لندن- هبة البيتي
[blockquote]حالما تنزل من الحافلة التي تأخذك إلى قلب مدينة كمبردج، تجد أحضان الطبيعة البِكر تستقبلك، ابتداءً بالحشائش الخضراء الممتدة إلى آخر النظر، وانتهاءً بالأفق الذي يتداخل فيه الغيم بألوان الشجر والسماء. تسأل سائق الحافلة عن مكان الجامعة، مُفترضًا أنه يعلم أنك تقصد جامعة كمبردج، فيردّ ضاحكًا: أي جامعة؟ مشيرًا إلى أن الجامعة بكل كلياتها موزّعة على كل أنحاء المدينة الصغيرة الكبيرة.[/blockquote]
عاصمة العلوم والفنون والعظماء من صانعي التاريخ.. و20 % من سكانها طلاب
هنا تبدأ رحلتك في اكتشاف هوية المدينة، التي إن كنتَ تعرف اسمها فإنك توقن أن لها وجوهًا كثيرة مخفيّة عن كل العابرين بها. ولن يهمك أن تعرف إن كان وجه من وجوهها يعبّر عن هويتها أكثر من غيره. وإن كنتَ ستتفحّص تاريخها المتجسّد في تخطيطها العمراني ومعالمها الأثرية، فإنك ستُفتَن أكثر بأسرار أزقتها الصغيرة والقصص التي تجوب أنحاءها، لكن أحدًا لم يتجرأ على سردها عنها. قد تتكشّف لك هوية المدينة في طبيعتها وحدائقها الرحيبة، وقد تتجلّى في أسواقها الشعبية ومنتجاتها التقليدية، وقد تتمثّل أمامك في فنونها الشعبية وآدابها الكلاسيكية. لكن الهوية الحقيقية للمدينة تتجسّد في الصورة التي تبقى في ذاكرتنا عنها.
إن الصورة الأجمل لمدينة كمبردج هي في دراجاتها الهوائية ذات السلال الشاعريّة، التي تُعيدك إلى أفلام الريف البريطاني القديمة. وقد تعتقد لوهلة بأن تلك الدراجات هي وسيلة مواصلات للطلاب فقط، لأنها قد تُسهّل لهم التنقّل بين مباني الكليات دون أن تكلفهم كثيرًا من المال أو الوقت. لكنك ستُفاجأ حينما ترى المدرسيِن وأصحاب الأعمال يقودون دراجاتهم وهم بكامل أناقتهم! كما أنك سترى الدراجات تمشي على نفس خطوط سير السيارات دون إعطاء أي أفضلية لسائقي السيارات. ولا أجمل من رؤية الدراجات الهوائية تقطن خلفية المباني التاريخية المهيبة، كأنها تتكئ على التاريخ بلا اكتراث طفوليّ!
إن تفرّد أي مدينة لا ينبع فقط من طبيعتها الجغرافية أو من سلوك سكانها أو الأعمال أو الصناعات الدائرة بها، بل إنه يتشكّل من نظرة سكانها لها ومدى اعتزازهم بتاريخها ووفائهم لذلك الإرث الذي يحملون مسؤوليته. فليس هناك مدينة بلا تاريخ، لكن هناك مدنًا لا يعرف أهلها تاريخها، ومدنًا أخرى يعرف أهلها تاريخها جيدًا ويهتمون بتعريف العالم به. لذا فإن كل مدينة هي استثنائية بشكل أو بآخر، واستثنائيتها لا يُمكن أن تُعرَف أو تُوثّق إلا بخبرة أهلها بها ومعرفتهم بتاريخها وحفاظهم عليه. والزائر لمدينة كمبردج يلمس في سكانها شعورهم بأنهم جزء من تاريخ، وإن كانوا لا يفكّون جميع شفراته، فإنهم يوقنون بأهميته ويجتمعون على مهمة مقدّسة، وهي الحفاظ عليه أولاً، ثم تدريسه للعالم ثانيًا. وربما عراقة المدينة في حد ذاتها جعلت سكانها على قدر كبير من المسؤولية المجتمعية، فصار فضول التعلم وهَمّ التعليم جزءًا لا يتجزأ من شخصية وعقلية ساكنيها.
وعند الحديث عن التعلم والتعليم لا بد من التعريج على الارتباط الشرطي بين مدينة كمبردج وجامعة كمبردج. فقد ارتبط اسم مدينة كمبردج بجامعة كمبردج، لدرجة أن الغالبية باتت تعتقد بأن مدينة كمبردج ليست سوى حرم جامعي يفترشه الطلاب بكتبهم وحقائبهم الأكاديمية، وتسمع من مكتبته تثاؤب الكتب وتشمّ في أنحائه رائحة الضجر. لكن زيارة قصيرة لمدينة كمبردج كفيلة بتغيير هذه الصورة النمطية والنظرة المبسّطة للمدينة. وهذا الارتباط الشرطي بين مدينة كمبردج وجامعة كمبردج له ما يُبررّه، بل وما يجعله منطقيًا، إذا ما علمنا أن جامعة كمبردج هي ثاني أعرق جامعة تعتمد الإنجليزية لغة تعليم بعد جامعة أكسفورد. كما أنها واحدة من أفضل 5 جامعات في العالم، فقد احتلت المركز الأول في الترتيب العالمي، حسب تصنيف QS لعام 2010، لتتجاوز بذلك جامعة هارفارد الأميركية لأول مرة منذ 7 سنوات. هذا عدا كونها الجامعة الأعرق على مستوى العالم في مجالات العلوم الطبيعية والرياضيات والفيزياء. ناهيك بأنها حصلت على 89 جائزة نوبل، وهو الرقم الأعلى على مستوى كل جامعات العالم.
