مستقبل العلاقات الإيرانية – الأمريكية : بين الإستراتيجية والتكتيك

مستقبل العلاقات الإيرانية – الأمريكية : بين الإستراتيجية والتكتيك

[escenic_image id="556205"]

تشكل الإنتخابات الإيرانية إطاراً للتوقعات المستقبلية للعلاقة المضطربة منذ أمد بعيد بين الولايات المتحدة وجمهورية إيران الإسلامية والتي تعد واحدة من أشد خصوم الولايات المتحدة التقليديين، فقد تم إجراء الجولة الأولى من الإنتخابات في نوفمبر الماضي وقد أسفرت نتائجها _المتمثلة في  الإنتخابات وما تلاها_ من تنصيب رئيس أمريكي يؤيد الدخول في مفاوضات مع الدول المعادية لأمريكا وفتح الباب أمام إمكانية تغيير حالة العداء بين طهران وواشنطن.

و سيتم إجراء الجولة الثانية من الإنتخابات في الثاني عشر من يونيو، وهي الجولة التي سيقرر من خلالها الإيرانيون ما إذا كان رئيسهم المستفز "محمود أحمدي نجاد" سيبقى في منصبه لفترة ولاية ثانية مدتها أربع سنوات أم لا؟ و لكن لن تغير الإنتخابات الرئاسية في إيران هيكل السلطة في الجمهورية الإسلامية على المدى القصير، كما أنه ليس من المرجح أن تحدث تغييرات جذرية في موقف طهران من القضايا الرئيسية التي تعد مدعاة للمخاوف الأمريكية، خاصة تلك المتعلقة بالأنشطة النووية الإيرانية المتسارعة الخطى وإتساع نطاق النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط.

و بالرغم من أن النظام الحاكم في إيران سيعمل على تحديد الحملة الانتخابية ونتائجها المحتملة إلا أنه من المؤكد أن نتائج الإنتخابات ستكون مهمة سواء بالنسبة لإيران أو بالنسبة لمستقبل أية مفاوضات محتملة مع واشنطن، حيث ستشكل النتائج التي ستسفر عنها الإنتخابات الرئاسية في إيران في نهاية المطاف إيقاع الرقصة الدبلوماسية المترددة الخطوات التي بدأت واشنطن وطهران في تأديتها مؤخراً، كما ستعد نتائج هذه الإنتخابات مؤشراً مستقبلياً هاماً لفهم الإتجاه الذي من المرجح أن يتحول نحوه التطور الإيراني الذي لا يمكن التنبؤ به في أغلب الأحوال.

الإنتخابات الإيرانية

تم إجراء الإنتخابات الوطنية بصورة منتظمة في الجمهورية الإسلامية على مدى العقود الثلاثة الماضية و هو أمر يدعو للدهشة حيث بدأت الإنتخابات بالإستفتاء المبدئي حول مستقبل النظام الحاكم في فترة ما بعد الثورة  واستمرت بعد ذلك من خلال الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية المتكررة وغيرها من إنتخابات المؤسسات الأخرى و بالرغم من أن  أياً من هذه الإنتخابات لم يتم إجراؤها وفقا للمعايير الدولية للإنتخابات الحرة النزيهة إلا أنها تميزت بوجود منافسة حقيقية بين مرشحيها، على عكس ما قد توحي به الطبيعة الثيوقراطية للنظام الحاكم في إيران، كما كانت نتائج هذه الإنتخابات دائماً غير متوقعه و نتيجة لذلك مازال هناك إقبال على التصويت في الإنتخابات بالرغم من شعور العديد من الإيرانيين بالإستياء من نظام الحكم الإسلامي، كما أن النخبة السياسية في إيران مازالت تنفق مبالغ طائلة على حملاتها الإنتخابية.

وتعد الإنتخابات القادمة بمثابة إستفتاء على شخصية "أحمدي نجاد" و سياسته المثيرة للجدل ولكن كون النقاشات الدائرة حالياً في إيران تلتقي حول رجل لا يعد حتى صانع القرار الرئيسي في الدولة قد يساعد في تفسير تحيز رجل مثل آية الله علي خامنئي له.

و لم تكن أهمية الدور المحوري الذي يلعبه أحمدي متوقعة، على الأقل بقدر ما كان صعوده لثاني أكبر منصب في البلاد دون أي خبرة سابقة أمراً غير متوقع في عام 2005.

وبالرغم من عدم تمتع رئيس الجمهورية الإسلامية بصلاحيات كبيرة إلا أن الجرأة التي يتمتع بها أحمدي نجاد و نجاحه في إثبات وجودة وضعاه في قلب واحدة من أكثر موضوعات إيران الداخلية إثارة للجدل وفي طليعة عداء إيران المستمر منذ فترة طويلة مع واشنطن.

