نفوز بالثقة أو لا نفوز بها ... تلك هي المسالة

نفوز بالثقة أو لا نفوز بها ... تلك هي المسالة

[escenic_image id="555926"]

تعد الثقة مفهوماً أنيقاً وسلعة ثمينة في هذه الأيام التي تعصف بها الأزمة الاقتصادية. وكما يقال لنا، فإنه بدون استعادة الثقة لن تقوم للأسواق قائمة مرة ثانية.

لقد ظلت مشكلات من هذا القبيل تعكر صفو السياسة الخارجية الأمريكية على نحو متزايد. ومقارنة بالإدارة السابقة، فسرعان ما أدرك أوباما أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تقطع الطريق وحدها حينما يتعلق الأمر بأمنها ولذا فقد عقد العزم في المائة يوم الأول له في الرئاسة على إعادة بناء الثقة بين الولايات المتحدة والعالم. وباتباع مقاربة تشاورية في التعاطي مع المشكلات الدولية، من خلال مد الأيادي والأذرع للمسلمين ونبذ كل أشكال التعذيب وإصدار قرار بإغلاق معتقلات جوانتانامو وفوق هذا وذاك، من خلال إظهار الاستعداد للاستماع وليس التلقين، فإن جهود الرئيس أوباما من أجل استعادة الثقة في قيادة الولايات المتحدة قد لاقت نجاحاً منقطع النظير حتى الآن.

وفي حقيقة الأمر، فإن الإستراتيجية الجديدة الخاصة بأفغانستان قد تم استحداثها باتباع مقاربة أكثر شمولاً تجاه الحرب. فبالإضافة إلى تعزيز القوة العسكرية والمساعدات المدنية في هذا البلد، فقد اعترف الرئيس أوباما أنه لا سبيل إلى تحقيق النجاح إذا لم يدخل في شراكة نشطة مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء. وبينما يمثل هذا حقا تغييراً محموداً في التوجه عما كانت عليه الإدارة السابقة، فإن استخدام نوع جديد من  الخطاب واستحداث سياسة جديدة هو الجانب السهل من المهمة. ويبدأ جانب التنفيذ حينما يشتد وطيس المعركة، وحينئذ سيحتاج أوباما إلى أن يعرف في أسرع وقت ممكن من يمكنه أن يثق به حقا ومن يمكنه الاعتماد عليه من أجل تقديم عون حقيقي على الأرض.

لقد كانت العراق هي المعركة الحقيقية بالنسبة لأمريكا أما أفغانستان، فلا. ومما يحسب لأوباما أنه سرعان ما تفهم هذه الحقيقة. فقد أدرك بوضوح أنه ليس بمجرد حشد المزيد من أفضل الموارد المتاحة بغرض اصطياد مشتبهي القاعدة أو الإغداق بالمساعدات لاستمالة العقول والأفئدة يمكن أن يتم تحقيق إنجازات ضخمة ما لم يكن ذلك متزامنا معه تعاطي واقعي مع الأبعاد الإقليمية والداخلية للنزاع.

ولذا فقد جاء تعيين أوباما لريتشارد هولبروك مبعوثاً خاصاً في أفغانستان بمثابة اعتراف بأنه بدون تعاون من جانب إسلام أباد، فإنه لا سبيل إلى إيجاد حل للجرح الأفغانستاني المتقرح. ولكن هل بإمكان أوباما الاعتماد حقا على باكستان من أجل أداء المهمة.

إن العلاقة بين المخابرات العسكرية الباكستانية وحركة طالبان هي علاقة لها جذور بعيدة وليس من الممكن نقض عراها بسهولة.لقد كانت هنالك دعوات متكررة تناشد الجيش بالتحرك لقمع تمرد حركة طالبان الجديدة على الحدود القبلية الغربية لباكستان، إلا أنه يبدو أنه ليس لديه عزيمة حقيقية للتدخل بالشكل المطلوب. ولازال الرئيس الباكستاني غارقاً حتى أخمص قدميه في قضايا الفساد والنزاعات الداخلية مع خصومه السياسيين.

