الاستخبارات الدولية الأميركية: البغدادي قيادي إرهابي وليس قائدا للعمليات.. ويفقد الخبرات التكتيكية في ميدان المعركة

الاستخبارات الدولية الأميركية: البغدادي قيادي إرهابي وليس قائدا للعمليات.. ويفقد الخبرات التكتيكية في ميدان المعركة

[caption id="attachment_55255185" align="aligncenter" width="1024"]رقابة أمنية مشددة على المسافرين في مطار لوس أنجليس الدولي بعد هجمات «داعش» الأخيرة في عدة دول أوروبية (غيتي) رقابة أمنية مشددة على المسافرين في مطار لوس أنجليس الدولي بعد هجمات «داعش» الأخيرة في عدة دول أوروبية (غيتي)[/caption]
 


•أبو بكر البغدادي رمز قيادي مهم للغاية في قضية الخلافة والحركة العالمية التي تقود ولاء المتطرفين ولا يملك خلفية عسكرية أو استخباراتية
•وكالة الاستخبارات الدولية الأميركية: «داعش» يعاني من توترات وانقسامات بين التيار المتشدد والقوميين العراقيين

 

 


نيويورك: جوزيف براودي


[blockquote]أثار الكشف المذهل الذي نشرته «المجلة» هذا العدد عن قيادات «داعش» سؤالاً عن استيعاب الخبراء ومخططي السياسات الأميركيين لهيكل القيادة ذاتها - وكيف يأملون في مواجهتها. نبحث عن الإجابات مع ثلاثة من أصحاب الآراء المؤثرة في النقاش العام الأميركي من المطلعين على مشاورات السياسات الأميركية.[/blockquote]


كان سكوت ستيوارت، نائب رئيس التحليلات التكتيكية في وكالة الاستخبارات الدولية الأميركية ستراتفور، عميلا خاصا في وزارة الخارجية الأميركية لمدة 10 أعوام واشترك في مئات التحقيقات المتعلقة بالإرهاب. يعمل يعقوب أوليدورت، المتخصص في حركات الإسلام السياسي في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، مع عدد من أجهزة الحكومة الأميركية من بينها وزارة الدفاع. وهو مصنف ضمن «أهم 8 محللين لـ(داعش)» في الولايات المتحدة. وشارك مايكل فايس، الباحث البارز والإعلامي المتخصص في شؤون «داعش»، في تأليف أفضل الكتب مبيعًا في «نيويورك تايمز»: «داعش: داخل جيش الإرهاب».


[caption id="attachment_55255186" align="alignright" width="242"]أبو بكر البغدادي أبو بكر البغدادي[/caption]

تدعم معارف وخبرات هؤلاء المحللين مجتمعة رؤية أن تنظيم داعش يعاني من توترات وانقسامات داخلية، ومن أهمها التوترات بين المدافعين الآيديولوجيين عن دولة خلافة توسعية من جهة، ومناصري نظام البعث العراقي من جهة أخرى. في الوقت ذاته، يعمل «منظرو الجهاد» في التنظيم على تغذية رؤية مرنة تجاه أشخاص ذوي خلفيات سياسية مختلفة قد تكون خبراتهم ذات قيمة، مما يسمح للتنظيم بوضع النقاء العقائدي جانبا من أجل المصلحة. بيد أن صناع السياسات الأميركيين يأملون في استغلال الانقسام داخل التنظيم للإيقاع بين قيادات «داعش»، في جزء من استراتيجيتهم الاستخباراتية لدحر التنظيم.

 

 

 

 

 


الصراع بين التوسعيين المتطرفين والقوميين العراقيين

 

 


