تشن بعض الأنظمة العربية التي تدعي تارة أنها دروع مقاومة، وطورا أنها قلاع ممانعة، ومعها جماعات سياسية وميليشيات متشددة هجوما إعلاميا شرسا على الدول العربية التي انفتحت في الآونة الأخيرة على إسرائيل سواء تلك التي أقامت معها علاقات دبلوماسية كاملة أو التي تبادلت معها فتح مكاتب للاتصال. ولم تستثن من الهجوم أيضا الدول التي بادرت إلى تنشيط علاقات قائمة مع الدولة العبرية منذ أمد بعيد.
وبتحليل محتوى هذا الهجوم يتبين أنه غير موضوعي البتة، إذ لا يناقش أسباب ودوافع هذا الانفتاح بالحجة والمنطق، وإنما يعمل على تسفيهه باستخدام لغة يراد منها دغدغة عواطف المتلقي لهذا النوع من الخطاب الإعلامي، والتلاعب بمشاعره؛ وذلك بالتركيز على تخوين تلك الدول ووصمها بالعمالة والتبعية، ناهيك عن القدح والذم في قادتها بأساليب بذيئة.
وإذا كان بالإمكان التغاضي عن الهجوم الإعلامي الذي تقوم به جماعات سياسية غير منضبطة، وميليشيات مسلحة منفلتة معظمها يتحرك دون مساءلة في دول إما فاشلة وإما في الطريق إلى ذلك، فإنه من غير المستساغ التساهل مع الهجوم الصادر عن أنظمة وقادة دول يعرفون جيدا من خلال تقارير أجهزتهم الدبلوماسية وأجهزة المخابرات أن كل الخطوات الانفتاحية على إسرائيل متسقة مع التوجه العربي الرسمي، الذي تبنى السلام كخيار استراتيجي منذ مشروع الملك فهد في قمة فاس سنة 1982، مرورا بمشاركة كل الدول العربية في مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991 باستثناء العراق لأسباب لا علاقة لها بالصراع مع إسرائيل، وصولا إلى إقرار مبادرة السلام العربية في قمة بيروت سنة 2002، بحضور جميع الدول وموافقتها.
إن أنظمة وقوى الممانعة تدرك جيدا ومنذ مدة طويلة أن هنالك إقرارا عربيا جماعيا ضمنيا بأن الدولة العبرية منذ الإعلان عن قيامها في 15 مايو (أيار) 1948، وهي كيان قائم الذات له مقومات الوجود الفعلي المدعوم بأوسع اعتراف دولي. كيان حي فاعل ومتفاعل مع محيطه الإقليمي المباشر، ومع المحيط الدولي الذي ساعد على قيام هذا الكيان منذ أن تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 القرار رقم 181 القاضي بتقسيم أرض فلسطين إلى دولتين عربية لم تر النور، ودولة يهودية أسمت نفسها إسرائيل.
وقد برزت مبكرا تجليات هذا الإقرار الذي يعني اعترافا غير مباشر بإسرائيل، ويشكل تفاعلا متبادلا معها؛ وذلك منذ توقيع كل من مصر، وسوريا، ولبنان، والأردن، على اتفاقيات للهدنة معها في جزيرة رودس في 3 أبريل (نيسان) 1949 في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية الأولى. فهذه الاتفاقيات تم التوصل إليها برعاية مبعوث أممي (رالف بانش)، كما تم إيداع نسخ منها لدى منظمة الأمم المتحدة، فلا يعقل أن تكون قد وقعت مع أشباح.
وقبل أن يحصل أول اعتراف رسمي من دولة عربية بإسرائيل بموجب اتفاقيات كامب ديفيد التي أبرمتها مصر سنة 1979، واستعادت بمقتضاها كامل سيادتها على شبه جزيرة سيناء، سيتأكد مرارا وتكرارا الإقرار العربي الجماعي بوجود الدولة العبرية، وذلك إثر كل حرب اندلعت معها. حصل ذلك بعد عدوان وهزيمة يونيو (حزيران) 1967، واضطرار الدول العربية إلى القبول بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، الذي لم تعارضه من دول المواجهة سوى سوريا التي عادت ووافقت عليه؛ ثم بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 والدخول في مفاوضات غير مباشرة لفض الاشتباك بموجب قرار مجلس الأمن رقم 338.
لقد استوعب العرب من خلال كل أشكال الصراعات التي خاضوها مع إسرائيل على مدى عشرات السنين أنهم أمام كيان ليس هبة من الرب لـ«شعبه المختار»لتحقيق خلاصه الثالث والأخير كما يدعي غلاته وعنصريوه الدينيون، وليس نتاج وعد استعماري وتوصية أممية؛ وإنما هو ثمرة تخطيط علمي مدروس عرف واضعوه من رواد الحركة الصهيونية الأوائل كيفية توظيف الأسطورة والادعاءات الدينية التوراتية والعصبية القومية وبعض الوقائع التاريخية، والاتصالات الدبلوماسية والإغراءات المالية والنشاط العسكري للوصول إلى المبتغى الذي ركز بصفة أساسية على توسيع الاستيطان لجذب العنصر البشري الذي بدونه لن تدوم الدولة أو تترسخ.
وعلى أساس هذا الاستيعاب تبلور تيار عربي واقعي ومعتدل يرى أن الحروب مع إسرائيل مغامرات غير مضمونة، وكلفتها باهظة الثمن، ولن تقود إلا إلى استنزاف الطاقات وإلى الدمار؛ الأمر الذي يعيق تنفيذ مخططات البناء والإعمار. ومن الأفضل السعي إلى السلام لأن أي تأجيل في الوصول إلى تسوية سياسية هو فرصة إضافية ممنوحة للمزيد من التوسع والاستيطان وابتلاع معظم الأراضي المحتلة وتهويدها.
إن صواب هذا التوجه لم يمنع بروز خطاب إعلامي يهاجمه ويسفهه، ومواقف متشددة تناهضه صادرة عن بعض الأنظمة والقوى التي ادعت الصمود والتصدي في البداية ثم تدحرجت مواقفها نزولا إلى مجرد الممانعة. ولا شك أن مثل هذا الخطاب وتلك المواقف لا تهدف إلا إلى المزايدة اللفظية والمجانية على المعتدلين أمام الرأي العام العربي تربصا بهم، أو لافتعال أزمة خارجية بغية صرف انتباه شعوبها عن مشاكلها الحقيقية. فبعض الأنظمة التي لا حدود مباشرة لها مع إسرائيل تحتمي خلف بعدها الجغرافي عن ساحات المواجهة، الذي يقيها أي تبعات لتتخذ مواقف كلامية متشددة لا تكلفها سوى الحبر الذي كتبت به.