في ديسمبر (كانون الأول) عام 2011، أصدرت محكمة جزئية في مانهاتن حكما تاريخيا يعكس حقائق جديدة بشأن تقديم إيران الدعم لـ«القاعدة» في هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). أصدر القاضي جورج بي دانيالز حكما بأن إيران و«حزب الله» قدما دعما ماديا وبصفة مباشرة إلى تنظيم القاعدة في أحداث 11 سبتمبر عام 2001، وأنهما مسؤولان قانونيا عن الأضرار التي لحقت بأسر ضحايا 11 سبتمبر المدعين في القضية. كشفت صحيفة «الشرق الأوسط»، التي نشرت وثائق المحكمة الأميركية، أن محكمة نيويورك الجزئية أصدرت حكما على إيران بسداد أكثر من 10.5 مليار دولار تعويضات لعائلات الضحايا الذين قتلوا في الهجمات ولمجموعة من شركات التأمين.
يبدو أن إيران و«حزب الله» لم يكتفيا بتقديم المساعدة على سفر الإرهابيين منفذي هجمات 11-9 عبر إيران لحضور معسكرات تدريبية إرهابية أفغانية، بل سافرت عناصر من «حزب الله» مع منفذي 11-9 من وإلى لبنان ومن وإلى إيران بعد أن حصل المنفذون ذاتهم على تأشيرات لزيارة الولايات المتحدة.
كشفت المحاكمة أيضا أن بن لادن وأيمن الظواهري وقيادي «حزب الله» عماد مغنية - الذي تم اغتياله في عام 2008 - وملاحق إيرانيين آخرين اجتمعوا في السودان لإقامة تحالف لدعم الإرهاب. ورفض القاضي ذاته أيضا طلبا من عائلات الضحايا لإلزام المملكة العربية السعودية بدفع تعويضات، قائلا إنه لا يوجد دليل على أن المملكة مولت الهجمات.
ذكرت الدعوى القضائية تفاصيل 274 واقعة تدل على دور إيران المزعوم في تمويل الإرهاب والتعاون مع منظمات إرهابية مثل «القاعدة». على سبيل المثال، تورطت إيران و«حزب الله» في مساعي لتدريب أفراد من القاعدة على تفجير مباني كبيرة. وأسفر ذلك التدريب عن تفجير أبراج الخُبر في السعودية في عام 1996، وتفجير سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا في عام 1998، وتفجير المدمرة يو إس إس كول في عام 2000.
وهكذا لا تعد الصلات بين إيران والتنظيمات الإرهابية جديدة أو مفاجئة، ودائما ما كانت الولايات المتحدة تراقب تلك العلاقات وتبرز الصلات التي تجمع بينهما. لماذا إذًا لم تكن تلك المسألة محل نقاش أو عامل يوضع في الاعتبار عندما كانت الإدارة الأميركية تتفاوض مع الحكومة الإيرانية على الاتفاق النووي الإيراني؟ ولماذا تجنب الإعلام والمحللون الأميركيون عامة ذكر وجود صلات تجمع بين القاعدة وإيران عندما كان الاتفاق مع إيران يتصدر عناوين الأخبار، أو حتى عندما اشتعل الصراع ضد الإرهاب الإسلامي في سوريا والعراق؟
تكمن الإجابة عن هذين السؤالين في الافتراض الكامل لدى الحكومة الأميركية بأنه من الممكن احتواء إيران عن طريق عقد اتفاق نووي معها. وتأتي أيضا في الاعتقاد بأن إيران تمثل الإسلام الأكثر «اعتدالا» والذي يمكن أن يساعد بالفعل على محاربة الإرهاب في المنطقة. ظهر مثل ذلك التنسيق في العراق. ففي سبتمبر عام 2015، ذكرت «نيويورك تايمز» أن الولايات المتحدة وميليشيات مدعومة من إيران تشتركان في قاعدة عسكرية.