اتفق الخبراء الأميركيون الذين تم استطلاع آرائهم إلى حد كبير على وجود بعض التوترات بين قيادات «داعش» في مسألة ملامح «الدولة» وهدفها. من جهة، يؤمن «المنظّرون الجهاديون»، ومن بينهم أبو بكر البغدادي ذاته وأبو الأثير العبسي، وبالطبع المقاتلون الأجانب الذين جاءوا إلى المنطقة من مختلف أنحاء العالم، بإقامة الخلافة التوسعية التي يجب أن تشمل العالم كله في النهاية.
وفي الجهة المقابلة، قد يحمل بعض العناصر داخل القيادة العسكرية لتنظيم داعش، الذين كانوا في الأصل من مناصري حزب البعث في عهد صدام حسين، أجندة أكثر اعتدالا تهدف إلى الحفاظ على أراضي قومية عراقية سنية وحماية استقرارها.
وفقا لسكوت ستيورات، نائب رئيس التحليلات التكتيكية في ستراتفور ومحقق مكافحة الإرهاب السابق في وزارة الخارجية: «هذه هي أشهر نقطة تثير التوترات داخل حركات التطرف على المستوى العالمي. لقد شهدنا ظاهرة مشابهة مع حركة الشباب في الصراع بين المتطرفين ذوي الاتجاهات الأكثر قومية من جانب، ومتجاوزي الحدود القومية من جانب آخر. ونرى ذلك في جبهة النصرة في الوقت الراهن، حيث يقع الخلاف بين المقاتلين الأكثر إيمانا بالنزعة قومية والمقاتلين على طريقة القاعدة المتجاوزين للقومية. وبالطبع نجد ذلك أيضًا في (داعش)».
يشير مايكل فايس إلى أنه بجانب منظّري دولة الخلافة أمثال أبو الأثير العبسي، أدى كثير من البعثيين العراقيين أدوارا حيوية في تطور «داعش» منذ نشأته. بالإضافة إلى نموذج عزة الدوري الشهير، ذكر فايس اسم القيادي سمير عبد محمد الخليفاوي (وكنيته الحاج بكر) الذي كان عضوا سابقا في وحدة استخبارات القوات الجوية في نظام صدام حسين، وأدى دورا مهما في تأسيس شبكة «داعش» في شمال سوريا مما سمح للتنظيم باحتلال المنطقة.
لا يعني التمييز داخل «داعش» بين المتطرفين القدامى والبعثيين السابقين استبعاد انتقال عدد كبير من القيادات من هذا المعسكر إلى ذاك، ولا يعني أن الكثير من أعضاء حزب البعث السابقين الذين يعملون الآن مع «داعش» لا يؤمنون بشدة بمبادئه الآيديولوجية. على النقيض، قد يعني الإيمان بأحد أشكال الإسلام السياسي، بالنسبة لبعض البعثيين السابقين في التنظيم، بالفعل عودة إلى أعوام خدمتهم في نظام صدام.
ويوضح مايكل فايس أن أبا عبد الرحمن البيلاوي، الذي كان عضوا في مجلس «داعش» العسكري قبل مقتله، كان خريجا في «الحملة الإيمانية» التي أطلقها صدام حسين. دمجت الحملة، التي قادها عزة الدوري في التسعينات، القومية العربية مع بعض النزعات العسكرية الإسلامية، ومهدت الساحة لقيام الدوري بعد ذلك بإنشاء جيش رجال الطريقة النقشبندية. ويضيف فايس: «يوجد هدف سياسي كامن لدى البعثيين السابقين في (داعش). وهو الاستفادة من نبذ السنة وإعادة السيادة السنية على بغداد ودمشق. سيظل البعثيون في (داعش) على المدى الطويل. قد يكون هناك صدّاميون سابقون يريدون أيضًا إقامة دولة قومية علمانية. ولكن هناك أيضًا من جاءوا من الاتجاه ذاته، ومع ذلك يسعدهم السعي لأجل غاية مشابهة تحت راية التطرف. حدسي أن كثيرًا من هؤلاء الرجال تحولوا من الاحتفاظ بشوارب مشذبة بعناية إلى ارتداء الدشداشة وتربية اللحية في خلال أعوام».

 

 

 

 

 

 

 

 

آيديولوجية عدم النقاء

 

 


