الجزائر: في أعالي العاصمة، وتحديداً في حي القصبة العريق، وفي إحدى قصوره التاريخية الأشهر خداوج العمياء، القصر المرتبط بأسطورة عن أجمل جميلات الجزائر خلال القرون التي خلت، اختارت مجموعة من النساء بعث لباس الحايك التقليدي، وهو لباس المرأة الجزائرية قديماً، ضمن مبادرة أطلقن عليها اسم «حمامات الجزائر» حيث يتدثرن بلباس الحايك، الذي لطالما كان رمزا للعفة وأنوثة الجزائريات، ويتجولن به في شوارع وأزقة القصبة، وأحياء وشوارع العاصمة، في محاولة منهن لإحياء هذا اللباس، وإنقاذه من خطر الاندثار، باعتباره موروثاً ثقافياً وتاريخياً هاماً وبارزاً.
ولباس الحايك أو الحائك، تقول مختلف المصادر التاريخية أن أصل تسميته هو الحيك، ويقال له التلحيفة، وهو لباس مغاربي ذو أصل أندلسي، يسمى في المغرب الإزار، وفي تونس السفساري، وكان يسمى في الأندلس المِلحف، وفي أواخر العهد الأندلسي غلب بنو الأحمر العادة فبدلا من أن يكون أبيض جعلوه أسود دلالة على الحُزن.
انتشر هذا اللباس بشكل واسع في جميع أنحاء المغرب العربي، وهو لباس من القماش أبيض اللون، تلتحف به المرأة لتستر سائر جسدها مع إضافة العجار، وهو قطعة صغيرة من القماش تضعها المرأة لتغطي وجهها، كانت تلبسه بعض النساء أثناء قيامهن بالانتقال وحيدات لمسافات طويلة خارج منطقة السكن العادية، هذا اللباس كان دينيا أو تقليديّا يلبس عادة في السفر والتنقل. بالموازاة مع ذلك، داخل البيت أو منطقة السكن كان يلبس الجلابة وهو اللباس التقليدي الذي حافظ على درجة من الانتشار حاليا.
وفي الجزائر يلبس الحايك عند نساء الوسط الجزائري في العاصمة ونواحيها (بومرداس، تيبازة....) والغرب الجزائري (تلمسان، وهران…) ويدعى في الغرب غالبا الكساء أو الكسا، دون همزة متطرفة، لكون الجزائريبن يحذفون الهمزة المتطرفة في كلامهم جريا على قاعدتهم في تخفيف الهمزة.
لباس تقليدي
والحايك هو قطعة من القماش ترتديه المرأة لتستر رأسها ووجهها وسائر جسدها، جاء في قاموس المعاني: «تُطْلَقُ كَلِمَةُ الحايِكِ عَلى لِباسِ الْمَرْأَةِ بِالْمَغْرِبِ العربي وَهُوَ مُكَوَّنٌ مِنْ قِطْعَةِ ثَوْبٍ تَرْتَديهِ الْمَرْأَةُ، يَسْتُرُ رَأْسَها وَوَجْهَها وَكامِلَ جَسَدِها». وهو لباس تقليدي تلبسه النسوة الجزائريات فوق ملابسهن العادية حين يغادرن منازلهن التزاما للحشمة.
الحايك منتشر بمعظم أرجاء الجزائر، أما بخصوص اختلاف لون الحايك في الشرق الجزائري فتروي الرواية الشعبية أن نساء الشرق الجزائري كن يلبسن الحايك الأبيض ثم لما قتل صالح باي، لبست النساء الملاءة السوداء (حايك أسود) حزنا عليه. وذلك خلال الوجود الفرنسي بالجزائر، وبعيد الاستقلال بقي الحايك محافظا على وجوده، لكن بدأ في الاختفاء مع سبعينات القرن العشرين بعد الانفتاح الذي شهدته الجزائر.
وللحايك أنواع عدة باختلاف المناطق بالجزائر، فهناك في غرداية في عمق الصحراء ينتشر الحايك مرمة، وهو من أجود أنواع الحايك، وكان ارتداؤه يقتصر على الطبقة الميسورة التي تتباهى نساؤها بارتدائه لكونه يشكل نوعاً من المدنية لأن نساء العاصمة اشتهرن به وينسج من الحرير الخالص أو الممزوج بالكتان أو الصوف، أما الحايك العشعاشي، وكان ينسج بتلمسان في الغرب الجزائري، وكانت تلبسه العامة من النساء ويتميز حايك العشعاشي عن حايك مرمة بأن الأول خالص البياض فيما تشوب الثاني تطاريز صفراء.
وهناك الحايك السفساري، وكان هذا النوع من الحايك محصورا على نساء الشرق الجزائري، وهو لباس نساء الأندلس انتقل إلى شمال أفريقيا مع قدوم اللاجئين الأندلسيين حتى أصبح لباس نساء الحواضر كتونس والقيروان وقسنطينة وغيرها من المدن، يصنع السفساري من الحرير أو القطن ويوجد بعدة ألوان كالأسود والأبيض والأصفر، في الأصل كان يغلب عليه السواد.
ولأن هذا اللباس أصبح من النادر مشاهدته في شوارع العاصمة، وغيره من المدن الكبرى بالجزائر، سارعت مجموعة من النسوة لإطلاق مبادرة «حمامات الجزائر».
