القاهرة: عبد الستار حتيتة
* عدد المشاركين في حوار «سجن الهضبة» في الخارج يتراوح بين 200 إلى 300 ليبي غالبيتهم يقيم في مصر بينهم قادة عسكريون ووزراء وسفراء سابقون.. والهدف إطلاق سراح آلاف السجناء من أنصار القذافي منهم رؤساء أجهزة أمنية وحكومية وعسكرية
* «قذاف الدم» لـ«المجلة»: داخل كل إنسان «ومضة خير قد تقدح في لحظة معينة».. نحن هدفنا الوطن والدفاع عنه من خلال هذه الحوارات التي لا تعني أن يستسلم أحدنا للآخر.. التنازلات في النهاية ليست لأحد على حساب الآخر ولكن من أجل ليبيا ومن أجل الوطن
* «القزيري» أحد مستشاري الحوار والاتفاق السياسي الليبي (الرسمي) لـ«المجلة»: البعض يستخدم موقوفين ومحكومين على ذمة قضايا ومتابعات وحتى أحكام صادرة ويفترض أنهم في عهدة الدولة لإنجاز مقاربات سياسية خاصة به تحت ذريعة الوحدة الوطنية
* قيادات «الجماعة المقاتلة» تقول إنها تحولت إلى حزب سياسي ولا علاقة لها بالمجاميع المسلحة.. وأهم زعمائها «بلحاج» و«الشريف».. والمفاوضات بدأت بإطلاق سراح رئيس برلمان القذافي «محمد الزوي» المحكوم عليه بـ20 سنة سجنًا ووصل إلى مصر منذ ثلاثة أسابيع
* «الزوي» يعد أحد الآباء الروحيين من مؤسسي ثورة القذافي عام 1969.. ونقل المفاوضات من طرابلس للقاهرة.. والجلسات تعقد في مدينتي «نصر» و«الرحاب» شرق العاصمة وممثلون لكتلة «سيف الإسلام» و«تجمع المستقلين» وعدة شخصيات مهمة ما زالوا «يراقبون عن كثب»
* «الزبيدي» الرئيس السابق للجنة القانونية لمؤتمر القبائل الليبية لـ«المجلة»: أراقب الحوار عن كثب وأدلي ببعض الآراء التي أراها على المتحاورين دون أن أكون مشاركًا فيه.. لكن إذا لم يتم الإفراج أولا عن السجناء وعودة المهجرين فسنكون كمن يضع العربة أمام الحصان
وصل إلى القاهرة منذ عدة أيام رئيس مؤتمر الشعب العام (البرلمان)، في عهد معمر القذافي، محمد الزوي. كان الرجل النحيف الذي تخطى الستين من العمر مسجونا في طرابلس في سجن اسمه «الهضبة» يقع على طريق المطار وتشرف عليه، منذ سقوط النظام السابق، الجماعة الليبية المقاتلة الموالية لتنظيم القاعدة، وهي جماعة يرأسها عبد الحكيم بلحاج، الذي أصبح ذائع الصيت في الحياة السياسية والأمنية الليبية منذ دخوله إلى عرين القذافي في «باب العزيزية» بطرابلس العشرين من شهر أغسطس (آب) سنة 2011.
فور وصوله إلى العاصمة المصرية، بدأ الزوي يجري اتصالات بعشرات من قيادات ليبية كانت ملء السمع والبصر أيام القذافي... وزراء وقيادات عسكرية وضباط سابقون وسفراء خرجوا من الخدمة. السبب هو أن الزوي لم يأت لكي يجلس على مقاعد الانتظار المنتشرة في مصر، ولكن كانت معه خطة تستهدف إطلاق سراح نحو ألف رجل، أو يزيد، من قادة وضباط النظام السابق المعتقلين والمسجونين والمحكوم عليهم، والموجودين في سجن «الهضبة» وعدة سجون أخرى في طرابلس وغيرها.