مشكلة هذين الافتراضين هي أن إيران كانت وسوف تظل دائما تستخدم وتستغل جميع الجماعات المتطرفة في العالم إذا كان ذلك يخدم مصالحها. حدث ذلك مرات كثيرة في ماضي ليس ببعيد.
في فبراير (شباط) عام 2012، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية أن وزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية «تدعم تنظيمات إرهابية مثل القاعدة والقاعدة في العراق.. مما يكشف عن مدى رعاية إيران للإرهاب كأحد شؤون سياسة الدولة».
في عام 2013، كشف مسؤولون أميركيون أن سليمان أبو غيث زوج ابنة أسامة بن لادن، الذي تم إلقاء القبض عليه في تركيا، أمضى نحو عشرة أعوام في إيران، فيما يشبه الاحتجاز.
بعد ذلك في عام 2015، أعلن البنتاغون أن محسن الفضلي، عنصر «القاعدة» الذي كان مطلوبا منذ أكثر من عشرة أعوام، قُتل في غارة جوية في سوريا. وقبل انتقاله إلى سوريا، كان الفضلي يقود شبكة «القاعدة» في إيران. وكانت وزارة الخزانة قد كشفت بالفعل عن تلك الحقيقة في إعلانها عن التنظيمات الإرهابية الصادر في 18 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2012، ووفقا لوزارة الخزانة: «بدأ الفضلي العمل مع شبكة تسهيلات تابعة للقاعدة ومقرها في إيران في عام 2009، وتم اعتقاله في على يد الإيرانيين لاحقا». ولكن «أفرج عنه الإيرانيون في عام 2011، وذهب لتولي قيادة شبكة التسهيلات».
من الواضح أنه كان هناك اتفاق بين إيران و«القاعدة» على أنشطة الفضلي، التي تطلبت تقديم القاعدة تقارير إلى النظام. «بموجب شروط اتفاق بين القاعدة وإيران، يجب أن يمتنع تنظيم القاعدة عن تنفيذ أي عمليات داخل أراض إيرانية وتجنيد عناصر داخل إيران مع إبقاء السلطات الإيرانية على علم بأنشطتهم. وأورد بيان وزارة الخزانة أنه (في مقابل) الموافقة على شروط إيران، منحت الحكومة الإيرانية لشبكة القاعدة المقامة في إيران حرية العمل وقدرة غير مقيدة على انتقال المتطرفين وعائلاتهم».
كانت الوقائع المذكورة آنفا مجرد عدد من المواقف التي تشير إلى وجود تنسيق متكرر بين إيران والقاعدة، وإلى أيضا تمتع القاعدة بملاذ آمن في إيران، وإن كان بشروط. ليست لدينا مؤشرات كبيرة على وجود ذلك التعاون بعد عام 2015، ولكنه لا يعني أن إيران قطعت صلاتها بـ«القاعدة»، إذ لا يوجد دليل على ذلك.
في الوقت ذاته، بينما تستمر إيران في رفضها لدفع التعويضات لعائلات ضحايا 11-9، وقَّعت الولايات المتحدة وإيران الاتفاق النووي الإيراني التاريخي الذي سوف يقوي الاقتصاد الإيراني بعد رفع العقوبات، بل وسيمنحها ضوءا أخضر لفعل كل ما تريد في المنطقة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغيرها. لم يتم تناول ذلك الأمر أثناء المناقشات السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة التي دارت حول الاتفاق النووي مع إيران، رغم أن وجود القاعدة على الأراضي الإيرانية كان من الممكن أن يعترض صورة العالم بعد إبرام الاتفاق الذي افترض أن إيران ستنضم إلى المساعي الدبلوماسية الدولية وتتوقف عن العمليات الإرهابية في المنطقة.
