جدة: تختبر السعودية تحولاً ثقافياً متواصلاً منذ تغير النظرة إلى الثقافة من مجرد جزء من وزارة الإعلام، إلى وزارة مستقلة عام 2018. ويمثل التحول إعادة تموضع للثقافة السعودية لتأخذ مداها الواسع عبر إعادة هيكلة الوزارة وجعلها مظلة رئيسية لمجموعة من الهيئات المعنية بالفنون والتراث والكتب والنشر وغيرها، وصولاً إلى تحديد موقعها الجديد في ظل ورشة التجديد الوطنية المستمرة.
وينفرد الاستثمار الثقافي بأنه يسير في اتجاهين، تحقيق الربحية وتعزيز الرصيد الثقافي والمعنوي للبلاد والسمعة الإبداعية الحسنة، وكلها تشكل صلب القوة السعودية الناعمة، ذات التأثير طويل الأمد مع إحياء الطاقات الثقافية في 16 قطاعاً، يرعاها صندوق حديث التأسيس تحت اسم «صندوق التنمية الثقافي» برأسمال نصف مليار ريال (133 مليون دولار).
لكن القوة الدافعة الحقيقية لنمو الثقافة هو في تحويلها إلى خدمة أو منتج، يمكن صناعته وإبداعه وتسويقه وعرضه واستهلاكه ونقده واستقطاب جمهور/ قاعدة مستهلكين.
كيف يأخذ الاستثمار الثقافي السعودي موقعه على خريطة الاستثمار بواسطة الصندوق الجديد؟ وما شروط النجاح؟ ولماذا يقتصر الصندوق على تمويل المشاريع للمنشآت والمؤسسات والجمعيات؛ دون الأفراد؟
تحرير الثقافة السعودية
تقترن كلمة الاستثمار بالحرية التجارية والحركية الدائمة لتوسيع الأسواق وزيادة الأرباح. وبالتوازي مع ذلك، ينبغي تحرير الثقافة السعودية عبر استنهاض الطاقات الخلاقة وفتح المجالات أمام صناع الثقافة من مؤلفين وناشرين ونقاد وموسيقيين وممثلين ومسرحيين ومترجمين وغيرهم لإطلاق محتوى/ منتج ثقافي، يصنع قيمة مضافة، مادية ومعنوية، ويتم تداوله على نطاق واسع لتعظيم الأثر.
ويرتبط ذلك التحرير بتوفير بنية ثقافية فوقية وتحتية، تسهل عمليات استقطاب الأفكار الاستثمارية الأكثر جاذبية للربح، فالصندوق وجد ليوفر برامج تمويلية، داخلية وخارجية، ويزيد من الأثر المباشر وغير المباشر للاستثمارات والأرباح. ويتضمن ذلك إتاحة المزيد من وسائل التعبير عن الثقافة والنشاطات الثقافية المستقطبة للمواهب.
عقد الصندوق تفاهمات لتمويل المشاريع الثقافية عبر طرق غير تقليدية، مثل تمويل الملكية الجماعية (crowdfunding)، إلى جانب الأموال التي يضخها الصندوق في برامج محددة، كان أولها برنامج تحفيز المشاريع الثقافية بقيمة 181 مليون ريال (48.3 مليون دولار). وتتضمن القطاعات القابلة للتمويل صناعة المحتوى الثقافي ونشره وإنتاج الأفلام والترميم والمحافظة على التراث والآثار، إلى جانب التعليم والتدريب والإقامات الفنية والتحول الرقمي وتسويق الأعمال الثقافية، وغير ذلك من القطاعات.