ومضة خير
وردا على سؤال عن كيفية موافقة أنصار النظام السابق على الدخول في حوار مع الجماعة الليبية المقاتلة المحسوبة على تنظيم القاعدة، أجاب أحمد قذاف الدم، ابن عم القذافي، ومبعوثه الشخصي لسنوات طويلة، لـ«المجلة»، من مقر إقامته في القاهرة، بقوله إن هناك في كل مكان، وداخل كل إنسان «ومضة خير قد تقدح في لحظة معينة». ويضيف، بعد أن أقر بصحة جولات الحوار التي يقوم بها الزوي، قائلا: نحن هدفنا الوطن، والدفاع عنه من خلال هذه الحوارات... «الحوارات لا تعني أن يستسلم أحدنا للآخر... والتنازلات هي في النهاية ليست لأحد على حساب الآخر، ولكن من أجل ليبيا، ومن أجل الوطن».
يمكن لمثل هذه المبادرة، التي يجري الكشف عن تفاصيلها هنا للمرة الأولى، أن تقلب الطاولة على المحاولات التي تقوم بها الأمم المتحدة لترميم مخرجات «حوار الصخيرات» التي أنجبت مجلسا رئاسيا غير قادر، على ما يبدو، على قيادة الدولة. ينظر كثير من الأطراف المنخرطة في مفاوضات «سجن الهضبة»، ومن بينهم قيادي عسكري كبير من عهد القذافي، إلى اللقاءات الأخيرة المعلنة بين المجلس الرئاسي (في الغرب) ومجلس النواب (في الشرق)، على أنها «زوبعة في فنجان»، و«لن تقدم ولن تؤخر»، و«هؤلاء ليس في أيديهم شيء».
[caption id="attachment_55255048" align="alignright" width="300"] أحمد قذاف الدم، أحد المشاركين في الحوار الفريد من نوعه، وقال إن الهدف حقن دماء الليبيين[/caption]
ويشير هذا القيادي العسكري، في المقابل، إلى مفاوضات «سجن الهضبة» باعتبارها تدور بين أنداد تمكنوا حتى الآن من إبداء قدرة على تجاوز الماضي بشقيه... أي ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول) (ثورة القذافي عام 1969) وثورة فبراير (شباط) (أي الثورة التي دعمها حلف شمال الأطلسي الناتو في 2011). ويضيف موضحا فيما يتعلق بـ«الجماعة المقاتلة» وصلتها بـ«القاعدة»، والمحاذير المتعلقة بمثل هذه الأمور، أن هذه الجماعة «أعتقد أنها تجاوزت موضوع موالاة (القاعدة)، وأصبحت تبحث عن مخرج سياسي للأزمة التي تمر بها. لديهم حزب سياسي، ونحن في نهاية المطاف نسعى لإنقاذ الدولة من الانهيار والتقسيم».
الجماعة الليبية المقاتلة
كيف خرج الزوي من سجن «الهضبة» شديد الحراسة، الذي يلقى فيه المسجونون معاملة قاسية؟ هنا مربط الفرس. في أحد أيام شهر يوليو (تموز) الماضي، دخل أحد قادة «الجماعة الليبية المقاتلة» إلى السجن، لكي يستأنف ما بدأه بشأن الاستفادة من زعماء نظام القذافي المحتجزين والمحكوم عليهم بعقوبات مشددة، في وقت كانت فيه موازين القوى تتغير على الأرض في ليبيا، ضد مستقبل «الجماعة» نفسها التي تأسست في أواخر ثمانينات القرن الماضي، في جبال أفغانستان، وتصدرت مشهد احتلال طرابلس طوال السنوات الخمس الأخيرة.
من هنا، وأمام الانسداد السياسي الذي أصاب البلاد بالفوضى، كما يقول أحد المصادر الأمنية المحسوبة على «الجماعة المقاتلة» لـ«المجلة»، جاءت فكرة أن يستفيد كل طرف من الإمكانات الموجودة لدى الطرف الآخر، خصوصا أن أنصار القذافي يرفضون المجلس الرئاسي وحكومته المقترحة. وكل من «الجماعة المقاتلة» و«أنصار القذافي» يشتركان في رفض مجلس السراج. ويضيف دبلوماسي ليبي سابق في القاهرة أن «الجماعة المقاتلة، بلا شك، أصبحت تشعر بأنها قاب قوسين أو أدنى من إعلان فشلها في إدارة الدولة الليبية بعد سنوات من سقوط النظام السابق».