وكانت محصلة هذا كله هي حكومة ضعيفة تبدو غير قادرة على أن تضغط على جيشها من أجل اتخاذ إجراء حاسم. إن نقص الثقة بين الولايات المتحدة وباكستان والذي جسده عدم رغبة الجيش في ترويض انتفاضة الإسلاميين المتطرفين (سواء كانوا من العناصر الإرهابية أو أعضاء حركة طالبان على حد سواء) في المناطق القبلية، قد اضطر الولايات المتحدة إلى استمرار الهجمات بالطائرات  التي لا تحمل طيارين على مواقع مختلفة في باكستان. ومع ذلك تحوم الشكوك حول جدوى هذه الهجمات إذ بقدر ما تتسبب  في قتل مشتبهي القاعدة فإنها تلهب نيران السخط الداخلي وتقود إلى انزلاق البلاد نحو المزيد من "التوغل الطالباني".

ويرجع تردد باكستان في سحق تمرد طالبان إلى سبب معروف جيداً: فالتنافس بينها و بين الهند يمتد إلى قلب أفغانستان نفسها. فأولاً: الجيش الباكستاني غير مدرب على القيام بعمليات عسكريه لقمع تمرد إخوانهم في الإسلام إلى الغرب من بلادهم، حيث تم إعداد الجيش منذ تكوينه لمواجهة الهند، المنافس اللدود لباكستان، وجيشها الكبير في الشرق. وثانياً، وهو الأهم، مازالت باكستان تنظر إلى طالبان على أنها قوة إستراتيجيه باكستانية تمنع الهند من تطويق باكستان ومحاصرتها.

وبعيداً عن ذلك، تبغي كلتا الدولتين السيطرة على العاصمة الأفغانية كابول كوسيلة إستراتيجية للحد من النفوذ الإقليمي للدولة الأخرى. حيث تنظر إسلام أباد بعين الشك إلى استثمارات الهند الضخمة في أفغانستان، والتي تلقى ترحيباً كبيراً من الرئيس الأفغاني حامد كرزاى. وبوضع هذا السيناريو في الاعتبار، تصبح مشكلة أوباما متمثلة في تحديد المدة التي سيظل خلالها قادراً على إبقاء الهند خارج الصراع بعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في مومباي. فقد كانت تلك الهجمات محاوله ناجحة من قبل الجماعات المتطرفة في باكستان لصرف انتباه الجيش الباكستاني بعيداً عن المناطق القبلية. وقد قام كلا البلدين بإرسال المزيد من القوات إلى الحدود الفاصلة بينهما، مما أدى إلى تصاعد التوترات مرة أخر بشكل خطير.

وقد قام الرئيس الأمريكي الجديد، الذي يتخذ موقفاً أقل أيديولوجية من سلفه ويعمل على حقن السياسة الخارجية للولايات المتحدة بجرعة من الواقعية البراجماتية والتي هي في أشد الحاجة إليها، بتقديم مقترحات هامة خلال مؤتمر المانحين الأخير في لاهاي لزيادة التعاون مع إيران. فمن مصلحة واشنطن وطهران أن تصبح أفغانستان دولة مستقرة وخالية من حركة طالبان ومن الأفيون. وبالمقارنة بالتدخل الباكستاني و الهندي، فإن النفوذ الإيراني قد اتسم حتى الآن بالإيجابية إلى حد كبير. فقد قامت إيران بتمويل العديد من المشاريع التنموية في أفغانستان، كما كانت مستثمراً نشطاً ساهم في عملية إنعاش البلاد اقتصادياً. وتظهر مساهمتها بشكل أكثر وضوحاً في المقاطعات الغربية من أفغانستان التي أصبحت مستقره الآن إلى حد كبير. حيث ازدهرت فيها الأعمال التجارية وأصبحت لديها بنية تحتية جيدة.

فمدينة هيرات، على سبيل المثال، هي المدينة الوحيدة التي يقال إن الكهرباء لا تنقطع عنها على مدار 24 ساعة. ولكن على الرغم من ذلك لم يتضح بعد مقدار التدخل الذي يمكن أن يسمح أوباما لطهران بممارسته عبر حدود إيران الشرقية، في ظل المخاوف من النمو المتزايد للنفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط.