فمثلاً، عندما تجد منشأة صغيرة لديها ما تقدمه في الإنتاج السينمائي تمويلاً لإنتاج أفلام أو مواد وثائقية، فإن ذلك يدفعها للانطلاق والإنتاج في حال وجود أفكار كبرى. وفي التاريخ القريب، هناك تجارب سعودية خلاقة، بأفكار كبرى، تمكنت بسهولة من إيجاد موقع لها على أكبر منصات البث التدفقي في مجال الرسوم المتحركة والأفلام السينمائية. كلها كانت تجارب لبدايات خجولة، كبرت ونالت نصيبها من المال والشهرة والانتشار الواسع، وهي أحد مظاهر التحرير الثقافي في البلاد، وإطلاع الداخل والعالم على النتاج الثقافي بكافة أشكاله.
ومن أمثلة التحرير الثقافي، اتساع عدد المتاحف العامة والخاصة، وتشجيع مبادرات المتاحف الخاصة، التي صارت مقصداً سياحياً ضمن جولات الرحالة والسياح. كما أنتج أكثر من 100 فيلم سعودي عام 2019 وحده.
الاقتصار على الاستثمار المؤسسي
التمويل والشراكات كلها عقود مع كيانات ذات صفة اعتبارية. يعتمد صندوق التنمية الثقافية على مؤسسات القطاع الخاص والمؤسسات والجمعيات الأهلية في شراكات الاستثمار، ولا يمول الأفراد. ويرجع ذلك إلى أن الاستثمار المؤسسي يحتاج إلى كيانات، لها ارتباطاتها القانونية والمالية وهويتها التجارية.
فإذا أراد فنان أو مترجم أو مسرحي أو مصمم أزياء شعبية أو حديثة الحصول على تمويل، فينبغي أن يكون ذلك عبر منشأة ودراسات جدوى أو توسعة لمنشأة قائمة. ويركز الصندوق على تنمية المنشآت الصغيرة والمتوسطة في القطاع الثقافي، فيما يبدو أن التعويل المستقبلي هو على تلك المنشآت، القادرة على النمو بأفكار مضمونة الجدوى.
ويركز الاستثمار المؤسسي على الجدية والدراسة المستفيضة للجدوى والحس العالي للمسؤولية، إلى جانب جعل القطاع الثقافي أعلى وزناً في الناتج الإجمالي المحلي. فلو نظرنا، مثلاً، إلى السينما الأميركية، لوجدنا أنها صناعة تقودها المؤسسات الكبرى، وليس الأفراد، فيما تجمع تلك المؤسسات تحت مظلتها أفضل المؤلفين والممثلين والمخرجين... إلخ.
أعداد وأرقام
لا يزال صندوق التنمية الثقافية حديث العهد، فقد مضى على تأسيسه أقل من عام. وفي لقاء أجري مؤخراً أعلن محمد بن عبد الرحمن بن دايل، الرئيس التنفيذي للصندوق، وهو رجل ذو خبرة استثمارية، أعلن أنه جرت الموافقة على تمويل 3 مشاريع بقيمة 15 مليون ريال (4 ملايين دولار)، فيما تجري حالياً دراسة نحو 50 مشروعاً بطلبات تمويلية بقيمة 300 مليون ريال (80 مليون دولار).
لم يصدر التقرير السنوي لمعرفة العدد النهائي للمتمولين والذين ينتظرون دراسة الجدوى، إلا أن الإقبال يبدو كبيراً، وأن هناك تنافساً حاداً على تقديم الأفكار. إن فقر الأفكار في وقت يتوفر فيه التمويل أمر لا يجب أن يحدث أبداً. فالثقافة مصدر إلهام متواصل، ينبض بالأفكار الكبرى.
يشكل صندوق التنمية الثقافية أحد أذرع صندوق التنمية الوطني، الذي تأسس أواخر عام 2017 ليضم جميع الصناديق الحكومية وبعض المؤسسات المالية تحت مظلة واحدة.
إن ازدهار مشاريع الاستثمار الثقافي رافعة للقوة السعودية الناعمة، التي تبشر بتمكين الإبداع الثقافي، وزيادة التأثير المحلي والإقليمي والعالمي من بوابة الثقافة والفنون.