و لكن النجاح الذي حققه "أحمدي نجاد" على الصعيد السياسي لم تصاحبه قدرة على الحكم بفعالية، فسياسات أحمدي نجاد التي تتسم بالبذخ وكثرة النفقات وتدخله المستمر في السياسات الإقتصادية للدولة، كل ذلك أدى إلى تغذية التضخم بحيث إرتفعت معدلاته إلى درجة غير مسبوقة، و لم يساهم هذا بالطبع في توفير فرص عمل للشباب الذين يشكلون نسبة كبيرة من السكان، وإلى جانب هذا فقد تدهورت علاقات إيران مع جميع شركائها التاريخيين في ظل قيادته بشكل يدعو للقلق فلأول مرة في تاريخ ما بعد الثورة تفرض الأمم المتحدة عقوبات متعددة الأطراف على إيران.

و قد أدى هذا السجل الحافل إلى قلق العديد من أنصار النظام الإسلامي المتعصبين في إيران من إحتمال تحول الإستياء الشعبي إلى إضطرابات إجتماعية خطيرة، وبالإضافة إلى ذلك فإن جرأة "أحمدي نجاد" في تعامله مع الحرس القديم وميله إلى نشر عقيدة "رجعة الإمام"، وخطبه العصماء الخالية من أي معنى حقيقي لم تلق استحساناً لدى بعض مؤيدي النظام ولاسيما بين كبار رجال الدين ولكن ما يحد من معارضة رجال الدين بشكل كبير لنظام أحمدي نجاد هو ولائهم للنظام و ميلهم لطاعة الحكام ونفورهم من إحداث إضرابات سياسية، وعلى خلاف ذلك يتمتع الجيل الجديد من السياسيين المحافظين بدرجة أكبر من الحرية، والذين من بينهم قائد الحرس الثوري السابق "محسن رضائي" الذي سينافس الرئيس الإيراني في الإنتخابات القادمة وبالرغم من أنه من غير المرجح أن يحصل رضائي على عدد كبير من الأصوات في الإنتخابات أو حتى على أصوات عدد كبير من أقرانه من السياسيين المحافظين إلا أن خوضه الإنتخابات من شأنه أن يزيد من حدة المنافسة على منصب الرئاسة في المستقبل بين النخبة السياسية الإيرانية، وربما يمهد الطريق كذلك لتنافس سياسي واسع النطاق في المستقبل.

و على الجانب الآخر من الطيف السياسي في إيران ينظر الإصلاحيون أيضاً إلى هذه الإنتخابات بإعتبارها خطوة هامة في طريق تعزيز مكانتهم في هيكل السلطة وقد أيد الكثير من الإصلاحيين في البداية عودة الرئيس السابق "محمد خاتمي" لفترة ولاية ثالثة، مما يعكس بشكل كبير الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها منذ أن ترك منصبه إلى جانب الإعتقاد الواسع الإنتشار بأنه هو وحدة القادر على الحصول على عدد كبير من الأصوات يكفي  لهزيمة أحمدي نجاد، ولكن خاتمي لا يزال غير مستعد للحرب، وقد فتح القرار الذي اتخذه بالتنحي الطريق أمام اثنين من الرجال الذين يتمتعون بالشجاعة الثورية للدخول في منافسة أكثر شراسة مع الرئيس الحالي داعين إلى التحول التدريجي نحو الإعتدال.

و يعتبر دخول رئيس الوزراء السابق "مير حسين موسوي" للإنتخابات هو الترشيح الأكثر جدلاً إلى حد بعيد بين المرشحين المؤهلين، ويحظى موسوي بإحترام شديد لقيادته للدولة خلال الحرب التي استمرت ثماني سنوات مع العراق وقد ارتدى عباءة الإصلاح الآن غير أن فرص موسوي ضئيلة نظراً لتاريخ خلافاته مع خامنئي، وإحتمالية أن يكسب مرشح إصلاحي آخر وهو رئيس البرلمان السابق "مهدي كروبي" بعضاً من الأصوات المناهضة لنجاد.

وبالنظر إلى تاريخ الإنتصارات المفاجئة وتقلب البيئة السياسية الحالية لن يجرؤ أي مراقب محنك للمشهد السياسي الإيراني على التنبؤ بنتيجة الإنتخابات الإيرانية التي يغلب عليها طابع التنافس الشديد.

وبالرغم من عدم شعبيته الواضحة يتمتع "أحمدي نجاد" بميزة رئاسته الحالية وقدرة النظام على التحكم في نسبة  معقولة من الأصوات على الأقل، والحقيقة الوحيدة قبل الإقتراع هي أن الساحة السياسية في إيران من المقدر لها أن تتبدل مرة أخرى، ومع تبدلها قد يتغير مستقبل العلاقات مع واشنطن.