[caption id="attachment_55255049" align="alignleft" width="300"] محمد الزوي أحد مؤسسي «ثورة القذافي 1969» في جانب من مناقشات الحوار مع «الجماعة الليبية المقاتلة» عقب وصوله من «سجن الهضبة» في طرابلس إلى القاهرة[/caption]
ظل شبح العلاقة بين «الجماعة المقاتلة» وتنظيم القاعدة قائما لسنوات. واضطر قادة «الجماعة» الذين كانوا في سجون القذافي إلى إجراء مراجعات للتخلي عن العنف. كان من بين هؤلاء «بلحاج» نفسه. وفي مقابلة سابقة معه في مقر إقامته في طرابلس، قال صراحة إنه أصبح يعمل، بعد سقوط نظام القذافي، انطلاقا من حزب سياسي أسسه في العاصمة الليبية اسمه «حزب الوطن». ويعد القيادي الآخر في «الجماعة»، أي خالد الشريف، أكثر تمسكا بـ«الميراث الجهادي» في جبال أفغانستان، مقارنة بـ«بلحاج» الذي انخرط في الأعمال الاقتصادية وأصبح أكثر انفتاحا على السياسة وتقلباتها. وبين وقت وآخر يثور الجدل بين الرجلين بشأن المستقبل.
وفي المقابل، يقبع قرابة ألف رجل من عهد القذافي، لديهم خبرة طويلة في الحكم، داخل السجون، أي تحت يد «الجماعة المقاتلة»، إضافة إلى لجوء عدة آلاف آخرين من قادة وأنصار النظام السابق إلى دول الجوار، خصوصا مصر، بعضهم زعماء سياسيون ودبلوماسيون، وبعضهم من ضباط الصفين الأول والثاني. ويعد الشريف، أحد أبرز قادة «الجماعة الليبية المقاتلة» ممن يدركون المتغيرات التي تسبب فيها دخول السراج إلى طرابلس، وتوليه قيادة الحرب ضد تنظيم داعش في سرت. ويقول المصدر الأمني القريب من هذه «الجماعة»: «وجود السراج على رأس الحرب ضد (داعش)، حتى لو كان وجودا صوريا، فإنه غيَّر الموازين أمام المهتمين بالشأن الليبي في المنطقة والعالم. هذا أعطى أفضلية لهم على حسابنا».
تفاهم نادر
ووفقا لمصادر أخرى، من أنصار النظام السابق، فقد أعطى كل من بلحاج، والشريف، في تفاهم نادر، إشارة البدء للدخول في حوار مع المسجونين في «الهضبة» ومن بينهم الزوي نفسه قبل إطلاق سراحه (محكوم عليه بالسجن 20 عاما)، ورجل المخابرات القوي في عهد القذافي، عبد الله السنوسي (محكوم عليه بالإعدام)، وآخر رئيس للوزراء أيام القذافي، البغدادي المحمودي (محكوم عليه بالإعدام)، والمعاون السابق للوحدات الأمنية في النظام السابق، الساعدي القذافي، نجل معمر القذافي (لم يصدر حكم بحقه بعد)، ورئيس جهاز الأمن الخارجي في العهد السابق، أبو زيد دوردة (محكوم عليه بالإعدام)، ومدير الأمن الوطني الداخلي بطرابلس، ميلاد دامان (محكوم عليه بالإعدام).
وبدأت المفاوضات مع عدد آخر من القادة السابقين المسجونين في «الهضبة»، أيضا. من بينهم عبد الناصر الغندور، (أستاذ في القانون، ومن المقربين من رجل المخابرات السنوسي. محكوم عليه بالإعدام). وأحد أبناء رجل مطلوب القبض عليه بعد 2011، يدعى عبد الحميد السايح (السايح كان مسؤول المخابرات في طرابلس، وكان يعتقد أنه جرى القبض عليه، إلى أن ثبت أن المقبوض عليه هو ابنه. ولم يصدر حكم بحق هذا الشاب بعد).
