محمد عياشي العجرودي... هذا الرّجل يمنلك كل وصفات النّجاح، بنى نفسه بنفسه بصمت. أحيانًا بالمعاناة، وأحياناً بتجاهل العقبات وحتى الإهانات، يوم كان هائماً في فرنسا لا يجد فرصة حتى لوظيفة، إلى أن أصبح سياسياً وناشطاً ومخترعاً، ورجل أعمال ناجحٍ تمتد أعماله إلى أكثر من بلدٍ، دون أن ينسى تونس بلده الأم. حتى اليوم ، يعرف العجرودي عن نفسه بشكل متناقض، يصف نفسه بالصّناعي بكل تواضع عندما يُسأل عن حياته المهنية.
ما الذي يحرّكه في حياته الشخصية والعمليّة؟ ما هي دوافعه الأساسية وأهدافه؟ يقول: «أنا أبحث دائمًا عن طرق لتحسين أداة ما، حسب احتياجات الآخرين... الصالح العام مهم جداً، ولكن الذات العميقة لها منفعتها أيضًا».
يصف نفسه أيضاً بالمقاول الذي يسعد بشدّة أن يبدأ ببناء مشروع.
من ناحية أخرى، عندما يُسأل عن التزاماته السياسية الأخيرة، يذكر جذوره الافريقية العميقة، التي تتجاوز كثيراً الهوية التونسية البسيطة، يقول «لقد جئت من جنوب تونس، من قبيلة، من محارب وعائلة عسكرية، كان لدينا إمكانية الوصول إلى الكل من الجنوب، أنا طفل من الصحراء، لقد اصطدت هناك، وتجولت هناك».
الصدمة الأولى
طفولة شبه فردوسية في قابس، يقول: «مديرنا كان يهوديا، لقد أحببناه كثيرًاً. كان هناك أشخاص من كافّة الأديان والأعراق في منطقتنا، مسلمون ويهود، مسيحيون، ملحدون، مالطيون، صقليون... نشأنا جميعًا معًا وكنا، كل يوم نجلس على الشاطئ، ننظر إلى البحر ونسأل أنفسنا : ماذا يوجد على الجانب الآخر؟».
في سن الثامنة، كانت المحنة الأولى، عندما غادر اليهود قابس على نطاق واسع. يقول: «ذات صباح خرجت ولم أتمكن من العثور على أصدقائي. طرقت على كل باب، لكن لا مجيب، كانوا قد ذهبوا إلى الجانب الآخر وكانت الصدمة مروعة... والصدمة الثانية كانت وفاة والدي، في الحقيقة، كانت صعبة للغاية». كان عمر محمد يومها 14 سنة.
قرر أحد أعمامه إرساله للدراسة في فرنسا. يقول: «هذه المرحلة غيّرت حياتي تمامًا. كنت يتيماً، ولم أكن أحمل حقيبة سفر، غادرت مع وشاح والدتي، وكنت أشم عليه رائحتها».
ارتاد العياشي المدرسة البحرية في سان مالو، عن هذه المرحلة يقول: «أمضيت خمس سنوات وثلاثة أشهر و23 يومًا من الملاحة»، ثم دورة في الجسور والآلات في المدرسة البحرية متعددة الاختصاصات، تخرج منها كمهندس.
اختراع غيّر حياته
على الرغم من نتائجه الرائعة، لم تقدم له أي من الشركات، التي توظف مباشرة بعد الدراسة، أي عرض عمل. في السبعينات في فرنسا، لم يكن من الجيد أن تُدعى محمد عياشي العجرودي. «لكنني، في ذلك الوقت، لم أكن أفكر في ذلك، اعتقدت أن هناك أسبابا أخرى».
انطلق محمد وأنشأ مؤسسته الخاصة. كان ينقصه خمسة الاف (5000) فرنك فرنسي عن مبلغ إجمالي قدره عشرون الف فرنك، الحد الأدنى المطلوب لتكوين رأسمال الشركة، لكن البنوك رفضت منحه قرضا للمشروع. فقدم له والدا صديقه، وهو بدوره مهندس شاب، المبلغ الذي سمح له بإنشاء شركته الأولى AMIS آرتوا لخدمات الصيانة.
رأس المال موجود بالبنك، لكن هذا الأخير لا يزال يرفض تقديم تسهيلات ائتمانية أو حتى شيكات.
كان لدى محمد عياشي العجرودي فكرة نشأت من ملاحظاته في البحر أثناء تدريبه، رابط مرن يمنع الانقطاعات المتكررة في خطوط الأنابيب أثناء تجميع منصات النفط البحرية. لم يفكر أحد في ذلك. «عليك أن تعرف البحر، وتفهم معاناة البحر، وتفهم ما هي البارجة». لكن في حين أن الفكرة بسيطة، إلا أن تنفيذها كان صعباً.
قام عمدة قرية Pas-de-Calais بتوفير مبانٍ مهجورة وغير مكيفة له مجانًا على أمل تعزيز فرص العمل للسكان. مع سبعة من أصدقاء الهندسة مثله، تمكن محمد من اختراع نموذج أولي، بكل صبر وتأن، ثم سجل براءة اختراع.
