لا جدال في أن الوضع على الأرض في ليبيا شهد تطورات إيجابية عديدة منذ تنصيب المجلس الأعلى للدولة الجديد، وتعيين الحكومة المؤقتة التي يرأسها رجل الأعمال عبد الحميد الدبيبة. فمعظم الأعمال العدائية العسكرية توقفت، وعادت منشآت نفطية متعددة للإنتاج ولو بأقل من طاقتها المعهودة، كما تم فتح عدة مقاطع في الطريق الساحلي الرابط بين الغرب والشرق؛ فيما لا يزال وقف إطلاق النار صامدا رغم بعض الاشتباكات التي تحصل بين الفينة والأخرى.
لقد سجل مؤتمر باريس المنعقد يوم 12 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 هذه المعطيات في خانة الإيجابيات، التي تمثلت أيضا في ارتفاع عدد الدول المشاركة من 17 دولة في مؤتمر «برلين-2»في 23 يونيو (حزيران) الماضي إلى 30 دولة، وفي ترسيخ مشاركة ليبيا بوفد واحد موحد تماما كما حصل في مؤتمر «برلين-2»عكس مؤتمر برلين الأول، الذي حضره وفدان ليبيان متناحران، ناهيك عن تأكيد الاهتمام الأميركي القوي والمباشر بالأزمة الليبية، وتجديد رغبة واشنطن في المساعدة على وضع هذه الأزمة على سكة التسوية المنشودة، خلافا لما كان عليه الوضع في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
وعلى غرار مؤتمر «برلين-2»فقد زكى مؤتمر باريس كافة الخطوات التي أعلنت الحكومة الليبية المؤقتة العزم على تنفيذها للوصول إلى تنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2021، مشددا على ضرورة انسحاب القوات الأجنبية وكل ميليشيات المرتزقة من البلاد وفق خطة العمل التي وضعتها اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، فضلا عن التعجيل بمساعدة الليبيين على نزع السلاح المنتشر بطريقة فوضوية كخطوة أولية لمحاربة الإرهاب وجرائم الإتجار بالبشر، والهجرة غير الشرعية.
ورغم لغة الوعيد التي وجهها المؤتمر لكل الجهات التي تحاول علانية أو سرا وضع عراقيل في طريق إنجاز الاستحقاقات الانتخابية في موعدها، وفي مساعي الانتقال السياسي الديمقراطي المأمول في ليبيا؛ فإن المؤتمرين لم يتمكنوا من إقرار خطوات عملية ذات طبيعة عقابية ضد مختلف المتورطين عسكريا في ليبيا، كما لم يتفقوا على جدول زمني محدد التواريخ للانسحابات المنشودة.
ولا شك أن بعض أسباب هذا الإخفاق تكمن في حدة تضارب مصالح الأطراف الدولية والإقليمية المتدخلة عسكريا وسياسيا في الشأن الليبي، وتوجسها من بعضها البعض. فهذا التضارب قاد من قبل، وفي الكثير من الحالات إلى صدامات ومناوشات عسكرية عبر وسطاء مسلحين محليين أو ميليشيات مرتزقة تم استقدامها من الخارج، كما أفرز مواقف سياسية ودبلوماسية متباينة توارت معها العديد من التفاهمات وتلاشت الكثير من التحالفات.
وخلافا للقوى الأوروبية الأكثر انغماسا في الملف الليبي وهي فرنسا، وألمانيا وإيطاليا، التي أبانت عن بعض الانسجام في مواقفها بإعلان رئاستها الثلاثية المشتركة لمؤتمر باريس، وبالإفصاح رسميا عن مساندتها لتنفيذ خارطة العملية الانتخابية في موعدها، فإن موقف كل من تركيا وروسيا باعتبارهما الدولتين الأكثر حضورا عسكريا مباشرة أو من خلال ميليشيات محلية ومرتزقة أجانب ما يزال مترددا ومتلكئا بشأن تقديم دعم صريح للمسار السياسي للتسوية في ليبيا، كما يتضح من مواقف الجماعات المحلية المرتبطة بهذه الدولة أو تلك من خلال إما تشكيكها في القوانين الانتخابية الصادرة عن مجلس النواب باعتبارها مخالفة للإعلان الدستوري والاتفاق السياسي أو المطالبة بتعديلها.
ويعزو بعض المراقبين الغموض الذي يعتري الموقفين الروسي والتركي إلى ما تبديه الدولتان من إصرار قوي على تأمين عدم استبعاد أو تهميش حلفائهما المحليين من صورة اللعبة السياسية المستقبلية، لأن عن طريق هؤلاء يمكنهما ضمان حصة محترمة من كعكة إعادة الإعمار التي قدرها منتدى اقتصادي استضافته إيطاليا في أغسطس (آب) الماضي بحوالي 500 مليار دولار في مشاريع متعددة في مجالات الطاقة والمياه والبنية التحتية وإعادة بناء المساكن ومقرات الإدارات العمومية في معظم مدن وجهات البلاد. فالدولتان معا خسرتا الكثير من الفرص الاقتصادية والتجارية بعد سقوط نظام العقيد القذافي، ولن يقبلا بالخروج خاويي الوفاض مرة أخرى، خصوصا وأنهما استثمرتا كثيرا في الأزمة الليبية على مدار العشر سنوات الأخيرة.
وإذا كانت مواقف القوى الدولية والقوى الإقليمية غير العربية مما يجري على الساحة الليبية هو نتاج السعي إلى تأمين المصالح الاقتصادية والتجارية، وإيجاد موطئ قدم استراتيجي في واسطة العقد الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط بما يسمح بالمشاركة مستقبلا في ثروات الغاز التي تختزنها مياه شرق المتوسط، وبما يساعد في تحجيم مخاطر الهجرة السرية والأنشطة الإرهابية المحتملة، فإن معظم الدول العربية تؤكد على أن مواقفها من الوضع في ليبيا همها الوحيد هو الرغبة في إعادة الاستقرار إلى بلد شقيق، ومنع أي انعكاسات سلبية لذلك الوضع عليها.
وقد أثبتت المتابعة الدقيقة لتحركات عدد من الدول العربية إزاء الملف الليبي نبل مقاصدها، إذ شكل تدخل بعضها نقاطا مضيئة في العتمة الليبية كما هو الشأن بالنسبة لجهود المغرب التي أثمرت اتفاق الصخيرات سنة 2015، وجهود مصر التي انطلقت منذ سنة 2018 لتوحيد الجيش الليبي، وما تزال متواصلة بعد أن أسفرت عن إنشاء اللجنة العسكرية المشتركة 5+5؛ ولكن ما قلل من فاعلية تلك التحركات هو تصرف العواصم العربية المعنية منفردة وبدون تنسيق فيما بينها وأحيانا بتربص لأدوار بعضها البعض، في وقت يتطلب الوضع تكاتف جميع الجهود بغية فرض الرؤية العربية للتسوية، ومنع أي عرقلة محتملة لمسارها من قوى غايتها الأولى تأمين مصالحها فقط.