وتقرر كذلك الإفراج عن رجلين آخرين مع الزوي، لتحسين عملية التحاور على ما يبدو، هما محمد أحمد الشريف (وزير سابق في عهد القذافي، وكان أمينا عاما لجمعية الدعوة الإسلامية. وعقوبته السجن لمدة 20 عاما). وعبد المجيد القعود (شغل لبعض الوقت منصب أمين لجنة شعبية عامة، ووزير الزراعة ووزير الإسكان في عهد القذافي. وكان آخر منصب له هو رئيس مشروع النهر الصناعي. ومحكوم عليه بالسجن لمدة 20 عاما). وعلي ماريا (سفير ليبيا السابق في مصر. ولم يحكم عليه بعد). بالإضافة إلى ضباط محسوبين على القذافي يحملون رتبا عسكرية من درجة عقيد وما فوق.
وجرى التوصل إلى عشر نقاط للتفاهم حول التعايش في الدولة من منظور جديد. هذا المنظور، وفقا للمصادر القريبة من جلسات الحوار، التي تحدثت لـ«المجلة» شرط عدم تعريفها، مبني على أساس أن كل طرف ما زال لديه القدرة على حشد الشارع، وتولي مقاليد الأمور في الدولة، بغض النظر عن وجود قدرة حقيقية على هذا الأمر من عدمه. فقد تبين أن هناك كثيرا من القيادات الأخرى المحسوبة على نظام القذافي مكتفية بمراقبة الوضع من بعيد، دون أن تشارك على موائد الحوار التي انتقلت أخيرا من سجن الهضبة في طرابلس، إلى شقق مفروشة وأروقة فنادق في مدينتي «نصر» و«الرحاب» في شرق القاهرة.
الزوي خبرة سياسية وإدارية كبيرة
وبحسب المصادر نفسها، فقد وقع الاختيار على الزوي لينتقل من سجنه في طرابلس إلى العاصمة المصرية، ولكي يبدأ في عرض ما جرى التوصل إليه في سجن الهضبة. والتقى في القاهرة بأكثر من مائتي رجل من القيادات البارزة في النظام السابق، وغالبيتهم يقيم بالفعل في العاصمة المصرية. ويمتلك الزوي خبرة سياسية وإدارية كبيرة، فقد كان أمينا لمؤتمر الشعب العام، أي رئيس البرلمان الليبي في آخر أيام القذافي. كما سبق أن شغل عدة مناصب أخرى مثل وزير العدل، وقبلها سفير ليبيا في كل من بريطانيا والمغرب، بالإضافة إلى مندوب بلاده لبعض الوقت في الأمم المتحدة.
المفاوضات لا تدور حول الإفراج عن المساجين في سجن الهضبة والسجون الأخرى في ليبيا فقط، لكنها تشمل نقاطا أخرى، من بينها عودة آلاف المهجرين الليبيين في خارج البلاد، إلى ديارهم. ويقول قذاف الدم: «نحن على استعداد للتحاور مع الجميع، لنلتقي على كلمة سواء، ولكن، نحن طبعا، لا نستطيع أن نقوم بأي خطوات ما لم يرجع مهجرونا إلى ديارهم، وخروج أسرانا إلى النور... إذا ما التقينا حول هذا، نستطيع أن نبني على هذه الخطوات خطوات أخرى جديدة. نحن على تواصل مع الجميع في الداخل وفي الخارج وحتى داخل السجون».