حتى بعد الحكم الذي أصدرته محكمة مانهاتن، والذي كشف عن مساعدة إيران للقاعدة في هجمات 11-9، لم تقم الإدارة بما يكفي للبحث في تلك العلاقات أو تقديم أدلة على استمرارها من عدمه. اعترفت لجنة التحقيق في أحداث 11-9 في حينها بأن الكثير من المختطفين انتقلوا عبر إيران، وأن الجهادي خالد شيخ محمد الذي دبر عملية الطائرات، اختبأ هو وأسرته في إيران لمدة أعوام. وبدلا من إجراء مزيد من التحقيقات، مضى الرئيس أوباما قدما في الاتفاق الإيراني، مصرا على أنه جزء من إعادة ترتيب الأوضاع الأمنية في الخليج.
بالطبع ذلك ليس إهمالا بسيطا. سوف تُعَرِّض أي محاولة لتحميل إيران مسؤولية هجمات 11-9، أو حتى البحث فيها: «إرث» أوباما في عقد الاتفاقية للخطر. ورغم جميع الأدلة والحقائق، كان القرار بعدم إجراء مزيد من البحث في الأمر سياسيا. وكان الاتفاق النووي ذا أولوية، بينما يمكن تأجيل كل شيء آخر.
الآن بعد أن تم الاتفاق، ولا يزال مسموحا لإيران بارتكاب مجازر مروعة في سوريا وغيرها عبر وكلائها أمثال «حزب الله» والحوثيين والحشد الشعبي، يبدو أن المسألة بالنسبة لهذه الإدارة تتجاوز الاتفاق الإيراني عندما يتعلق الأمر بإيران والمنطقة. في لقاء مع جيفري غولدبيرغ في مطلع العام الحالي، أشار أوباما إلى أن إلى الاتفاق الإيراني كان في الأساس لجعل دولة خطيرة أقل خطورة. ولكن لننظر إلى الحقائق ونرى إذا أصبحت إيران بالفعل أقل خطورة.
بعد الاتفاق، عززت إيران سيطرتها على لبنان والعراق، كما يظل مسموحا لها بحصار بلدة في سوريا والتسبب في حدوث مجاعة وإجبار الأهالي على الخروج من بيوتهم وقراهم. بضوء أخضر واضح جدا من الغرب والأمم المتحدة وروسيا، ترسل إيران مقاتلين شيعة أجانب من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان وحيثما تستدعي الحاجة، لتقوي سيطرتها على «سوريا المفيدة» - التي تعد ممرا ممتدا من الساحل عبر حمص ودمشق والقلمون وحتى الحدود اللبنانية.
ولكن هؤلاء المقاتلين الأجانب، الذين ينفذون المجازر ذاتها التي ترتكبها تنظيمات إرهابية أخرى في سوريا والعراق، يبدو أنهم لا يمثلون مشكلة لأميركا. في الوقت ذاته، أصبح المتشددون في إيران أكثر حدة في خطابهم، وأكثر سيطرة ووحشية في سياساتهم وسلوكهم داخليا وإقليميا.
لم تصبح إيران أقل خطرا. على النقيض، إنها قوة أكثر خطورة في المنطقة، حيث أصبح لديها أكبر عدد من الميليشيات تحت سيطرتها. هل اختفى البرنامج النووي؟ بالقطع لا. إنه متوقف فقط. على أي حال لم يكن البرنامج النووي مطلقا هدفا لإيران. بل كان وسيلة للوصول إلى السيطرة الإقليمية وهذا بالتحديد ما حققته إيران.
السؤال الآن هو: هل حان الوقت لتحميل إيران مسؤولية إرهابها ومساعدتها للإرهابيين؟ عندما تبدأ إيران في رؤية تبعات مساعدتها للإرهابيين ومجازرها في المنطقة وجرائمها ضد الإنسانية عامة، ربما تبدأ في إدراك محدودية مطامعها غير الواقعية. عندما تبدأ إيران في تسديد ثمن جرائمها، ربما يتحقق التغيير الداخلي بالفعل. ولكن إعطاء إيران حرية التصرف في المنطقة لن يتسبب في إضعاف متشددي إيران. وإذا فازوا بالمنطقة، سيفوزون بكل شيء، ولن يجعل ذلك إيران أقل خطورة.