يواصل ألكسندر لوكاشينكو، الذي نصب نفسه «آخر ديكتاتور أوروبي»، عداوته المستمرة مع الاتحاد الأوروبي. دبر لوكاشينكو تدفقا غير مسبوق للاجئين على الحدود مع ليتوانيا وبولندا. يصف زعماء الاتحاد الأوروبي جهوده بأنها شكل من أشكال الحرب المختلطة. وفي هذه الأزمة، يتم استخدام البشر كبيادق في لعبة الشطرنج. لكن لوكاشينكو ليس غريباً على هذه الطريقة- فلديه سجل طويل في انتهاك حقوق شعبه. لكن هذه المرة ليس لوكاشينكو وحده هو الذي يتعامل مع حياة البشر كأدوات ملائمة للحرب الهجينة، إنما هي اختبار للقيم الأوروبية والالتزام بحقوق الإنسان حيث تواجه الدول المجاورة لبيلاروسيا معضلة مزعجة تتمثل في طوفان من اللاجئين.
انتخابات 2020: نقطة تحول بالنسبة لـ«لوكاشينكو»
لوكاشينكو هو الرئيس الوحيد الذي عرفته بيلاروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي- حكم البلاد التي يبلغ عدد سكانها تسعة ملايين نسمة لأكثر من 27 عامًا حتى الآن. كما تمكن من التمسك بالسلطة من خلال تحويل بيلاروسيا إلى نظام استبدادي تنافسي؛ حيث يجري انتخابات صورية ويمنح نفسه انتصارات ساحقة في كل مرة. وفي عام 2020 فاز في الانتخابات الرئاسية بنسبة هائلة بلغت 80 في المائة من الأصوات.
على مدى السنوات الأخيرة، أصبحت قوى المعارضة المؤيدة للديمقراطية أقوى وأكثر صراحة في بيلاروسيا، لذلك كان على لوكاشينكو اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لسحق المعارضة. وبذلك، تحولت انتخابات 2020 إلى أزمة لم تنته بعد. حيث دعت قوى المعارضة، بقيادة المرشحة الرئاسية المعارضة، السيدة سفيتلانا تسيخانوسكايا، لوكاشينكو بشأن الانتخابات المزورة ونظمت احتجاجات حاشدة في بيلاروسيا. استمرت الاحتجاجات لأشهر للمطالبة باستقالة لوكاشينكو. ولأول مرة منذ سنوات، استخدم النظام القوة الوحشية المفرطة ضد المتظاهرين، وضرب واحتجز الآلاف، وعذب وقتل بعضهم. كانت هذه نقطة التحول في رئاسة لوكاشينكو، فقد اتخذ دائمًا إجراءات لإسكات المعارضة، لكن الفظائع التي ارتكبها خلال احتجاجات عام 2020 لم يسبق لها مثيل في بيلاروسيا.
أعلنت المعارضة سفياتلانا تسيخانوسكايا رئيسة بيلاروسيا المنتخبة بشكل شرعي، لكنها اضطرت إلى الفرار من البلاد لتجنب السجن. تم القبض على العديد من أعضاء فريقها ويقضون الآن أحكامًا طويلة في السجن. حصلت قوات المعارضة على دعم غربي كبير خلال الاحتجاجات، ووجدت تسيخانوسكايا ملاذًا في ليتوانيا، جارة بيلاروسيا والعضو في الاتحاد الأوروبي. وهناك، تم الترحيب بها من قبل جميع القادة الغربيين، حيث تسافر بانتظام إلى بروكسل وواشنطن، وتسعى للحصول على الدعم في سعيها لإسقاط لوكاشينكو. ومن ناحية أخرى، أدت الحملة القمعية الوحشية على المتظاهرين إلى تعرض لوكاشينكو للكثير من الانتقادات، إلى أن وصلت في النهاية لمجموعة من العقوبات الغربية. ووسط العزلة شبه الكاملة عن الغرب، يواصل لوكاشينكو الاعتماد على الدعم الروسي. وفي وقت سابق من هذا العام، أكملت روسيا وبيلاروسيا بنجاح تدريباتهما العسكرية المشتركة واسعة النطاق (زاباد 2021)، حيث تلقت بيلاروسيا قرضًا بقيمة 500 مليون دولار من موسكو.
في الذكرى السنوية الأولى لحملة القمع العنيفة على المعارضة، قدم كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مجموعة جديدة من العقوبات ضد بيلاروسيا. وأوضح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين أن العقوبات كانت استمرارًا للجهود الأميركية لمحاسبة نظام لوكاشينكو: «في الذكرى السنوية الأولى للانتخابات الرئاسية المزورة في بيلاروسيا، اتخذت حكومة الولايات المتحدة إجراءات حاسمة ضد أربعة وأربعين فردًا وكيانا من أجل محاسبة ألكسندر لوكاشينكو ونظامه على قمعه المستمر والعنيف للبيلاروسيين داخل وخارج البلاد. وهذه الخطوات هي نتيجة أخرى لاستمرار السلطات البيلاروسية في تجاهلها الصارخ لحقوق الإنسان وعدم امتثال بيلاروسيا لالتزاماتها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان.. سعى لوكاشينكو إلى ترسيخ قبضته على السلطة على حساب الشعب البيلاروسي. فأكثر من 600 سجين سياسي معتقل ظلما. كما تمت مداهمة وسائل الإعلام المستقلة وإغلاقها، وتحاول السلطات البيلاروسية إسكات المنظمات غير الحكومية والأعضاء الأساسيين في المجتمع المدني. وعلاوة على ذلك، لا يحدث هذا القمع فقط داخل حدود بيلاروسيا، حيث يواجه البيلاروسيون في الخارج أيضًا الترهيب».