[caption id="attachment_55255050" align="alignright" width="300"] عبد الله السنوسي المحكوم عليه بالإعدام يعد أحد الأطراف المهمة في إدارة الحوار مع «المقاتلة» من مقره في «سجن الهضبة»[/caption]
وتنص الورقة التي جاء بها «الزوي» إلى القاهرة، بعد موافقة سجناء الهضبة عليها وأصبحت تحت مجهر البحث والمناقشة بين أنصار النظام السابق في مصر، على الآتي... «العفو الشامل عن الليبيين كافة من تاريخ الأول من سبتمبر عام 1969، وإلي تاريخ التوقيع على هذه الوثيقة»، و«إخلاء جميع السجون من السياسيين»، و«إلغاء جميع القوانين التي من شأنها أن تعيق المصالحة، ومنها إلغاء العزل السياسي والحراسة، وإسقاط الملاحقات الخارجية»، و«إنشاء هيئة الإنصاف لجبر الضرر، بحيث ألا يلجأ أي مواطن ليبي لاستيفاء حقه بنفسه، ويكون للهيئة ذمة مالية تقدم من خلالها تعويضات لكل المتضررين»، و«الاحتكام إلى العدالة الانتقالية في فض النزاعات»، و«عودة المهجرين والنازحين وحل مشكلاتهم»، و«إيقاف الاقتتال وسحب السلاح من الميليشيات وتجميعه في المعسكرات»، و«إنشاء جيش وطني موحد مهمته حماية الوطن وصيانة الدستور»، و«صياغة دستور متفق عليه ينظم الحياة السياسية للدولة»، وأن يكون «صندوق الانتخابات هو الفيصل في من يتولى أمر الحكم في ليبيا».
ووفقا للتسريبات التي خرجت من أروقة الحوار، فقد سبق للزوي مقابلة رئيس البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق، عقيلة صالح، حيث قام باطلاعه على ورقة المفاوضات ببنودها العشرة. وقال أحد المشاركين في الحوار لـ«المجلة»: «حتى الآن، نحن متفقون على أنه بعد توقيع الاتفاق بين الجماعة المقاتلة وأنصار القذافي، سيتم عرضه على كيانات الدولة، مثل المجلس الرئاسي ومجلس النواب (البرلمان) والجيش الوطني، بغض النظر عما إذا كانوا سيباركونه أم لا».
وفرض المقربون من الزوي ما يشبه الحصار على تحركاته بمصر، ولم تتمكن «المجلة» من الحصول على تعليق مباشر منه بشأن المفاوضات. لكن أحد القيادات التي شاركت في جانب من الحوار في القاهرة، كشفت لـ«المجلة» عن أن الزوي قدم نفسه لتكتلات محسوبة على النظام السابق باعتباره «شخصية مستقلة». وأضافت أنه فور وصوله إلى العاصمة المصرية، التقى بالتكتل المعروف باسم «جبهة النضال الوطني» التي يعد قذاف الدم، أبرز قياداتها، و«الحركة الوطنية الشعبية» وهي برئاسة مصطفى الزايدي (كان آخر منصب له أيام القذافي وكيل وزارة الخارجية. كما أنه وزير صحة سابق). و«التجمع الوطني» برئاسة أسعد الزهيو، وهو تجمع يغلب عليه الطابع الشبابي من أبناء الجيل الجديد.
علاقات دولية
وقال قذاف الدم لـ«المجلة»: «نحن شركاء أساسيون في هذا الحوار... ونحن موافقون على النقاط العشر التي وردت في ورقة الزوي». إلا أنه انتقد من وصفهم بـ«المزايدين» على مواقف الزوي ومبادراته وتحركاته، من بعض الأطراف، قائلا: «أريد، بهذه المناسبة، أن أذكِّر الإخوة، رفاقنا في كل مكان، بأنه رغم الآلام التي تعرضنا لها منذ غزو الناتو ليبيا في 2011، فإن بعض الناس بدأت تزايد على محمد الزوي، الذي كان أحد الثلاثة الذين أسس معهم الأخ معمر القذافي، في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، الخلايا المدنية لثورة الفاتح (الأول) من سبتمبر».
وأضاف أن الزوي، عبر كل هذه السنوات «تقلد أعلى المناصب في الدولة الليبية، واكتسب خبرة طويلة، وعلاقات دولية هائلة»، مشيرا في الوقت نفسه إلى الثقل الذي تمثله شخصيات أخرى من أنصار النظام السابق ممن هم في السجون، ومنها سجن الهضبة نفسه، مثل «إخوتنا أبو زيد (دوردة)، وعبد الله (السنوسي)، وبقية الرفاق، و(عبد الله) منصور (كان وزير إعلام في عهد القذافي واسترده حكام ليبيا الجدد بعد لجوئه إلى النيجر)، وأحمد إبراهيم (أستاذ فلسفة من أقارب القذافي)». وقال قذاف الدم أيضا إن هؤلاء، ومن معهم «هم الذين لديهم الخبرة، ولا أحد يزايد عليهم، فهم داخل السجون».
