إستراتيجية أميركية سعودية وبرنامج مشترك لمكافحة الإرهاب وغسل الأموال والعصابات المسلحة

إستراتيجية أميركية سعودية وبرنامج مشترك لمكافحة الإرهاب وغسل الأموال والعصابات المسلحة

[caption id="attachment_55254509" align="aligncenter" width="959"]عضو من قوات الأمن السعودية يقف حارسا أمام شعار التحالف الاسلامي الذي تقوده السعودية خلال اجتماع لقادة التحالف في الرياض 27 مارس الماضي عضو من قوات الأمن السعودية يقف حارسا أمام شعار التحالف الاسلامي الذي تقوده السعودية خلال اجتماع لقادة التحالف في الرياض 27 مارس الماضي[/caption]

نيويورك: جوزيف براودي
 

•مبادرات السعودية لمكافحة الإرهاب تؤتي ثمارها ولكن هل يتابعها الأميركيون؟
•أفكار وخبرات سعودية ووسائل تكنولوجية أميركية لمطاردة الإرهابيين والعصابات الإجرامية
•تسعى الحكومة السعودية إلى مواجهة ظاهرة جمع التبرعات من الجمعيات المشبوهة عبر مزيج من الوسائل القانونية والأمنية والتكنولوجية، بالإضافة إلى حملة إعلامية عامة
•فكرة التعاون بين مجتمع الأميركيين المهتمين بأنماط علم الجريمة الدولي ومجتمع مكافحي الإرهاب بالمملكة تعيد تعريف التحالف السعودي الأميركي
•سعت السعودية إلى عقد شراكة مع حلفاء من عدة دول في إجراءات قمع للإرهاب على المستويين الإقليمي والدولي من خلال التحالف ضد الإرهاب بقيادة الأمير محمد بن سلمان
•تقدم وسائل الإعلام الإخبارية الأميركية تغطية محدودة للإصلاحات السعودية ومكافحة الإرهاب بسبب تحيزها لصالح عناوين الأخبار الصارخة
•من العصابات الأميركية إلى التنظيمات التكفيرية العربية .. شراكات غير تقليدية من أجل العدالة
•لماذا تُعد الجهود الأميركية الأخيرة الشائعة في مكافحة الفكر الإرهابي مضيعة للوقت والمال؟
•مسؤول بالوكالة الأميركية للتنمية الدولية ومكافحة الجريمة والفساد: تشابه واضح بين العصابات الإجرامية في نصف الكرة الأرضية الغربي والجماعات المتشددة..و كلا الفئتين يتبنيان آيديولوجية معارضة للمؤسسات

 

 


[blockquote]تكثف المملكة العربية السعودية جهودها الملتزمة بمكافحة الإرهاب. و بات واضحا أن مساعي المملكة، التي تطورت باستمرار مع مرور الوقت، وصلت إلى مرحلة عالية من النضج، وأنها تؤتي ثمارها على المستوى المحلي والإقليمي والدولي – في مجالات القيود المالية والتدخل الأمني بالإضافة إلى مواجهة الآيديولوجيات المتطرفة. هنا في الولايات المتحدة، من المثير للدهشة قدر الاهتمام الضئيل الذي تحظى به الجهود السعودية، لا سيما في ضوء درجة التعاون الكبيرة بين السعودية والحكومة الأميركية ذاتها في تنفيذ تلك الإجراءات. ما تفسير هذا الانفصال بين الإجراءات السعودية في مجال مكافحة الإرهاب من جهة والتصورات المتعلقة بالمملكة في البلاد البعيدة؟ في حين تتطلع الرياض إلى تطوير أساليبها في مكافحة الإرهاب، كيف يمكنها أن تفعل ذلك بطريقة تستعيد وتقوي بها تحالفاتها التقليدية، ومن بينها تلك مع الولايات المتحدة؟
يسعى هذا التقرير إلى الإجابة عن تلك الأسئلة. سوف يبدأ بوصف الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها المملكة في الأعوام والشهور الأخيرة، ويبحث في الطرق المحتملة التي يمكن من خلالها الاعتماد على تلك الإجراءات في المستقبل. ثم يتحول إلى الولايات المتحدة؛ حيث يبحث في الانفصال المعلوماتي بين التصورات والواقع الخاص بجهود السعودية في مكافحة الإرهاب، ويستعرض الطرق المحتملة لإزالة هذا الانفصال مع تعزيز التعاون الأمني عامة.[/blockquote]