اتصل محمد فيما بعد بشركة تابعة لشركة النفط الفرنسية Elf-Aquitaine المتخصّصة في المنصات والحفر البحري، والتي أعجبت باختراعه وتقدّمت بطلب عشر وحدات.عندئذ، منحه البنك على الفور خط إئتمان قدره 8 ملايين فرنك، أو ما يعادل 1.2 مليون يورو لتوفير التمويل للتصنيع.
ثروة في ذلك الوقت، سمحت له بالذهاب إلى ماليزيا والغابون لمراقبة عملية تركيب الروابط بنفسه.
الاهتمام بالطّاقات المتجدّدة
منذ ذلك الحين، لم يتوقف محمد عياشي العجرودي عن سلسلة الابتكارات وبراءات الاختراع والعديد من النجاحات. نمت شركته وتحققت نجاحات أخرى. ودائمًا، مع نفس الفكرة المتمثلة في البحث عن المشكلة أو الخلل في عملية فنية من أجل تحسين الأداة لتقليل وقت ومتاعب من يستخدمها، اخترع نظام ضغط يعتمد على مبدأ الضغط قصد الاختصار في زمن التنقيب في البحر. وعملية الحفر هذه مستلهمة من تلك التي استعملت في النفق تحت بحر المانش أو إنجاز أنفاق المترو.
حصلت جميع الاختراعات على جوائز متعددة في فرنسا من الوكالة الوطنية لتعزيز البحث (ANVAR). ماذا الآن؟
«لقد بذلت جهدي بالكامل في الطاقات المتجددة، حقا تماماً». ليس فقط لإنتاج أو توزيع التكنولوجيا المجربة، إنما هي نظرة عامة تشغله «هناك ما يقرب من ملياري شخص بلا ماء ولا كهرباء، وسيصل عددهم قريبًا إلى تسعة مليارات. إنها سوق ضخمة!».
فقط تحلية مياه البحر يمكن أن تلبي احتياجات المياه. لكن تحلية المياه هذه تستهلك الكثير من الطاقة، والوقود الأحفوري باهظ الثمن ومعرض لخطر الانهيار. فكر العجرودي في أنظمة توليد الطاقة الشمسية من النفايات. يقول: «يمكن أن تتحوّل النفايات إلى طاقة، مليون طن من القمامة يعادل 250 ألف طن من الوقود».
أما بالنسبة للطاقة الشمسية، فإنّ نظام الألواح الفولتية المرتبط بتوربينات تشغيل المرجل يمكن أن يحل يومًا ما المشكلة الشائكة لتخزين الطاقة وستصبح أفريقيا أرضاً خصبة لهذا القطاع الرائد والواعد لأن مستقبل الطاقة لستمائة مليون شخص لا يستطيعون الوصول إليها، يعتمد على حلول بسيطة ستحل قريبًا محل النفط والوقود الأحفوري المتقادم.
رجل المساعي الحميدة
أفريقيا بالذات، التي تركها في سن صغيرة، والتي تأخر في العودة إليها. كأفريقي، حب القارة مرتبط بالروح، وليس فقط بكونه رجل أعمال.. «هناك العديد من الوحوش التي ستستولي على القارة إذا لم نفعل شيئًا ونحاربها، وحتى ينجح هذا، فأنت بحاجة إلى شخص مقابل، شخص آخر يستمع إليك، كما يجب أن يكون هناك وطنيون».
انتهى به الأمر إلى الانخراط في الحياة السياسية التونسية، حيث ألقى نظرة خاطفة عليها دون تهاون وهو يعتبر أن الربيع العربي كارثة على تونس. «هذا البلد الجميل الذي تركته باكياً عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، لا أستطيع أن أتقبل ما يحدث له اليوم. نار تشتعل في الوطن وتونس تحترق!».
انفجر الدين العام. بالنسبة إليه، فإن إدارة البلاد فشلت فشلاً تاماً، بسبب عدم كفاءة الوظيفة العمومية المتضخمة «10 ملايين شخص مقابل 800 ألف موظف عمومي، هذا ضخم للغاية. لم يساعدوا البلاد كي تقف على قدميها، لم يعد لها قدمان، لم يبق شيء منها».
يجب أن يضاف إلى هذه الكارثة كارثة ليبيا، التي يعتقد أن مصيرها يؤثر على مصير تونس. يقول «إذا وجدت ليبيا استقرارها، فستجده تونس».
رجل الصحراء هذا الذي يعرف الجنوب جيدًا شارك في العديد من مهام المساعي الحميدة بين البلدين. «لدي تفويض رسمي من زعماء القبائل الذي أمثله وأدافع عنه».
لم يتردد العجرودي في إشراك الرئيس الكونغولي ساسو نغيسو في هذا المشروع، بسبب الصلات بين الأخير والقذافي الراحل، و«لأن الشعب الليبي يريد حلاً أفريقيًا». رؤية لا تقتصر فقط على السياسة.
بصفته صناعيًا ذكيًا، فإنه لا يرى مستقبلًا لتونس إلا في مشاريع البنية التحتية الطموحة للسكك الحديدية والموانئ. خاصة في قابس، حيث يمكن لميناء المياه العميقة أن «يمد أفريقيا»، والتي يمكن أن يستقبل مطارها، الذي أصبح الآن «مهجورًا»، طائرات A- 380.
يقول العجرودي «تونس تدير ظهرها بالكامل لأفريقيا. هي ليست عربية وليست أوروبية... هي أفريقية! يجب أن تكون موجهة نحو أفريقيا».