يعمل النظام السوري كما الإيراني بنفس عميق واستراتيجية طويلة الأمد، ينفذ مخططاته خطوة خطوة، وليس خطوة مقابل خطوة، كما يرغب البعض. فقبل أيام أصدر رئيس النظام السوري مرسوما تشريعيا حمل رقم 28، ونص على إلغاء المادة رقم 35 من القانون الناظم لعمل وزارة الأوقاف والتي يُسمى بموجبها «المفتي العام للجمهورية»، فألغى بموجب المرسوم منصب مفتي الجمهورية ومفتي المحافظات، وأحال مهمة الإفتاء إلى المجلس الفقهي العلمي التابع لوزارة الأوقاف، والذي كان قد تأسس بموجب تشريع أصدره الأسد عام 2018.
وفور صدور المرسوم تم التعاطي مع الخبر بـ«شماتة»في مفتي الجمهورية بدر الدين حسون، حتى إن البعض تناقل الخبر على أن الأسد أصدر قرارا بعزل حسون من مهامه، علما أن شيئا عن حسون لم يذكر في المرسوم وقرار إقالته ليس بحاجة لمرسوم بل إلى قرار وزاري، ولكن بطبيعة الحال فإن إلغاء المنصب يعني إعفاء صاحبه من مهامه، ولكن الأساس هو إلغاء منصب مفتي سوريا ومفتي المحافظات.
إذن سوريا ولأول مرة منذ أكثر من مائة عام، أي منذ سقوط الخلافة العثمانية وقيام سوريا الحديثة دون المفتي.
ليس هذا فحسب، بل وبمرسوم رئاسي صار المجلس العلمي الفقهي والذي يضم رجال دين من مختلف الأديان والمذاهب والطوائف، من السنّة والشّيعة الإماميّة، ومشايخ العقل الدروز، ومشايخ العلويين والإسماعيليين، ومن البطاركة المسيحيين، هو المرجعية وتم كسر التمثيل السني لمرجعية الإفتاء. وهو ما رأى فيه البعض أنه تغير لـ«الهوية السنية»واستهداف للأغلبية.
حاول البعض الإيحاء بأن في الأمر خطوة لعلمنة سوريا، ونزع صفة الإسلاموية عنها، لكنه في المضمون، ألحق مهمة الفتوى للمجلس الفقهي في وزارة الأوقاف، بل وضم المرسوم القاضي الشرعي الأوّل إلى المجلس كعضو فيه، أي تم إخضاعه للسلطة التنفيذية.
وبعيدا عن نظريات المؤامرة، ولكن لا يمكن لأي متابع لما يجري في سوريا وخصوصا في السنوات العشرة الأخيرة إلا أن يرى كيف تم بالفعل تغيير هوية البلاد، فأصبحت سوريا لا تشبه نفسها، بداية من سوريا التي باتت تعرف بأنها أكبر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، مرورا بالدمار الكامل الذي لحق بمدن وقرى سوريا، جاء الأسد واتبع سياسة الخطوة خطوة ليغير هويتها، فمن لا يذكر القانون رقم 10 لعام 2018، الذي نص على تغيير التركيبة السكانية في سوريا، فسمح بحجة إعادة الإعمار بمصادرة أملاك وأراضي السوريين وتحديدا المهجرين منهم والمطلوبين الأمنيين للنظام غير القادرين على العودة إلى سوريا خلال مهلة زمنية حددها القانون، وإعادة توزيع الممتلكات المصادرة، ما اعتبر حينها أنه مخطط استملاك لأراضي وعقارات المهجرين من الطائفة السنية وتوزيع على المجنسين الإيرانيين أو التابعين للميليشيات الشيعية الموالية لإيران.
وبالطبع عندما نتحدث عن السنوات العشر الأخيرة في سوريا فلا يمكننا إلا أن نذكر أن عدد من هجرهم النظام وفقا لأرقام الأمم المتحدة فاق نصف عدد سكان سوريا، منهم نحو 6 ملايين خارج البلاد، وهل من حاجة لنذكر أن الأغلبية العظمى من هؤلاء هم من الطائفة السنية؟ وهل لنا أن نتذكر أيضا كيف تم إحراق السجلات العقارية في حمص مثلا؟
إضافة إلى ذلك هناك الأعداد الكبيرة التي قام بشار الأسد ونظامه بتجنيسهم من المقاتلين الشيعة الموالين لإيران وعائلتهم، والحوزات التي أقيمت، و«المقامات»التي ظهرت فجأة أو أعيد اكتشافها، والمظاهر «الكربلائية»التي بتنا نرى صورها تأتي من عاصمة الأمويين وغيرها من المناطق السورية. والتقارير التي نقرأها عن مراكز أبحاث واستخبارات عالمية حول نشر التشيع حتى اللحظة في سوريا. وإن كان كل ذلك قد بدأ مع انقلاب حافظ الأسد واستيلائه على السلطة، إلا أنه وفي زمن ابنه تسارعت الوتيرة إلى أن صارت اليوم سوريا قلب العروبة النابض أقرب إلى الولي الفقيه شكلا ومضمونا.
وفي العام 2015 وفي خطاب له قال بشار الأسد موجها شكره لحزب الله وإيران لوقوفهما بجانبه أثناء حربه على السوريين ودفاعهما عن نظامه: «إن الوطن ليس لمن يسكن فيه ويحمل جواز سفره، وإنما لمن يدافع عنه ويحميه، والشعب الذي لا يدافع عن وطنه لا يستحق أن يكون له وطن»، وهكذا فعل الأسد ومن خلفه إيران، لقد سلبوا سوريا من السوريين بسياسة الخطوة خطوة، ليتوجوا سياستهم اليوم بإلغاء منصب المفتي في سوريا. ويأتي ذلك بعدما استطاعت إيران تبديل الظروف والواقع الاجتماعي والتوازنات السياسية في العراق عبر التهجير الطائفي المكثف للسنة من المحافظات الجنوبية والشرقية، والذي قامت به أذرعها المختلفة.
لقد استكملت إيران عدتها الكاملة بتغيير بلاد الشام والعراق تنفيذا لرؤية الولي الفقيه بإعادة تشكيل منطقة الشرق الأدنى على أسس تكون فيها الأغلبية شيعية تدين بالولاء لفارس، وما يحدث في سوريا ليس إلا الحلقة الثانية من مسلسل إيراني يعرفه الجميع، ومع ذلك يغمضون أبصارهم عن بشاعة الواقع ويحلمون بعالم افتراضي موهوم تتحول فيه إيران إلى دولة عاقلة ويتحول فيه بشار إلى داعية سلام.