 

 

 

 

 

الداخلية السعودية: «الإرهاب لا دين له ولكنه يستهدف جميع الأديان»

 

 


خلال شهر رمضان المبارك، ينظر المسلمون في السعودية وفي جميع أنحاء المنطقة إلى إخوانهم المحتاجين بعطف وشفقة خاصة، ويسعون إلى التخفيف من فقرهم ومعاناتهم عن طريق الصدقات والأعمال التطوعية. ولكن كما أشار مسؤولو وزارة الداخلية السعودية مرارا على مدار الشهر المبارك، سعت الجماعات الإرهابية إلى استغلال تلك المشاعر النبيلة لجمع الأموال من أجل عملياتها القاتلة. في بيان صدر في 11 يونيو (حزيران) عن وزارة الداخلية، أكدت الوزارة أن التنظيمات الإرهابية، مثل «داعش» وجبهة النصرة تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي والرسائل النصية القصيرة عبر الهاتف لجمع التبرعات، بزعم أنها لصالح الشعب السوري، ولكنها في الحقيقة حملة لصالح الهمجية. تسعى الحكومة إلى مواجهة تلك الظاهرة عبر مزيج من الوسائل القانونية والأمنية والتكنولوجية، بالإضافة إلى حملة إعلامية عامة. يقوم نهج الحملة على إعلان المملكة عدد من الجماعات الجهادية كـ«تنظيمات إرهابية»، مما يجعل من غير القانوني تقديم الدعم لها. وقد يواجه المواطنون السعودية بالإضافة إلى غير السعوديين المقيمين بالمملكة عقوبة السجن إذا انتهكوا تلك القوانين، أو الترحيل بدلا من ذلك في حالة غير السعوديين.
بالإضافة إلى تحذير السكان من العقوبة إذا خالفوا قوانين مكافحة الإرهاب عن علم أو ربما من دون علم، قدمت الحكومة أيضا قنوات تبرعات رسمية يمكن أن يتبرع من خلالها السعوديون لصالح جهود إنسانية حقيقية.


[blockquote]بعد إغلاق وتجميد 171 حسابًا مشبوهًا في السعودية:
التعاون السعودي الأميركي يخرج عن نهجه التقليدي وينتقل إلى مرحلة المشاركة [/blockquote]


يمكن مساعدة الضحايا السوريين أو غيرهم من ضحايا الحروب الأهلية بالمنطقة، على سبيل المثال عن طريق مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، وكذلك «الحملة الوطنية لنصرة الأشقاء السوريين» التابعة لوزارة الداخلية، وغيرها من الجمعيات الأخرى الكثيرة المرخصة حكوميا. تحظى تلك المنظمات بوضع قانوني داخل المملكة وتعد جمعيات خيرية شرعية وموثوق بها حول العالم وليس لها أي علاقات بالإرهاب. وجدير بالذكر أن المملكة في مناشدتها للعامة نجحت أيضا في الاستعانة بعناصر بارزة بين القيادات الدينية للبلاد، عن طريق هيئة كبار العلماء، لإقرار سياسات الحكومة عن طريق وسائل التواصل مع العامة الخاصة بهم.

