ورثت الفيدرالية الروسية عن الاتحاد السوفياتي المنهار في مطلع تسعينات القرن الماضي اهتمامه الكبير، بالقضايا العربية سواء على مستوى العلاقات الثنائية مع الدول العربية منفردة، أو على مستوى المنطقة ككل بما تعرفه من تشابك وتفاعل في العلاقات البينية العربية، وفي الجوار الإقليمي أيضا. فموسكو في العهد الجديد بادرت هي الأخرى إلى تقديم الدعم عندما طلب منها، ولم تتردد في التدخل حماية لمصالحها حين وجدت الفرصة سانحة.
ولم تتميز روسيا الجديدة عن سلفها السوفياتي إلا بالابتعاد عن بناء المواقف على أساس منطق الحرب الباردة وانتماء أطراف القضية أو بعضهم لمعسكرها أو للمعسكر المناوئ لها، وكذا عن الاعتبارات الآيديولوجية التي فرضت على الكرملين مناصرة القوى الشيوعية، ومحاباة الدول الاشتراكية التوجه ذات نظام الحزب الواحد أو الحزب القائد، القريبة النهج من المعسكر السوفياتي والزبون الرئيسي لمصانع أسلحته.
ورغم أن العلاقات العربية السوفياتية لم تعان من مشاكل استعمارية، وما تولده من عقد تاريخية، وأن الكرملين في ثوبه الشيوعي حافظ على علاقات عادية ولو في الحد الأدنى مع مختلف الأنظمة العربية بما فيها تلك التي كان يصنفها في خانة الموالاة للمعسكر الغربي؛ إلا أن هواجس التخوف والتوجس كانت موجودة بين الطرفين، وخاصة لدى الدول العربية التي كانت تنشط فيها رسميا أو سريا تيارات شيوعية، والتي ظلت تستحضر طويلا الدعم السوفياتي لحركة تحرير ظفار إبان سعيها للانقلاب على النظام في مسقط، وللنظام الانفصالي في اليمن الجنوبي.
ونظرا لغياب ماضٍ استعماري، فإن موسكو بمجرد إزاحة عبء الحقبة السوفياتية عن كاهلها لم تجد صعوبة في الانفتاح على عواصم عربية كانت أبوابها موصدة أمامها من قبل، وفي تطوير علاقات متنوعة وكثيفة مع معظم الأقطار العربية. وقد وجدت تجاوبا عربيا كبيرا بعد أن أقنعت الجميع بأنها لم تعد تكترث في علاقاتها لطبيعة التوجهات السياسية والاقتصادية لتلك الأقطار، وأنها تفضل استقرار العلاقات مع الأنظمة القائمة، التي تريدها أن تكون مستقرة هي أيضا.
ولهذا بدأ تأسيس منتدى التعاون العربي الروسي سنة 2009 ليس فقط تتويجا للانفتاح المتبادل، وإنما تأكيد لرغبة مشتركة لدى الطرفين في تعزيز تعاونهما وتوسيع مجالاته. كان الطموح كبيرا حينها والآفاق واعدة، ولكن اندلاع أحداث الربيع العربي جعل مسار التقارب بين موسكو وبعض الدول يتباطأ، مفسحا المجال لتجدد هواجس التخوف والارتياب.
ويعود ذلك إلى بروز تباين وتضارب في المواقف الروسية إزاء ظاهرة الربيع العربي وما عرفته من تطورات في بعض الساحات مع مواقف لبعض الدول العربية، التي اضطرت إلى الانكفاء على نفسها للتعامل مع هذا الزائر الثقيل داخلها أو في جوارها كل واحدة بطريقتها الخاصة، وحسب خصوصيات مجتمعها وإمكانياتها.
ظلت موسكو تتابع بتحفظ شديد وبحذر كبير أنباء انتشار الاحتجاجات، معتبرة أن اندلاعها في دول صديقة لها وكثيفة التعامل معها لم يكن عفويا، وإنما مؤامرة مدبرة تستهدف إثارة الفوضى لـتحجيم نفوذ روسيا وتطويقها من خاصرتها الجنوبية عند الامتداد المتوسطي لمنفذها البحري الحيوي من جهة البحر الأسود، معتقدة أن الخطوة استكمال للحصار الذي تعاني منه منذ الثورات الملونة في دول نفوذها السابق بأوروبا الشرقية، الملتحقة بحلف الشمال الأطلسي.
إن هذا الاعتقاد الجازم قاد موسكو إلى استخدام ثقلها الدبلوماسي والعسكري لدعم حلفائها في المنطقة كالنظام السوري، ولمساندة الجهود الإيرانية التي كانت تصب في ذات الاتجاه سواء في سوريا أو اليمن؛ الأمر الذي انعكس في شكل سوء تفاهم لروسيا مع بعض الدول العربية، لا سيما تلك التي انغمست في أتون الحرب الأهلية المندلعة في سوريا، وتلك التي بادرت إلى دعم الشرعية في اليمن بعد الانقلاب الحوثي.
ولا غرابة في انعكاس سوء التفاهم هذا سلبا على مستقبل منتدى التعاون العربي الروسي، الذي جمدت اجتماعاته لمدة خمس سنوات، ولم يعقد دورته الثانية إلا سنة 2014 في السودان. وقد طغت على أشغالها المواضيع السياسية المحض، إذ استأثرت بالمناقشات كما اتضح من البيان الختامي مواضيع مكافحة الإرهاب والحد من انتشار الأسلحة النووية، والمخارج الممكنة لأزمات المنطقة.
ولم تشذ كل من الدورة الثالثة في موسكو 2016. والدورة الرابعة في أبوظبي 2017 عن قاعدة تكريس أولوية القضايا السياسية، التي بدأت تتبلور حولها بعض ملامح التقارب في المواقف والرؤى من قبيل التأكيد على دعم الطرفين للحلول السياسية وفق القرارات الدولية، وليس الحسم العسكري لتسوية كل أزمات المنطقة بما في ذلك الأزمة السورية التي تدخلت فيها موسكو بثقل عسكري واضح منذ سنة 2015 لفائدة نظام دمشق.
إن انتظام اجتماعات المنتدى بانعقاد الدورة الخامسة في روسيا 2019. ونجاح موسكو نسبيا في إقناع الجانب العربي بأن مقاربتها لأزمات المنطقة تقوم على أساس احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية ورفض تغيير الأنظمة بالقوة، وليس بحثا عن توسيع نفوذ أو إحداث استقطاب حاد وخلق محاور متعارضة في المنطقة ساعد على خلق مناخ مقبول من الثقة بين الطرفين جعلهما ينتقلان إلى مناقشة قضايا التعاون الاستراتيجي الشامل
ولا شك أن الاستمرار في تقريب المواقف بين الطرفين سيضاعف من تبديد مخاوفهما المتبادلة، وهذا ما ينتظر من أشغال الدورة السادسة لمنتدى التعاون المرتقب انعقادها في مراكش منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) 2021. التي ستكرس معظم نشاطها للتعاون التجاري والاقتصادي والثقافي والعلمي والتكنولوجي، فالطرفان معا في حاجة لبعضهما البعض في عالم يتأهب لتعدد الأقطاب بعد أن أصبحت سيادة القطب الواحد متجاوزة.