ولا شك في أن للتجول في شوارع مدينة مشى فيها كثير من الرجال الذين صنعوا التاريخ، سواء كانوا من العلماء أمثال إسحاق نيوتن (نظرية الجاذبية) وتشارلز داروين (نظرية التطور) وجوزيف طومسون (مكتشف الإلكترون)، والفلاسفة أمثال بيرتراند راسل ولودفيغ فيتغنشتاين، والأدباء أمثال جون ميلتون واللورد بايرون، جماليّة بديعة. ففي كل زاوية قصص مخبوءة تنتظر الكشف عنها والتحاور مع أسرارها الساكنة في الصمت.
ومن هذه الأسرار سر تأسيس مدينة كمبردج نفسها، الذي يرجع إلى القرن الثالث عشر، حيث تأسست عام 1209، حينما قررت مجموعة من العلماء، كانوا على خلاف مع سكان مدينة أكسفورد، مغادرتها والبحث عن مكان هادئ ومناسب للدراسة، فوقع اختيارهم على تلك البقعة من الأرض لتكون من أكثر المدن الجامعية شهرة. وهكذا كان ذلك الخلاف بين سكان أكسفورد وأولئك العلماء، من أجمل الصُدَف التي وُلدت على يديها مدينة تقدّس العلم وتحترم التاريخ بقدر ما تحتفي بالحياة وتجذب التجار وتستقطب الأعمال.
ومدينة كمبردج هي عاصمة لمقاطعة كمبردج شاير في شرق إنجلترا، يشقّها نهر كام، الذي يستمتع الكثيرون بركوب الجناديل التقليدية فيه. كما أن الطابع الكرنفالي للمدينة يتجسّد في إقامتها بعض المهرجانات السنوية، كمهرجان كمبردج السنوي للجُعة، الذي يُقام في حديقة «جيساس جرين» (Jesus Green)، ومهرجان ستروبيري للموسيقى والفنون ومعرض منتصف الصيف أو «ميدسمر» (Midsummer) المقامين في منطقة «ميدسمر كومون» (Midsummer Common).
ولأنها مدينة تختزل أكثر من شخصية في شخصية واحدة، فإنك حين تمشي في شارعها الرئيسي وترى المحلات التجارية، والمطاعم بكل أنواعها (من مطاعم المأكولات السريعة إلى المطاعم الفخمة والمأكولات الشرقية)، ومحلات بيع الشوكولاته التي ترقص في مكانها حياةً من فرط تردد الناس عليها، لتوقن بأن ثقافة الحياة تمشي بالتوازي مع ثقافة المعرفة في هذه المدينة. وسرعان ما تتعثّر في نفس الشارع بإعلانات لوظائف شاغرة للطلاب، لتتذكّر مجددًا أنك في مدينة طلابها هم عماد بنيانها ومحفّز وجودها.
وقد تُفاجأ بعروض صالونات الحلاقة المتناثرة على امتداد الشارع، التي تقدّم للزبائن خدمات القص وتجفيف الشعر مقابل 10 جنيهات إسترلينية فقط، وهو سعر من المستحيل الحصول عليه في العاصمة لندن.
وعلى الرغم من أن كمبردج تبعد أقل من ساعة عن محطة كينجز كروس (King's Cross) بلندن، فإن سكانها يبدون أكثر هدوءًا وبهجة بعيدًا عن توتر المدينة وزحامها وشحناتها السلبية. ومع أن 20 في المائة من سكان المدينة من الطلاب، فإنك ستُفاجأ برؤية الآباء والأمهات يدفعون أبناءهم في عربات الأطفال. فرؤية العائلات بأحجامها المختلفة هو مشهد مألوف إلى درجة الغرابة، خصوصًا بالمقارنة بالمدن التي يُشكّل العاملون النسبة الأكبر من سكانها.
وعلى الرغم من وجود كثير من الكنائس العتيقة في المدينة ككنيسة كينجز كولج (King's College) وكنيسة السيدة العذراء والشهداء الإنجليز، وغيرها من الكنائس، التي تأسست كجزء من عملية تحفيز وتعزيز طقوس الصلاة لمؤسسي جامعة كمبردج، فإنه يوجد في المدينة مسجد يسمى مسجد أبي بكر، بالإضافة إلى مركز لتدريب الأئمة المسلمين. وقد أسّسه البروفسور تيموثي (أو تيم) وينتر المعروف باسم عبد الحكيم مراد، وهو باحث إسلامي بريطاني يدّرس في جامعة كمبردج ويقوم بإدارة المركز حاليًا.
ربما مدينة كمبردج لم تكن لتُوجَد لولا وجود جامعة كمبردج. وإن كانت كمبردج - الجامعة - هي السبب الرئيسي في وجود كمبردج - المدينة، لكن المدينة وصلت سن النضج وتحررّت من أغلال البحث، واستطاعت أن تؤثث لنفسها شخصية حياتية متعددّة الوجوه لا ترتكز على وجه واحد فقط، بل تُقدّم جميع وجوهها لسكانها وزوارها بالتناوب. لكننا نظل حائرين إن كانت كمبردج جامعة اختارت أن تحتل مدينة، أم أنها مدينة قررت احتضان جامعة.