ومع ذلك تدرك الحكومة السعودية أيضا أن تلك الإجراءات بمفردها لا تمنع تمويل الإرهاب الذي يصدر داخل حدود البلاد: ربما يتجاهل بعض المواطنين السعوديين، بالإضافة إلى غير السعوديين المقيمين في المملكة، التحذيرات العامة عن جهل، بينما قد يتجاهلها آخرون عن رغبة واعية في المساعدة في تمويل الإرهابيين. لذلك صاحبت تدابير الإعلام الوقائي التي اتخذتها الحكومة إجراءات أمنية صارمة على التعاملات المالية المتعلقة بالإرهاب. في 12 يونيو (حزيران)، أعلن المتحدث باسم وزارة الداخلية منصور التركي إيقاف ومصادرة أموال في 171 حسابا بنكيا داخل وخارج المملكة، بالإضافة إلى منع تحويل الأموال إلى 54 حسابا أجنبيا مرتبطا بإرهابيين.

وأثناء بذل تلك الجهود من جانب أحادي، سعت الحكومة السعودية أيضا إلى عقد شراكة مع حلفاء عرب وغير عرب في إجراءات قمع للإرهاب على المستويين الإقليمي والدولي، ومنها إجراءات مالية بالإضافة إلى عمليات عسكرية وأمنية. ويضم التحالف الدولي ضد الإرهاب، الذي يقوده ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان 40 دولة، ويعمل التحالف على إيجاد إمكانية للعمل المتبادل بين الوزارات والقطاعات الأمنية لتلك الدول من أجل دفعة جديدة ضد الجماعات الإرهابية. في سبيل مواجهة ما يسمى «حزب الله» على وجه التحديد، عقدت المملكة شراكة مع أفراد ومنظمات داخل لبنان، بالإضافة إلى الولايات المتحدة ودول أخرى في الغرب، لضمان تنفيذ العقوبات الدولية ضد المنظمة وقياداتها ومموليها حول العالم.

جدير بالذكر في هذا السياق أنه على الرغم من أن التنظيمات التكفيرية المستهدفة مثل «داعش» وجبهة النصرة يدَّعون اتباعهم للمذهب السني، تهتم الحكومة السعودية أيضا بجماعات أخرى من الإسلاميين الشيعة الذين يخضعون لسيطرة ونفوذ الحكومة الإيرانية. في الإطار ذاته، عندما تبنت الحكومة البحرينية إجراء مثير للجدل بحظر جمعية الوفاق الشيعية المعارضة وتجميد أرصدتها، أعلنت الحكومة السعودية تأييدها الكامل للقرار. وذكر بيان منفصل صدر عن وزارة الداخلية السعودية في يونيو (حزيران) بوضوح اعتراف الحكومة بأن الإرهابيين يأتون من كلا المذهبين، وأنهم يستهدفون أتباع جميع الديانات.
أعرب محمد شقير، رئيس اتحاد الغرف اللبنانية، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» في الشهر الماضي، عن ثقته يأن الإجراءات السعودية ضد ما يسمى «حزب الله» لن تكون «سياسية» بل «اقتصادية وأمنية»، وأنها تتماشى مع القانون المصرفي العالمي والعقوبات على الإرهاب. في الوقت ذاته، عملت القوات الأمنية السعودية وشركائها الدوليين، ومن بينهم الولايات المتحدة، على اعتراض طرق تهريب الأسلحة والذخائر التي استخدمتها مجموعة من التنظيمات الإرهابية، وعلى مصادرة أسلحتها ومعداتها في العمليات.

تشير حقيقة بديهية عالمية إلى أنه بغض النظر عن صرامة الإجراءات الأمنية التي تتخذها أي حكومة، لا يمكنها إلحاق هزيمة كاملة بالإرهاب من دون دعم قوي من مجتمعها. وطالما ظل أي مجتمع يضم عدد من المتعاطفين مع المتطرفين ستظل أي إجراءات يتخذها الحاكم تواجه معارضة كبيرة من عناصر داخل المجتمع - سواء كانت تلك العناصر تعمل في القطاع الخاص أو المؤسسات الدينية أو حتى الدولة ذاتها. ومن أجل عكس ذلك الاتجاه، يجب مع دفع قيادة الدولة بقوة لتنفيذ تلك الجهود أن تتحد كتلة حرجة من الإصلاحيين في المجتمع معا لحشد الدعم الشعبي وتقويض القوى المتطرفة.