في كيان يشير إلى ذاته باعتباره «دولة خلافة»، كيف يصبح من الممكن التوفيق بين وجود رموز قيادية بارزة لها تاريخ من القناعات الدينية والآيديولوجية المعارض لإنشاء الخلافة؟ في بحث عن إجابة لهذا السؤال، تحدثنا مع الدكتور يعقوب أليدورت المتخصص في حركات الإسلام السياسي في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.
على مدار العام الماضي، انشغل أوليدورت تماما في دراسة الكتب والرسائل الفقهية التي نشرها «داعش» لتحل محل الكتب الدينية التي كانت متداولة في السابق في عامي 2014 و2015. استعان أوليدورت بإصدارات «داعش» الجديدة للتعرف على كيفية استيعاب التنظيم وتفسيره لموقعه في التراث الإسلامي التشريعي والتاريخي. ووجد درجة مدهشة من الابتداع في مشروع سياسي له جذور في مبادئ الجهادية السلفية.
على سبيل المثال، في إطار البحث عن مصادر تراثية إسلامية لتفسير نظرية «داعش» عن بناء الدولة، أشارت الإصدارات إلى كبار العلماء الصوفيين في التاريخ الإسلامي، ومن بينهم ابن عربي العالم الصوفي الأندلسي من القرن الثالث عشر، مؤلف الفتوحات المكية، وعبد القادر الجيلاني الفقيه الفارسي من القرن الثاني عشر مؤسس الطريقة القادرية الصوفية. ورأى التنظيم أنه من المناسب نشر «كتاب الورقات» الذي ألفه المتكلم والفقيه الشافعي الفارسي ضياء الدين الجويني في القرن الحادي عشر.
ويشير كتاب «داعش» عن السياسة الشرعية إلى «كتاب الأحكام السلطانية» للفقيه الشافعي أبي الحسن الماوردي من القرن الحادي عشر أيضًا. وفي إصدارات أخرى لـ«داعش»، يمكن العثور على مراجع تشير إلى رجل الدولة الفارسي البويهي من القرن العاشر أبي الفضل ابن العميد، ومؤرخ وخطيب القرن الثاني عشر عماد الدين الأصفهاني، وكاتب وأديب القرن الحادي عشر بديع الزمان الهمذاني.
لماذا يلجأ «داعش» إلى تلك المصادر المتباينة، والتي تلقى ازدراء الكثير من رموز الفكر الأصولي؟ يصف أوليدورت تلك الخيارات، من وجهة نظر «داعش»، بأنها «مفاضلات فكرية» نشأت عن الحاجة إلى تحديد وتخصيص مصادر إسلامية تقليدية تتناول التحدي الخاص ببناء «دولة الخلافة». يقول أليدورت: «إنهم يستشهدون بعلماء صوفيين لأنهم الشخصيات البارزة في التاريخ الإسلامي التي كتبت عن نظام الحكم الإسلامي»، وتعكس النفعية الفكرية الواضحة في مكتبة «داعش» الناشئة عقلية تؤمن بالنفعية السياسية وتعززها، مما يسمح لشركاء غير محتملين بالتعاون معا لخدمة تنظيم «داعش». إنها العقلية ذاتها التي سمحت لـ«داعش» باستغلال الخبرات العملية الإرهابية التي تم شحذها في سجون العراق البعثية، وترحب بـ«مقاتلين أجانب» من أي خلفية دينية ممن أعلنوا إيمانهم بأكثر الوسائل الظاهرية وبايعوا «خليفة داعش» على الولاء. بمعنى أن تنظيم داعش مرن وبراغماتي في تعاملاته مع الآيديولوجيات والنظم الدينية التي يزعم تنافسها معه، كما أنه قادر على عقد صفقات مع عدد متنوع من الأطراف سعيا إلى تحقيق مصالحه الضيقة.

 

 

 

 

 

 

 

 

فجوات في القيادة.. قديمًا وحديثًا

 

 


