الخرطوم: ما تزال الشكوك تساور الكثير من المراقبين للمشهد السوداني إزاء مغزى الاتفاق المفاجئ بين قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، والدكتور عبد الله حمدوك، يعود من خلاله الأخير إلى منصبه في رئاسة الوزراء، ففي الوقت الذي عده مراقبون تراجعا نادرا من قبل المؤسسة العسكرية من الإجراءات الانقلابية التي اتخذها قائد الجيش على الوثيقة الدستورية، اعتبره آخرون إعادة ترتيب للمشهد يقصي القوى السياسية التي كانت تهيمن على السلطة الانتقالية وتفتح الباب لاستمرار دور الجيش في السياسة بواجهة مدنية عمادها الدكتور عبد الله حمدوك وطاقمه الوزاري المتوقع تشكيله من شخصيات غير منتمية حزبيا.
وتضمن الاتفاق التأمين على استمرار الشراكة بين العسكريين والمدنيين في حكم البلاد خلال الفترة الانتقالية، وضرورة التوافق بين الطرفين على الإصلاح.
ونص الاتفاق على بناء جيش قومي موحد، وإعادة هيكلة لجنة تفكيك نظام الرئيس المعزول عمر البشير مع مراجعة أدائها.
كما دعا إلى حوار بين كافة القوى السياسية لتأسيس المؤتمر الدستوري، فضلاً عن الإسراع في استكمال جميع مؤسسات الحكم الانتقالي.
وشمل الاتفاق تنفيذ اتفاق سلام جوبا واستكمال استحقاقاته، فضلاً عن ضمان انتقال السلطة لحكومة مدنية في موعدها.
انقسام شعبي حول الاتفاق
ويأتي ذلك في خضم دعوات منقسمة لتظاهرة ضخمة تندد بالاتفاق وتدعو إلى فض الشراكة مع العسكر وعدم التفاوض أو المساومة على الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس البشير في ديسمبر (كانون الأول) 2018، بينما يدعو آخرون إلى أن تتبنى التظاهرة المطالبة بتحقيق العدالة لأسر الشهداء الذين سقطوا في التظاهرات المناوئة لإجراءات قائد الجيش، وإرساله رسالة مفادها أن القوى الثورية هي الضامن لإيفاء العسكر بتسليم السلطة إلى المدنيين.
ويقول الكاتب الصحافي صديق دلاي لـ«المجلة» إن محك الاتفاق سيكون في تعامل السلطات الأمنية مع مواكب الثوار وهي التي ستكشف إلى أي مدى كان اتفاق البرهان- حمدوك فاعلا، موضحا أن إعلان الاتفاق أظهر انقساما واضحا في الشارع على وسائل التواصل فالبعض متفهم والآخر شاجب والثالث يلعن كل الإعلان السياسي حتى ظهرت المباركة الدولية وبيانات حزبية مؤيدة وانكشف المستور من حبس حمدوك بواسطة العسكر.
ورأى أن أمام حمدوك فرصة جيدة للعودة للنجومية بإجبار السلطات الأمنية تجنب القمع وعلى رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش تحمل أي نتيجة خارج هذا السياق، معتبرا أن العالم كله أصبح شاهدا علي الإعلان الإطاري والرغبة في الوصول لمدنية واضحة وتحول ديمقراطي لا يتحمل التردد والتكتيك والغدر ويتكفل بهذا النوع من العمل خصوم الاستقرار السياسي وقد يشكلون خطورة حقيقية على الاتفاق الموقع أخيرا.
ويضيف دلاي أن الذي يكسب الحراك هو التواضع على خيار المدنية والتحول الديمقراطي وعدم عودة قيادة الجيش لأي عرقلة أخرى بينما علي حمدوك الاجتهاد في تشكيل حكومة كفاءات تؤكد على عمل الفرق والتقدم بسرعة إلى هدف الانتخابات وعلى القوى السياسية المتحالفة باسم الحرية والتغيير إعادة وحدتها بمنهج مختلف وتسريع الاستفادة من زخم المجلس التشريعي والمفوضيات وتحقيق العدالة الانتقالية.