 

 

 

 

 

 

مركز الملك عبد الله للحوار بين أتباع الأديان والثقافات

 


تتجسد إحدى المحاولات السعودية لمكافحة عقلية عدم التسامح، التي تلهم أنشطة الإرهابيين، في مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز للحوار بين أتباع الأديان والثقافات الذي يقع مقره في فيينا. يتكون مجلس إدارة المركز من قادة دينيين مسلمين ومسيحيين ويهود، بالإضافة إلى ممثلي ديانات أخرى غير سماوية. يعقد المركز مؤتمرات لدعم الوحدة الدينية وقيم التسامح والتفاهم المشترك.
في الوقت ذاته، حققت الجهود الاستباقية داخل المملكة ذاتها مكاسب كبيرة، كما كشفت أنه برغم وجود تيارات متطرفة داخل المجتمع، توجد موجة مضادة تسعى إلى التغلب عليها. لننظر إلى مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني. في العام الماضي، أصدر المركز فيديو رسوم متحركة يدعو السعوديين إلى نبذ آيديولوجيات الكراهية، وحقق الفيديو 150 ألف مشاهدة في خلال 48 ساعة. كان من الواضح أن الفيلم، الذي أنتجه محركو رسوم سعوديون موهوبون، لاقى إقبالا بين كثير من الشباب الذين يؤمنون بأهمية تعزيز هوية سعودية شاملة وموحدة تتجاوز الطائفية وذلك لصالح أمن واستقرار البلاد. يشكل هؤلاء الشباب قاعدة جديدة لدعم وطلب المزيد من الإجراءات لكبح التيارات المتطرفة. وتعطي مبادرات أخرى، مثل «المكتب العربي للأمن الفكري» الذي أنشأته وزارة الداخلية السعودية بالتعاون مع نظرائها في دول عربية أخرى، أملا في النتائج.


[caption id="attachment_55254510" align="alignleft" width="300"]رئيس شرطة نيويورك جيمس أونيل يتحدث إلى الصحافة خلال مؤتمر يهدف إلى تقييم مدى تأهب الشرطة لهجوم ارهابي محتمل (غيتي) رئيس شرطة نيويورك جيمس أونيل يتحدث إلى الصحافة خلال مؤتمر يهدف إلى تقييم مدى تأهب الشرطة لهجوم ارهابي محتمل (غيتي)[/caption]

لم تمض فترة طويلة على الفرصة التي سنحت لي بالسفر إلى الرياض لزيارة مؤسسة أخرى معنية بمكافحة الإرهاب، تختص بالمقاتلين أنفسهم وأيضا الأفكار التي تشكل رؤيتهم للعالم. إنه مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، وكما سيعرف كثير من القراء، يعد المركز مقرا في منتصف الطريق لأعضاء القاعدة وغيرها من التنظيمات الذين أمضوا فترة اعتقالهم في السعودية أو في معتقل غوانتانامو الذي تديره الحكومة الأميركية. يهدف المركز إلى إقناع «مستفيديه» بنبذ الإرهاب، ثم الإفراج عنهم وإعادة اندماجهم في المجتمع السعودي. ومن أجل تحقيق تلك الأهداف يستعين فريق من رجال الدين المسلمين بنصوص شرعية إسلامية لدحض الآيديولوجيات التكفيرية، بينما يقدم معلمون تدريبا مهنيا في مجالات أخرى. ويستخدم العاملون في المركز المتخصصون في مجالات متعددة أساليب العلاج النفسي في التعامل مع المشكلات الشخصية التي ربما يكون لها دور في الفكر العنيف، كما يقوم أسر المقاتلين بزيارتهم للتهيئة لعودتهم إلى منازلهم. يقول العاملون في المركز، مشيرين إلى نسبة انتكاسة تبلغ 12 في المائة، إنهم يأملون في تقديم نموذج يمكن تصديره في المنطقة، وبدأوا بالفعل في العمل مع مسؤولين في بلدان عربية أخرى لإقامة مؤسسات جديدة مشابهة.