ويبدو أن هناك بعض المعارضين أو منتقدي التفاوض الذي يبدو غريبا من نوعه بين كتلتين تعدان بمثابة العدوين اللدودين لبعضهما منذ عقود. فقد بدأت أنشطة «الجماعة المقاتلة» ضد «نظام القذافي» من خلال هجمات دامية في منتصف تسعينات القرن الماضي، ضد الجيش والشرطة، إلى أن صعدت «الجماعة» على خشبة المسرح السياسي فيما يعرف بـ«ثورات الربيع العربي». وشدد قذاف الدم على أن «كل هؤلاء الذين يزايدون على الإخوة (الذين في السجون)، عليهم أن يتوقفوا عن هذا الأسلوب لأن البلد ضاعت، ونريد أن ننهي هذه المأساة بالوسائل السلمية التي تؤدي الغرض، وهو حقن دماء الليبيين وحماية الوطن».
[caption id="attachment_55255051" align="alignleft" width="300"] البغدادي المحمودي، آخر رئيس وزراء في عهد القذافي، من بين المشاركين في حوار «النقاط العشر» من سجنه في طرابلس[/caption]
وقال إن عدد السجناء من أنصار النظام السابق في السجون الليبية يقدر بعدة آلاف، وليس ألفا فقط كما يردد البعض. و«على كل حال، نحن كما نقول دائما، الصراع في ليبيا أخذ منحى خطيرا يهدد بقاء الوطن، وبالتالي علينا أن نبادر لإيجاد مخارج مع الخيّرين من الليبيين». وأضاف موضحا: «تواصلنا مع الجميع، ومن الطبيعي أنه من الصعب التفاهم على وطن لم نعد نعرف فيه من سيحاكم من... الجرائم والاستباحة والنهب والسلب. وبالتالي رأينا أننا، جميعنا، لا بد أن ننحني للوطن، ونقدم تنازلات، ونطوي صفحة الماضي ونسقط هذه الفوضى العارمة، ويعود الوطن للجميع».
وعما إذا كان حوار «سجن الهضبة» يجري بعيدا عن مجلس السراج وعن الحوارات الأخرى التي يراها المراقبون على شاشات التلفزيون؟ أكد قذاف الدم أن الحوار القائم هو «الطريق الصحيح»، لأن «كثيرا من حوارات الأمم المتحدة، للأسف، حوارات وهمية وليست حقيقية. الأمم المتحدة ترعى حوارا بين طرف واحد (المقصود به أنصار ثورة فبراير)، ولم يكن فيه الطرف الأساسي (أي أنصار القذافي)»، قائلا إن «هذا الطرف هو الرقم الصعب في هذه المعادلة، ألا وهم أنصار ثورة الفاتح. هذا الحوار سوف يبشر الليبيين غدا بفجر جديد بإذن الله».
وتابع قائلا إن وجود الزوي في القاهرة، دليل على أن هناك خطوات بدأت تأخذ طريقها إلى النور، مشيرا كذلك إلى الإفراج عن «مئات الأسرى» من سجون مصراتة (المدينة ذات الميليشيات القوية والواقعة على بعد نحو مائتي كيلومتر إلى الشرق من طرابلس). ووصف ما قامت به مصراتة من إطلاق السجناء بأنه يمثل أيضا خطوات إيجابية. وأضاف أن الزنتان لم يعد فيها أي سجين. (هذه المدينة لديها ميليشيات منافسة وكانت تحتجز قيادات من أنصار النظام السابق من بينهم نجل القذافي، سيف الإسلام). وقال قذاف الدم: «كل هذا يفتح الطريق أمام تعاون أكبر من أجل ليبيا، ولحقن دماء الليبيين، وإنقاذ البلاد من أن خطر العودة تحت القوى المتربصة بها، أو ضياعها في فوضى عارمة لا تنتهي».