سياسة الشراكة

 تأتى إنتخابات إيران عقب تغيير مذهل في القيادة الأمريكية، وقد تبنى الرئيس "باراك أوباما" موقفاً جريئاً تجاه إيران خلال حملته الإنتخابية مما جلب عليه إنتقادات من منافسيه الديمقراطيين نظراً لإعلانه رغبته في لقاء مباشر مع القادة الإيرانيين.

وقد أنهى إنتخابه بشكل فعلي ثماني سنوات من الخلاف داخل المؤسسة الأمنية الأميركية حول مدى فائدة وملائمة الشراكة مع إيران.
كان الجدال السابق خادعاً حيث كان  الثابت الوحيد  في السياسة الأمريكية تجاه إيران منذ عام 1979 هو إستعداد الإدارات الأمريكية للتعامل مباشرة مع طهران حتى أن الرئيس "جورج بوش" الذي وصف إيران بالعضو المؤسس في "محور الشر" وأعرض عن  المغازلات الإيرانية في أعقاب النجاحات الأميركية المبدئية في العراق  قد جرب نوعاً ما من الشراكة  مع إيران، وفي الواقع شكل حوار المسئولية المبكر مع إيران حول القضايا الأفغانية أكثر المحادثات الثنائية جدية منذ إنتهاء أزمة الرهائن.

غير أن غطرسة بوش اللاحقة المتمثلة في الحد من الدبلوماسية وسعيه لتقويض النظام الإيراني أثبتت فشلها وعدم قدرتها على الإستمرار في  التصدي للتحديات الإيرانية، بينما تعثرت جهود أمريكا في العراق وأفغانستان ونتيجة لذلك حتى بوش اضطر لتغيير سياساته وإحياء الدبلوماسية تجاه طهران على مضض، ولهذا السبب لم يلق سعى أوباما لإشراك إيران نقداً يذكر في الولايات المتحدة بعد إنتهاء المشاحنات الحزبية خلال حملة الإنتخابات الرئاسية.

وقد تقبلت نخبة من الأفراد داخل المؤسسة الأمنية الأميركية منذ وقت طويل جدوى الوصول إلى حل عن طريق التفاوض حول القطيعة الإيرانية وجاءت العقبات خلال معظم الأعوام الثلاثين الماضية من طريق إيران.

غير أن طهران أظهرت في الآونة الأخيرة مساحة أكبر للمناورة في مواجهة الولايات المتحدة وجاءت تصريحات المرشد الأعلى منذ عام 2006  لتظهر إستعداداً غير مسبوق للتعامل مباشرة مع واشنطن بأسلوب معلن وواثق وعلى أساس موضوعات محددة، ولم تسفر تصريحات خامنئي سوى عن  نتائج حقيقية محدودة من حيث التنازلات أو حتى على مستوى المفاوضات الفعلية، ولكنها أبرزت تضاؤل إنعكاس صراع السلطة الداخلي في إيران على المنهج المتبع تجاه أمريكا، وسوف تستمر المشاحنات الدائمة بين الأحزاب في إيران ولكن للمرة الأولى في تاريخ إيران ما بعد الثورة لم يعد النظام منقسماً حول المسألة الأساسية وهو الحوار مع واشنطن.

ويجب أن تكون النتيجة إلتقاء فريد بين الإستعدادين الأميركي والإيراني للتفاوض لأول مرة منذ قيام الثورة في إيران قبل ثلاثين عاماً ولكن هذا التقارب لا يمكنه ضمان النجاح في حد ذاته وتعتبر حملة الإنتخابات الرئاسية الإيرانية واحدة من أهم المتغيرات.

وسوف تكون نتيجة الإنتخابات ذات تأثير مباشر على مستقبل وسير الدبلوماسية بطرق ليس من المرجح أن تكون واضحة أو يسهل التنبؤ بها، وإذا فاز "أحمدي نجاد" بفترة رئاسة أخرى فقد يدعم هذا عناد طهران ولكنه سيصعد أيضا من حاجة المجتمع الدولي الملحة إلى التعامل مع إيران، بينما قد يحيى إستبدال نجاد بشخصية سياسية أكثر إعتدالاً صراع السلطة الداخلي في إيران فقط وما يترتب علي ذلك من شلل في مسار التعامل مع واشنطن.

وفي النهاية، وبغض النظر عن من يفوز في إنتخابات يونيو سوف تجد القيادة الإيرانية المقبلة أن التواصل في حد ذاته ليس حلاً سحرياً للخلافات مع بقية العالم فقد فشلت كل المحاولات السابقة للتواصل بين القادة الأمريكيين والإيرانيين نتيجة للمفاهيم الخاطئة والفرص الضائعة من الجانبين، وقد يشهد هذا العام سجلاً قياسياً في تغير الدبلوماسية الأميركية - الإيرانية نحو الأفضل، ولكن سيظل أمامهما ثلاثون عاماً من المزالق والعداوات ينبغي التغلب عليها.

سوزان مالوني - ".
font change