وعن المبادرة تقول المشرفة عنها نصيرة دواجي لـ«المجلة» إن «الفكرة تقوم على دعوة النساء في مختلف المراحل العمرية من أجل لباس هذا الزي الذي لطالما ارتبط بحشمة وعفة وجمال المرأة الجزائرية، والتجول معاً في شوارع العاصمة، والهدف من ذلك التعريف بتاريخ هذا اللباس وأهم مكوناته، وخاصة للشابات ممن لا يعرفن هذا اللباس الذي بدأ في التراجع والاختفاء من شوارع الجزائر مع نهاية الثمانينات»، والسبب في ذلك تقول دواجي «التحولات الاجتماعية التي كانت تشهدها الجزائر آنذاك بفعل التأثيرات السياسية، فمع بروز الإسلام السياسي بدأ يظهر لباس الحجاب والجلباب القادم من الشرق، ولقناعات دينية وآيديولوجية لجأت الكثير من الجزائريات إلى لبس الحجاب بدلاً من الحايك».
ووفق حديثها بأن «مبادرة حمامات الجزائر ليست ضد الحجاب باعتباره لباسا شرعيا، لكن المبادرة هدفها إعادة إحياء الحايك باعتباره موروثا ثقافيا أصيلا بالنسبة للجزائريات، وهو يجمع في الأصل بين المتطلبات الشرعية أو الدينية كونه ساترا للمرأة وبين متطلبات الحفاظ على موروثنا الثقافي والتاريخي»، وهذه برأيها «مسؤولية كبيرة تتشارك فيها كل نسوة الجزائر دون استثناء».
وتقول دواجي إن «لباس الحايك الأبيض ساهم في إطلاق اسم الجزائر البيضاء على العاصمة، بعدما غلب عليها اللون الأبيض»، كما يرتبط الحايك تضيف بـ«ذاكرة الجزائر، وقد رافق المرأة الجزائرية خلال ثورة التحرير، وكان وسيلة لتهريب بعض الأسلحة من قبل جنود ثورة التحرير، فضلاً عن كونه رمزاً من رموز القصبة العتيقة».
قصر خداوج العمياء
ومن بين الأماكن التي لطالما تختاره هذه المبادرة قبل الانطلاق في جولات ميدانية بشوارع العاصمة هو قصر خداوج العمياء بقلب القصبة، ويعود تاريخه حسب بعض الروايات إلى عام 1570م حينما شيد على يد يحيى رايس، وهو أحد ضباط البحرية العثمانية. في حين، تقول مصادر أخرى، إن تشييده النهائي بشكله الحالي كان في 1792م من قبل حسان الخزناجي وزير التجارة في ديوان داي الجزائر آنذاك محمد بن عثمان، وتضيف الرواية أنه قام بشرائه وإعادة تطويره ليهديه لابنته خَدَاوج.
وخدَاوج هو اسم الدلع في الدارجة الجزائرية لاسم خديجة، ويقال أيضا خَدُّوجَة فهي بحسب الروايات التاريخية، امرأة عجز العلماء والفلاسفة عن إيصال حقيقتها كاملة، ولقبت بـ«الأسطورة» التي رُوي عنها في عصر مضى، وبقيت حكايتها الممزوجة بين الواقع والخيال مبهمة إلى يومنا هذا. لكن المُتفق عليه في كل الروايات، أن خداوج كانت فتاة فائقة الجمال، حيث كانت تعيش في قصر فخم مع والدتها ووالدها وأختها الكبرى فاطمة.
حياة خداوج كما تذكر الروايات، كانت مختلفة عن حياة بنات سنها في عصرها، وحتى عن حياة شقيقتها، فكانت البنت المدللة باستمرار من والديها، خاصة من والدها الذي منحها اهتماما مبالغا فيه. وعند عودته من إحدى سفرياته، أحضر الوالد هدية لابنته خداوج، وكانت عبارة عن مرآة ثمينة من زجاج يشبه في لمعانه الألماس بزخرفات منقوشة على حواشيها، لتصبح صديقتها المفضلة، وأصبحت خداوج كثيرة النظر في المرآة، بعد أن صار جمالها يزداد يوما بعد يوم، وكانت كثيرة التسريح لشعرها وكثيرة التغيير لملابسها.
تؤكد روايات تاريخية، أن الوزير حسان الخزناجي أقام حفلا في قصره، حضره عدد من الشخصيات المرموقة وسفراء دول، فأراد أن يُقدم لهم شيئا يستدعي الإبهار، فطلب من نساء القصر تزيين ابنته خداوج وإخراجها للزوار، وهو التزيين الذي استغرق ساعات كاملة. وبعد الانتهاء من التزيين، زاد جمال الفتاة جمالا لتظهر مثل البدر في ليلة تمامه كما ذكرت الروايات، فخرجت إلى بهو القصر حتى يراها الزوار، فإذا بالنساء الحاضرات يشهقن أمام جمال خداوج. فسارعت الفتاة إلى غرفتها لتتأكد من جمالها الأخاذ بنفسها، وعندما نظرت إلى المرآة صُدمت من فرط جمالها، وأصيبت بالعمى في تلك اللحظة، ومنذ ذلك الوقت أصبحت تُلقب بـ«خداوج العمياء».
فشل الأطباء والحكماء بعد ذلك في علاجها، وخوفا على مصيرها، قرر والدها أن يهديها القصر الذي كانوا يقطنون به، ضماناً لمستقبلها بعد موته، لتتعود خداوج على حياتها الجديدة، وعاشت في القصر مع أبناء أختها عمر ونفيسة اللذين اعتنيا بها، ما زادها تعلقا بالحياة، إلى أن توفيت في تاريخ بقي مجهولا إلى يومنا هذا، وبعد وفاتها سُمي القصر باسم خداوج العمياء، فكانت الفتاة الوحيدة في تاريخ الجزائر التي يُهديها والدها قصرا، ما جعل البعض يشبهها بقصة قصر الحب الهندي، في نسختها الجزائرية.