ويتراوح عدد المشاركين في بحث ورقة الزوي ما بين 200 إلى 300 من قيادات النظام السابق. وبالإضافة إلى «الزايدي»، هناك، من بين من يتابعون عملية التفاوض والحوار، المهندس عمران بوكراع (وزير الكهرباء السابق ومدير الشؤون العربية في وزارة الخارجية الليبية سابقا)، وسعيد رشوان (كان مديرا لمصرف الوحدة الليبي)، ومحمد جبريل (أمين مساعد في مؤتمر الشعب العام أيام القذافي)، ورمضان بحباح (آخر سفير ليبي في الهند في عهد القذافي)، وونيس الشاوش (متحدث باسم الخارجية سابقا وآخر سفير ليبي في قطر أيام القذافي) وغيرهم.
أنصار النظام السابق
وقال أحد المشاركين في ثلاث جولات، على الأقل، عقدت في مدينة نصر في شرق القاهرة، إن «من يعارضون هذا الاتفاق من أنصار النظام السابق، أقلية. الكل يسعى لإنهاء معاناة السجناء داخل ليبيا وعودة المهجرين الذين ساءت أحوالهم في البلدان التي يقيمون فيها منذ 2011 مثل مصر وتونس وغيرهما»، مشيرا إلى أن هناك شخصيات محسوبة على النظام السابق، ومع ذلك لم تظهر حتى الآن في أروقة الحوار، من بينهم متحدث سابق باسم الجيش الليبي، وقيادي مهم آخر كان آمرا للحرس الثوري الليبي، ووزير سابق للأوقاف الليبية، وعدد من أمناء الشعبيات (أي رؤساء بلديات)، وضباط.
وأضاف أن القيادي الذي يدير عملية التنسيق للموضوع برمته، لكن من الناحية الفنية الصرفة، أستاذ قانون عمل في السابق سفيرا لليبيا في العراق وشغل موقعا وزاريا في عهد القذافي، مشيرا إلى أن اللقاءات التي التأمت في القاهرة أخيرا، أمكن من خلالها حل بعض المشكلات الأخرى التي تتعلق بأنصار النظام السابق، ومن بينهم ثلاثة مساجين منذ عام 2011 انتهى بهم المطاف تحت أيدي الجماعات المتطرفة التي يحاربها الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق أول خليفة حفتر.
وقال إن المتطرفين الذين تحصنوا في ضاحية القوارشة في بنغازي هددوا بقتل القادة والضباط الثلاثة (الذين كانوا مسجونين في المدينة)، في محاولة لمنع الجيش من التقدم في الضاحية، وأن هذا تطلب إجراء اتصالات مع زعماء في الجيش ومع سياسيين ورجال دين بالمنطقة الشرقية، للحيلولة دون قيام المتطرفين بقتل الرجال الثلاثة، وتوفير ممر آمن للخروج من هذا المأزق. وأضاف أن «النجاحات التي يحققها زخم الحوار تدفع كثيرا من الأطراف إلى القبول بها بوصفها حلا للمشكلات الرئيسية في ليبيا، ألا وهي حالة الاحتقان المستمرة منذ عام 2011 بين رجال النظام السابق، وما يسمى (الثوار)، وميليشياتهم، ومن بينهم الجماعة الليبية المقاتلة».
[caption id="attachment_55255052" align="alignright" width="300"] عبد الله منصور، كان وزير إعلام في عهد القذافي، واسترده حكام ليبيا الجدد بعد لجوئه إلى النيجر، وهو من المحتجزين في «سجن الهضبة»[/caption]
لكن ما زالت هناك أطراف أخرى تبدو بعيدة عن مفاوضات «سجن الهضبة» حتى الآن، من بينها «الجبهة الشعبية لتحرير ليبيا»، وهي جبهة تحت التأسيس برئاسة سيف الإسلام القذافي. وقال مصدر يشارك في جلسات الحوار «حتى تاريخه، لم يحضر أي من أعضاء اللجنة أو أي من الممثلين عنها في مصر». وهناك الكتلة التي يطلق عليها البعض اسم كتلة المستقلين، التي تراقب مجريات الحوار عن كثب، ومن بين هؤلاء، علي الأحول، رئيس المجلس الأعلى للقبائل الليبية، والدكتور إبراهيم أبو خزام، وهو أكاديمي ليبي له اعتبار في الوسط السياسي، والدكتور محمد الزبيدي، الرئيس السابق للجنة القانونية لمؤتمر القبائل الليبية، وغيرهم.