تدبير أزمة اللاجئين
مع استمرار تدهور علاقة بيلاروسيا مع أوروبا، استمر لوكاشينكو في انتقاده. ففي مايو (أيار) 2021، رد على التهديد بفرض مزيد من العقوبات بقوله: «أوقفنا المخدرات والمهاجرين. الآن ستأكلونهم وتلتقطونهم بأنفسكم». وبعد فترة وجيزة، بدأت ليتوانيا وبولندا، العضوتان في الاتحاد الأوروبي، والجارتان لبيلاروسيا في الإبلاغ عن زيادة في عدد المهاجرين الذين يعبرون حدودها من بيلاروسيا. وبحلول نهاية أغسطس (آب)، قالت الحكومة الليتوانية إنها شاهدت أكثر من 4000 لاجئ يعبرون الحدود، أي ما يقرب من 50 ضعف العدد في العام السابق. وعلى الرغم من تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين على حدود ليتوانيا، فقد أعلنت البلاد حالة الطوارئ ورفضت حق اللجوء لهم جميعًا.
ألقى القادة الأوروبيون باللوم على لوكاشينكو في تنظيم أزمة اللاجئين من خلال جلب اللاجئين إلى بيلاروسيا مع وعد بمساعدتهم على العبور إلى الاتحاد الأوروبي عبر الحدود مع بولندا وليتوانيا. وبهذا، ضرب لوكاشينكو وترا حساسا. فقد كافحت أوروبا لسنوات عدة في إدارة موجات اللاجئين، مما أثار خطابًا شديدًا مناهضًا للاجئين في العديد من البلدان، بما في ذلك في بولندا والمجر حيث عادت النزعة المسيحية المحافظة وكراهية الأجانب بشكل كاسح. في عام 2015، استقبل الاتحاد الأوروبي ملايين اللاجئين من الشرق الأوسط، لكنه كاد يقضي على الاتحاد، لأن العديد من الدول الأعضاء، ولا سيما بولندا والمجر، لم تكن تريد أي علاقة باللاجئين. والآن الخطاب الصادر من الاتحاد الأوروبي مختلف تمامًا. فقد قال القادة إن «هذا هجوم هجين، وليس أزمة هجرة»، وقدموا دعمهم الكامل لبولندا في الوقت الذي تقوم فيه بتشديد الأمن على الحدود لإبقاء اللاجئين بعيدا عن أراضيها. ومن ناحية أخرى، حذرت السلطات البولندية من أنه إذا تحولت هذه الأزمة إلى صدام بين بولندا وبيلاروسيا، فستكون هناك تداعيات أمنية أكبر، ومن المحتمل أن يشمل الصراع روسيا وحلف شمال الأطلسي لأن بولندا عضو في الناتو ولدى بيلاروسيا مجموعة من معاهدات التحالف الأمني والاقتصادي مع روسيا.
في نوفمبر (تشرين الثاني)، وافق الاتحاد الأوروبي على جولة أخرى من العقوبات تستهدف أكثر من عشرين مسؤولا بيلاروسياً؛ وشركة أجنحة الشام للطيران السورية لنقلها مهاجرين إلى بيلاروسيا؛ فندق مينسك في عاصمة بيلاروسيا لإسكان المهاجرين؛ وربما مطار مينسك، بحسب مسؤولين في الاتحاد الأوروبي. المسؤولين. وفي 28 نوفمبر، التقى قادة الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في فيلنيوس لمناقشة التحديات الأمنية التي تفرضها بيلاروسيا. وخلال المؤتمر الصحافي، أصر الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ على أن «نظام لوكاشينكو يستغل الأشخاص المعرضين للخطر للضغط على الدول المجاورة. هذا غير إنساني... لا يوجد حليف في الناتو يقف بمفرده. أعرب جميع الحلفاء عن تضامنهم مع ليتوانيا. وقد قدمنا المساعدة العملية.. ويواصل الناتو تقديم قوة ردع ودفاع. تساعد مجموعتنا القتالية في ليتوانيا والآخرون في إستونيا ولاتفيا وبولندا في ردع أي عدوان».
وكان قد زار لوكاشينكو مؤخرًا مخيمات المهاجرين، وأخبر اللاجئين أنه لن يجبرهم على العودة إلى ديارهم: «مهمتي هي مساعدة الأشخاص الذين يواجهون مشاكل. لن نقوم في أي حال من الأحوال باحتجازكم، أو تكبيل أيديكم، أو تحميلكم على متن طائرات، وإرسالكم إلى المنزل إذا كنتم لا تريدون ذلك. سنعمل معكم على تحقيق أحلامكم».
لا يخطط أي من الجانبين لتقديم تنازلات، لكن آلاف اللاجئين العالقين في درجات حرارة شديدة البرودة ما زالوا ينتظرون، ويعيشون فقط بمساعدة محدودة. مُنحت المنظمة الدولية للهجرة (IOM) والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وصولًا محدودًا إلى مخيمات اللاجئين وقدمت المساعدة من خلال الصليب الأحمر البيلاروسي. ويقدرون أن هناك ما يقرب من 7000 لاجئ في بيلاروسيا في هذا الوقت (2000 على الحدود مع بولندا)، وذكروا أن الحكومة العراقية عرضت على 1000 من اللاجئين العودة إلى الوطن. وعليه، تأمل المنظمة الدولية للهجرة في المساعدة في تسهيل المزيد من العودة الطوعية إلى العراق خلال الأسابيع المقبلة، ولكن لا يأتي جميع اللاجئين من العراق ومعظمهم لم يعرب عن رغبته في المغادرة.