ومن ناحية أخرى فإن هناك مخاوف من أن تحاول طهران استغلال حاجة أمريكا إلى تعاونها معها بشأن القضية الأفغانية كورقة مساومة في مفاوضاتها النووية. و بالرغم من أنه قد يكون هناك مجال للتعاون الإيجابي المشترك بين البلدين، إلا أنه من غير المرجح أن يختفي العداء الموجود بينهما بعد ثلاثة عقود من عدم الثقة المتبادلة بين البلدين.

ولكن من المؤكد أنه على الأقل يمكن الاعتماد على الحلفاء الأوروبيين في بذل المزيد من الجهود في أفغانستان. أو هكذا كانت تأمل الإدارة الأمريكية الجديدة. فقد غادر أوباما أوروبا العجوز، بعد سلسله من اللقاءات مع الزعماء الأوربيين و التي عقدت في شهر أبريل الماضي - و التي كان من ضمنها، قمة مجموعة العشرين في لندن، و اجتماع منظمة حلف شمال الأطلسي في ستراسبورج، واجتماع الاتحاد الأوروبي في براغ حاملاً حقيبة مكدسه بالأوراق التي تحمل كلمات طنانة ولكنها لا تحتوى سوى على عدد محدود من الإسهامات الحقيقية.

ومع تدفق الموارد على العاصمة كابول لتدريب و زيادة قوات الجيش الأفغاني وتقديم مساعدات جديدة لتقوية الحكومة الأفغانية، تتزايد الشكوك حول ما إذا كانت هذه المساعدات ستحقق أي نتائج دائمة. فهناك انتقادات كثيرة موجهة لحكومة حامد كرزاي تتهمها بعدم الكفاءة والفساد وتتهمه بعدم قدرته على فرض سلطته خارج محيط العاصمة كابول. و مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في شهر أغسطس المقبل، يحاول  أن يدعم كرزاي شعبيته من خلال استغلال المشاعر المعادية للولايات المتحدة.

لقد كان أوباماً طموحاً وحرص على أن تكون شبكة الشراكات واسعة النطاق بحيث تضم الجميع. فخلال الأيام المائة الأولى من حكمه، قطع أوباما شوطاً كبيراً لاستعادة الموقف العالمي والثقة الدولية في الولايات المتحدة. وإدارة أوباما لديها إستراتيجية جديدة وشاملة للحيلولة دون فشل الحرب في أفغانستان. والأمر المبشر أن هذه الإدارة تدرك أنه بغض النظر عن شيء، ليس بمقدور أمريكا أن تفوز بمفردها. وبالرغم من ذلك فإنه من غير المحتمل أن تتأتى ترجمة النوايا الحسنة لدى الرئيس الجديد إلى نتائج فعلية على أرض الواقع.

وحيث إن الدعم الذي يطلبه أوباما من الحلفاء والتعاون الذي يستجديه من الأعداء لن يتشكل على النحو الذي ينبغي، فسوف يأتي الوقت الذي تصبح فيه أمريكا مضطرة لاتخاذ قرارات صعبة والإقدام على خيارات قاسية بشأن من تثق به. إذن القضية هنا تتلخص في تحديد من تثق به أمريكا ومن لا تثق به. فسواء كان الجيش الباكستاني الطموح أو زارداري أو الهنود الغاضبين أو الإيرانيين المنافسين أو الأوروبيين المعارضين أو كرزاي الفاسد، فإن الخروج من هذه الورطة أمر لابد منه كي تنجح أمريكا في أفغانستان.

جريجوريو بتزا - يقوم بتحضير الدكتوراه في مجال العلاقات الدولية من كلية لندن للاقتصاد (بورصة لندن) ، وباحث يعمل ببورصة لندن للأفكار مركز الدبلوماسية والإستراتيجية. ويعمل أيضاً كنائب رئيس تحرير لمجلة الألفية للدراسات الدولية، ويساهم بصورة منتظمة في منشورات معهد أسبن.

font change