرى نفذها طفل يعاني من اختلال عقلي، وطفل آخر يعاني من متلازمة داون، كان يتم تزنير الأطفال بأحزمة ناسفة وإرسالهم إلى مكان تواجد الهدف، وتفجيرهم إما عن بُعد وإما أن يكون الحزام الناسف معدا مسبقا للانفجار بتوقيت محدد.
هل يمكن أن يخطر على بال إنسان سوي وعاقل شيء أقذر من هكذا غاية وهكذا وسيلة؟ وأيا كان المسؤول عن هذه الأعمال القذرة سواء القاعدة وأخواتها أو تنظيمات أخرى، فإنني وبعد الكشف عن ظاهرة «طيور الجنة»وكيف تم استغلال الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، ظننت أن البند الأول بأي مشروع لمحاربة الإرهاب سيكون بتأمين التعليم اللازم للأطفال وإعطائهم الحق باكتشاف الحياة بدل حشو دماغهم بأفكار عن الموت والانتقام.
في العام 2005 أيضا، أذكر أن أحدا كان يبيع في شوارع بيروت مجلات للأطفال دعما لأبناء الشهداء، لم أسأل أي شهداء ولم أنظر حتى إلى اسم المدارس عندما اشتريت عددا وضعته في حقيبتي وتابعت طريقي، بعدها بأيام تذكرت المجلة فرحت اتصفحها، كان هناك سؤال موجه لأطفال تتراوح أعمارهم بين الخامسة والسادسة عشرة عن أحلامهم وطموحاتهم للمستقبل، أذكر صدمتي ودهشتي عندما قرأت جوابا لأحد الأطفال بعمر سبع سنوات عما يريد أن يكون بالمستقبل، كان جوابه «الاستشهاد على خطى الحسين»، لم أصدق ما أقرأ، هل يعرف هذا الطفل معنى الحياة أولا ليدرك معنى الموت والشهادة؟ كيف كان هذا الشيء يعلم لأطفال ويطبع ويتم تسويقه دون أي رقابة؟ طبعا لا داعي لذكر أن هذه المدارس تابعة لحزب الله، الوجه الآخر للقاعدة.
قبل أيام انتشر فيديو لطالبات في مدرسة المسجد الأحمر في العاصمة الباكستانية إسلام آباد، يتدربن على رأس دمية معلقة على خشبة عن كيفية قطع الرأس بالسيف للمتهمين بالتجديف، ويتزامن قطع رأس الدمية مع تصفيق وتهليل من باقي الطلاب والمعلمات بعد نجاح المهمة.
في سوريا وفوق المآسي التي يعانيها السوريون من قتل وتهجير وتعذيب، هناك في مخيم الهول في شمال شرقي سوريا عشرات آلاف المحتجزين أكثر من 80 في المائة منهم من النساء والأطفال، هم نازحون سوريون وعراقيون وعائلات مقاتلي داعش، محتجزون سويا منذ سنين في المخيم الذي يقع تحت سيطرة الإدارة الذاتية الكردية، ويعيشون في ظروف يرثى لها.
ترفض معظم الدول استعادة مواطنيها من المخيم، فبعضهن نساء أتين من أصقاع الأرض للانضمام لأزواجهن المنتسبين لداعش وبعضهن أتين للانتساب لداعش أو للزواج من داعشي، أطفال كبرن بالمخيم وآخرون ولدوا هناك. مبرر هذه الدول هو الخوف من أن ينفذ أفراد عائلات داعش العائدون هجمات إرهابية داخل وطنهم الأم. متجاهلين إمكانية محاكمة المرتكبات منهن وإعادة تأهيل من لم يرتكبن أي جريمة بدل تركهن في المخيم ليتحول الأطفال إلى متطرفين إن لم يكن بسبب الظروف التي يعيشون بها داخل المخيم فبسبب إفساح المجال لداعش عن طريق بعض عناصرها لإعادة تلقين الأطفال عقيدة التنظيم.
عندما اشتد الخناق على القاعدة في العراق استخدمت استراتيجية «طيور الجنة»فحولت أجساد الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة إلى قنابل موقوتة فجرتها عن بُعد، اليوم في مخيم الهول وكأن المجتمع الدولي هو من يقول لتنظيم داعش الإرهابي أن يقوم بما قامت به القاعدة ولكن هذه المرة على نطاق أوسع.
عندما زار عضو البرلمان البلجيكي جورج دلماني، مخيمي «الهول» و«روج»قبل عام، خرج بانطباع أن ما «يسود داخل المخيّم هو شعور بأن ما حصل هو خسارة للمعركة وأن الحرب لم تنته، وأنه لا بدّ من خلق جيل جديد من المقاتلين الجهاديين». فهل يدرك العالم الذي حول المخيم إلى سجن أنهم أعطوا داعش مساحة لتخريج جيل جديد من الإرهابيين وقاطعي الرؤوس؟ ألم يسمعوا الطفل الذي ألقى الحجارة على مراسلي «أسوشييتد برس»وصرخ: «سوف نقتلكم لأنكم كافرون.. أنتم أعداء الله. نحن الدولة الإسلامية. أنتم شياطين وسوف أقتلكم بسكين. سوف أفجركم بقنبلة».
ألم تعرف أجهزة المخابرات العالمية المختصة بمحاربة الإرهاب كيف اعترف مراهق لأحد المراسلين كيف قتل أحد أصدقائه في المخيم لأنه كان «يحارب ضد دين الله».
في العام 2015. كتب الخبير في المجموعات الإسلامية المتطرفة ويل ماكنتس عن المخيم السجن: «إذا لم يكونوا جهاديين عند وصولهم، فقد أصبح الكثير منهم كذلك».
ما ينطبق على سجون النظام السوري التي حولها يوما ما إلى مصنع لصناعة المتطرفين وإرسالهم مرة إلى العراق ولاحقا محاربة الثورة السورية بهم، وما ينطبق على السجون العراقية التي وباعترافات بعض أفراد القاعدة وداعش كيف تم تجنيدهم داخل السجن، يصح اليوم على مخيم الهول، مع فارق أساسي أن هناك أطفالا يمكن إنقاذهم ويجب إنقاذهم، ومحاربة الإرهاب والفكر المتطرف تبدأ مع نشأة الإنسان، فما فعلته القاعدة في العراق، ويفعله حزب الله في لبنان، وطالبان في أفغانستان وباكستان، يسمح اليوم لداعش بالقيام به وأبشع بمخيم الهول.