ويقول الدكتور الزبيدي، لـ«المجلة»، إنه ليس ضد المصالحة بين الليبيين، لكن جميع الدول التي شهدت صراعات مسلحة داخلية، تمت المصالحة الوطنية فيها، بعد أن أقدمت السلطة المسيطرة على خطوات من شأنها المساعدة على الوئام المجتمعي، مثل ما حدث في تجربة جنوب أفريقيا، حيث تصالح السود مع البيض بعد أن أفرج البيض عن السجناء كافة، بمن فيهم نيلسون مانديلا، وأجريت انتخابات نزيهة، وبعدها تمت المصالحة الوطنية.
ويرى الزبيدي أن الإفراج عن المساجين وعودة المهجرين ينبغي أن يسبق أي توقيع للاتفاق. وقال إنْ يتم عقد اتفاقات مع سجناء، فإنه يعد من الناحية القانونية الصرفة، إجراء باطلا، لأن إرادة السجين وهو بين يدي سجانه، تكون معيبة، و«عيب الإرادة مبطل لجميع الإجراءات القانونية سواء على مستوى المعاملات الفردية أو على مستوى الدولة». وأضاف أن «هؤلاء أناس سجناء، فكيف سيتم الاتفاق معهم وهم خلف القضبان»، مشيرا إلى أن قيادات طرابلس ما زالت تعترض على قرار البرلمان بالعفو العام عن السجناء، وما زالت تعمل بقانون العزل السياسي أيضا، ودعا إلى الإفراج عن السجناء وعودة المهجرين أولا: «وأي إجراءات تسبق هذا مثل من يضع الحصان أمام العربة».
وعما إذا كان يعتقد وجود أي حساسيات يمكن أن تعترض الحوار بسبب وجود قيادات ظلت محسوبة على تنظيم القاعدة في ليبيا، قال إن هذه الجماعة التي تقود الحوار كانت سنة 2009 خلف القضبان وكان المسجونون الآن، ومنهم رئيس المخابرات «السنوسي»، هم من يتحاورون معهم، وعلى ذلك خرج «بلحاج» و«الشريف» في تلك السنة، والآن نشهد السيناريو نفسه لكن بطريقة معكوسة. وعن درجة اقترابه من الحوارات التي تشهدها القاهرة في الوقت الحالي برئاسة الزوي، قال الزبيدي: «كنت أراقب الحوار عن كثب، وأدلي ببعض الآراء التي أراها، على المتحاورين، دون أن أكون مشاركا فيه».
ومن العاصمة طرابلس، يقول طارق القزيري، الرئيس السابق للمركز الليبي للدراسات، وأحد مستشاري الحوار والاتفاق السياسي الليبي (الرسمي)، لـ«المجلة»، معلقا على مفاوضات «الجماعة المقاتلة وأنصار القذافي»، إنه «من حيث المبدأ، لا يمكن الاعتراض على أي تواصل بين أطراف الأزمة الليبية أو بعضها، فالحوار إن لم يُنهِ التوتر، سيخففه، ويضعف مسار العنف بلا شك... لكن السؤال سيكون طبيعيا من حيث قدرة هذه الأطراف المتحاورة على تمثيل قوى فاعلة على الأرض سواء داخل أو خارج ليبيا. وكذلك في المغزى الأخلاقي من حوار بين أطراف كانت هي المتشددة ولم تكتفِ بتكفير وشيطنة الآخر، بل طال هجومهم كل من يحاول رأب الصدع سابقا... وفجأة باتوا الآن هم القيّمون على قيم التسامح والألفة الوطنية».
ويضيف أن «الأهم أن ما يرشح من أخبار أن البعض يستخدم موقوفين ومحكومين على ذمة قضايا ومتابعات وحتى أحكام صادرة، ويفترض أنهم في عهدة الدولة، لإنجاز مقاربات سياسية خاصة به، تحت ذريعة الوحدة الوطنية وطي صفحة الماضي... وهذا ما يجب التوقف عنده في التفصيل الذي عادة ما تربض فيه الشياطين».