ومع ذلك تبدو سيناريوهات الوضع في السودان غامضة حتى اللحظة لدى كثير من المحللين، بيد أن الجميع يتفق على أن تغييرا كبيرا قد حدث، وأن الفترة المقبلة حبلى بالمفاجآت خصوصا مع تغيير كبير في مواقف القوى السياسية التي أبدت مواقف متشددة ضد الاتفاق بين قائد الجيش ورئيس الوزراء لكنها عادت وأبدت مواقف أكثر مرونة في قبول الاتفاق الذي جرى بينهما وذلك عقب جلسات حوارية عقدها رئيس الوزراء مع ممثلين في هذه القوى.
وقال سياسي بارز في اجتماع له مع رئيس الوزراء حمدوك إن القوى السياسية تنتظر منه إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين فورًا، ووقف جميع التعيينات التي تمت بعد 25 أكتوبر وإعادة كل من فصل بما فيهم السفراء ومدراء البنوك ومراجعه كل القرارات التي صدرت إبان الفترة السابقة وحماية حق التعبير بكل الوسائل السلمية وتشكيل لجنة تحقيق في مقتل جميع الشهداء الذين استشهدوا بعد يوم 25/10/2021.
مقاومة سلمية
من جهة أخرى قالت وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي التي تقدمت باستقالتها ضمن مجموعة من الوزراء الذين عملوا تحت رئاسة حمدوك قبل الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إن اجتماعا آخر تم بمشاركة بعض رؤساء وقيادات أحزاب قوى الحرية والتغيير من داخل وخارج المجلس المركزي تداول الشكل والمحتوى والظروف المحيطة التي قادت لما سمي بالاتفاق السياسي بين حمدوك والبرهان.
وذكرت المهدي في بيان اطلعت عليه «المجلة» أن موقفها لم يتغير بشأن اعتبار ما حدث في الخامس والعشرين من أكتوبر انقلابا، لكن الاجتماع قرر ضرورة أن تكون هناك إجراءات لبناء الثقة، ولجنة لتوحيد الموقف والرأي والتي يتم تشكيلها بالتشاور وحددت مهام اللجنة في توحيد قوى الحرية والتغيير ووضع خارطة طريق لما تبقى من الفترة الانتقالية وتقييم الفترة السابقة إلى جانب ابتداع الحلول الممكنة للخروج من حالة الاحتقان السياسي وانعدام الثقة الراهن.
لكن المهدي شددت على أنها ستعمل وفق موقف حزب الأمة القومي إلى دعم المقاومة السلمية وتحقيق العدالة والقصاص لدماء الشهداء إضافة للوصول إلى التوافق بين قوى الحرية والتغيير من أجل تحقيق مطالب الشعب السوداني في الحكم المدني الديمقراطي وفق ميثاق شرف ومشروع وطني ديمقراطي.
ويشار إلى أن حزب الأمة القومي الذي تنتمي إليه المهدي قد شهد انقساما كبيرا داخله حيث يقود رئيس الحزب بالإنابة اللواء متقاعد فضل الله برمة ناصر والأمين السياسي للحزب موقفا مناصرا للاتفاق الموقع بين البرهان وحمدوك بينما كانت مريم المهدي وهي نائبة أيضا لرئيس الحزب تتصدر الموقف المناوئ للاتفاق.
في غضون ذلك، يقود تجمع المهنيين السودانيين الذي قاد الشباب للثورة التي أطاحت بنظام البشير، تيارا رافضا للتسوية الأخيرة ويعتبرها نكوصا عن شعارات ومبادئ الثورة، ووصفت شبكة الصحافيين السودانيين إحدى المكونات المؤثرة في التجمع، الاتفاق بأنه خيانة للشهداء ومحاولة لإيجاد مخرج للانقلاب الذي قاده الجيش ضد الثورة.
تسوية بين المدنيين أولا ووقف تراشق التهم
بيد أن المحلل السياسي والأكاديمي الدكتور خالد المبارك رأى في الاتهامات والإدانات التي وجهت نحو حمدوك من بعض القوى السياسية التي قادت ثورة ديسمبر (كانون الأول) أنها غير صحيحة، وأن حمدوك لم يوقع الاتفاق السياسي باسم حاضنته السياسية التي عينته في المنصب. وأن الخطوة التي قام بها تعد حماية وتأكيدا لمكاسب الثورة مثل الإبعاد من قائمة رعاة الإرهاب ونهاية العزلة الدولية ونهاية حكم الإسلاميين المباشر والإعانات الموعودة والقروض.