لعل الحاجة إلى التوفيق بين رؤى سياسية ابتداعية من أجل المنفعة أهم بالنسبة لـ«الخليفة» الموهوم أبي بكر البغدادي ذاته. اتفق الخبراء الأميركيون الذين تم استطلاع رأيهم على أنه على الرغم من كون البغدادي كبير قادة العمليات في «داعش» اسما، إلا أنه فعليا يعتمد على آخرين في الخبرات الاستراتيجية والتكتيكية في ميدان المعركة. وبحسب ما يقوله سكوت ستيوارت من شركة ستراتفور الاستخباراتية: «إنه ببساطة ليس لديه خلفية عن التكتيكات. هو فعليًا رجل دين. ومن المؤكد أنه رمز قيادي مهم للغاية في قضية الخلافة والحركة العالمية التي تقود ولاء المتشددين. ولكنه لا يملك خلفية عسكرية أو استخباراتية، ولا يملك خبرة كافية مثل أي إرهابي يتعامل مع الشارع»، على الرغم من أن البغدادي أمضى فترة اعتقاله إلى جانب كثير من المقاتلين المتطرفين في معسكر اعتقال بوكا الذي يسيطر عليه الجيش الأميركي في العراق، يضيف ستيوارت: «كان يُعد هناك أيضًا قياديا دينيا أكثر من كونه قائدا للعمليات».
يوضح مايكل فايس أن حقيقة عدم امتلاك البغدادي خلفية عن العمليات لا تعني أنه لا يقود تنظيم داعش. «يحصل البغدادي على مشورة من مسؤولين عسكريين واستخباراتيين، ولكنه يضع الاستراتيجية الإجمالية لعمليات (داعش). ومثله في ذلك مثل بن لادن الذي ربما اكتسب خبرة متواضعة من الحرب السوفياتية الأفغانية، ولكنه لم يحارب كثيرا بالفعل. وحتى فترة قريبة، كان البغدادي محاطا بهؤلاء الأفراد السابقين في مخابرات وجيش صدام، ولكنه في العموم يضع الخطة. وأنا متأكد من أنه يعطي موافقته على تلك الاعتداءات الخارجية على سبيل المثال، مع أنه من غير الواضح مدى اشتراكه في التفاصيل».
يشير فايس في هذا السياق إلى أن «داعش» يواجه فراغا جديدا في القيادة حاليا بعد مقتل الكثير من قياداته البعثية المهمة، والسؤال: من الذي سوف يحل محل البعثيين في مجال الخبرات التكتيكية والعسكرية؟ ويتوقع فايس أن تتم عملية جديدة لـ«أوروبة داعش» يبدأ بموجبها مقاتلون أجانب من القارة الأوروبية في سد الفراغ الذي تركه بعض البعثيين. ويوضح فايس قائلا: «قائد الأمن الخارجي أبو سليمان القربجي (لست متأكدة من اللقب لم أجده مذكورا في أي مصدر al - Kharabji) هو فرنسي ولد في تولوز. وقد سافر إلى سوريا مع زوجته وطفليه. وهو مواطن فرنسي من أصل شمال أفريقي، ووالده إمام مقيم في فرنسا. أدى هذا الرجل دورا في التفكير في اعتداءات باريس والتخطيط لها. وتمت ترقيته بعد ما حدث في باريس، وهو الآن تحت رئاسة قيادي (داعش) أبو محمد العدناني مباشرة. سوف نشهد اعتماد (داعش) المتزايد على شبكاته الغربية. وفي حين يزداد انقسام (داعش) إلى وحدات صغيرة، وتنكمش الأراضي التي يسيطر عليها، سوف يركز التنظيم على تنفيذ عمليات خارجية وضرب الغرب».

 

 

 

 

 

 

 

 

فَرِّق تسُد: جهود الاستخبارات الأميركية لبذر الشقاق داخل «داعش»

 

 


تكشف الرؤى التي صرح بها ستيوارت وأوليدورت وفايس إلى «المجلة» عن قدر أكبر من المعلومات المتاحة لدى مجتمع الاستخبارات الأميركي عن «داعش». والسؤال المطروح الآن: ماذا ستفعل الحكومة الأميركية بالأدلة على وجود انقسامات داخلية بين قيادات التنظيم؟
في مكافحتها للإرهاب الممتدة منذ أعوام، حاولت الحكومة الأميركية في بعض الأحيان استغلال الانقسامات داخل الفصائل الجهادية من أجل إضعافها داخليا. ويوضح سكوت ستيورات من ستراتفور: «إنه أحد الأشياء التي تحاول فعلها كجهاز استخباراتي. تستخدم المعلومات المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو مصادر أو جهات اتصال في الدولة المضيفة، وتحاول استغلال انقسامات التنظيم وبذر الشقاق»، وأشار ستيوارت إلى أنه في الماضي حصلت الحكومة الأميركية ثم نشرت مراسلات داخلية بين أتباع القاعدة بطريقة تسببت في تفاقم توترات قائمة داخل التنظيم: «إحدى الحالات المرجعية كانت عندما نشرت الحكومة الأميركية رسائل الظواهري إلى الزرقاوي. كان الأثر كبيرًا، لأنها تسببت في خلاف بين صفوفهم»، ومن بين النماذج الأخرى الكشف عن سوء معاملة المقاتلين الأجانب بين صفوف حركة الشباب الصومالية التابعة لـ«القاعدة»، بالإضافة إلى خطاب اللوم اللاذع الذي أرسل من مجلس شورى «القاعدة في المغرب الإسلامي» إلى القيادي مختار بلمختار.
«ذلك النوع من الخلافات يمكن بالتأكيد الاستفادة منه. هناك الكثير من الخلافات الداخلية في الوقت الحالي، بين (داعش) و(القاعدة)، وداخل التنظيمين. نحتاج إلى إذكاء تلك الخلافات حتى لا تلتئم، وأن نستمر في صب الزيت على النار».

 

 

 

 

 

font change