ورأى في حديث لـ«المجلة» أن الوضع الجديد لا يحول بين قوى الثورة وبين مواصلة النضال من أجل إطلاق سراح المعتقلين ومواصلة إزالة تمكين نظام البشير والمطالبة بإعادة الإنترنت ومحاكمة المسؤولين عن إطلاق النار على المتظاهرين «بل لا يمنع النضال من أجل إطاحة الحكومة برمتها»، داعيا إلى أن يسعى الجميع لمواصلة التغيير وليس الجنوح للإدانات واتهامات الخيانة والانتحار السياسي.
وأشار المبارك إلى أن الدول الديمقراطية الكبرى ليس بها رأي واحد، بخصوص ما يجري في السودان وأن هناك صراعا في الساحة السياسية الأميركية ومثله في بريطانيا وفرنسا.
لكن مراقبين يعتقدون أن استمرار الاتفاق ونجاحه يرتبط بتفهم الاتفاق لدى القطاع الواسع من الشباب الثائر والغاضب من حوادث القتل والرافض لأي دور للعسكر في السلطة الانتقالية، فضلا عن إيجاد تسوية بين المدنيين أنفسهم تنهي الخلاف القائم داخل تحالفاتهم ومعالجة الأزمة الناشبة بين مجموعات التحالف الذي يضم حركات تحمل السلاح.
ويعتقد هؤلاء أن حمدوك صار الآن أكثر استقلالية من حاضنته السياسية وأن الاتفاق يكفل له حرية التصرف بعد أن كان مكبلا بالخلافات التي تنشب بين أعضاء التحالف الذي رشحه للمنصب بعد سقوط النظام السابق، كما أن الاتفاق يجعله على مسافة واحدة من جميع الأحزاب السياسية ويضمن له عدم عرقلة المؤسسة العسكرية لخططه الإصلاحية خاصة في جانب الاقتصاد وإعادة مداخيل المؤسسات والشركات التابعة للأجهزة الأمنية والعسكرية إلى ولاية وزارة المالية العامة.
ويعتقد هؤلاء أن الاتفاق يضمن لحمدوك استمرار الدعم الخارجي لسلطته الانتقالية خصوصا على صعيد المنح والقروض والإعفاءات المالية التي يحتاجها اقتصاد السودان المأزوم.
لكن الناشطة السياسية البارزة والباحثة ناهد محمد الحسن تقول لـ«المجلة» إن الشراكة مع العسكر غير مقبولة باعتبار أن قيادتهم متورطة في إراقة دماء السودانيين، وأن الاتفاق الذي أبرمه حمدوك لم يناقش هذه المشكلة الأساسية وكيفية تحقيق العدالة الانتقالية إذا كان هنالك اضطرار لهذه الخطوة.
ورأى أن العسكر عمل من خلال الشراكة للسيطرة على اتفاق السلام والبحث عن حواضن سياسية جديدة تجنبا للمساءلة القانونية وأن فرص نجاحها معدومة في ظل مطالبة الشارع بالقصاص، وأن انعدام الثقة تفقد أي فرصة لنجاح هذا الاتفاق.
وتستبعد الحسن أن يسمح الاتفاق بإجراء انتخابات نزيهة تأتي بحكومة تعبر عن أصوات السودانيين وطموحهم في حكم مدني خالص، ورأت أن حمدوك لا يملك ضمانات لتحقيق ما يتحدث عنه، وأن حسن ظنه في الطرف الآخر لا يمكن التعويل عليه.
وتوقعت أن ينقلب العسكر على حمدوك مرة أخرى كما فعلوا في مناسبات سابقة، ورأت أن عدم وجود ضمانات واضحة في الاتفاق غير مبشرة بأننا نسير إلى الطريق الصحيح.
ورأت أن السيناريو الأفضل للسودان حاليا هو توفير الثقة بين مكونات القوى المدنية والاتفاق فيما بينها على رؤية بخصوص دور العسكر في السياسة ومناقشة التضحيات اللازمة من أجل الوصول إلى تحديد هذا الدور، وإيجاد تصور للمواجهة المحتملة، موضحة أن الرهان سيكون معلقا على وجود عناصر عسكرية تؤمن بحق السودانيين في الحرية والتحول الديمقراطي، معتبرة أن المؤسسة العسكرية ظلت محجوبة خلال حكم البشير وأن ما يرشح عنها من معلومات يشير إلى أن غالبيتها تكون من خلال علاقات عقدية سياسية واقتصادية.