أثناء زيارتي إلى المركز، اكتشفت أن بعض من العاملين يؤمنون بهدف أكبر: وهو أن تنفذ الإصلاحات أيضا خارج جدران وزارة الداخلية لتمنع الانجراف إلى التطرف في المقام الأول. على سبيل المثال، ألقى الطبيب النفسي السعودي عبد الله القرني باللوم على مجموعة من رجال الدين النشطاء في البلاد لفرضهم تفسير صارم للإسلام سمح بتجنيد الإرهابيين، حتى لو لم يحرضوا مباشرة على العنف. واعترف القرني بصراحة بأن معالجة تلك المشكلة طويلة الأجل، وتتطلب أن تشترك مع وزارة الداخلية في جهودها الحثيثة جميع هيئات الحكومة، خاصة في مجالات التعليم والشؤون الإسلامية. هناك مؤشرات تدعو إلى التفاؤل بأن تلك العملية قيد التنفيذ ومتسارعة. أحد تلك المؤشرات كان البيان القوي الصادر عن وزير التعليم خالد الفيصل، الذي أعرب فيه عن أسفه لحقيقة أن الأجيال السابقة من طلبة المدارس السعوديين تعرضوا للفكر المتطرف عبر بعض من معلميهم، وتعهد بإدخال إصلاحات لعلاج تلك المشكلة.

 

 

 

 

 

 

رؤية الولايات المتحدة: فجوة هائلة في الإدراك ووسائل ممكنة لسدها

 


تحدثنا سابقا في التقرير عن تفاصيل المشكلات التي تواجهها السعودية باستمرار في النقاش العام الأميركي. يوجد بعض الحقيقة في الاعتقاد السعودي السائد بأن إدارة أوباما بالتنسيق مع عناصر مؤيدة في الإعلام الأميركي تسعى إلى إعداد الرأي العام لتحالف جديد مع إيران، وذلك من خلال إظهار ملالي طهران معتدلين مع تشويه صورة السعودية. يسري شعور بأنه عندما يعرب متشدد سعودي عن آراء متطرفة يتصدر عناوين الأخبار في الولايات المتحدة، بينما عندما تقمع الحكومة السعودية الإرهاب أو يدعو الإصلاحيون السعوديون إلى السلام والتسامح تمر أخبارهم مرور الكرام. لا تأتي نماذج هذا التوجه في جميع الحالات نتيجة لمحاولات استباقية، فعلى سبيل المثال، تقدم وسائل الإعلام الإخبارية تغطية محدودة للإصلاحات السعودية ومكافحة الإرهاب؛ بسبب تحيزها لصالح عناوين الأخبار الصارخة. يتحقق التقدم الكبير في السعودية نحو الإصلاح والتغيير المنظم تدريجيا، وبذلك لا يتناسب الخبر مع نوعية العناوين الصارخة التي يسعى صحافيو الأخبار إلى نشرها. ومع ذلك يبدو أن وتيرة دورة الأخبار والتحيز لصالح الأخبار السطحية لم يثن بعض المؤسسات الأميركية عن تخصيص وقت وموارد كبيرة لتوثيق نشاط العناصر الإرهابية في السعودية. ولكن أين الدراسة المناسبة للتقدم الذي أحرزته السعودية عبر مؤسسات الحوار بين أتباع الأديان والمجتمعات؟ وأين التواصل مع الإصلاحيين في مجال التعليم في السعودية، الذين يسعون إلى تعزيز تعليم التسامح عبر الأنظمة التعليمية؟
التصورات الخاطئة المذكورة آنفا ليست وليدة الأمس، وليس من المرجح أن تنتهي مع مغادرة إدارة أوباما في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، ففي خطاب الحملات الرئاسية الحالية، انتقد المرشحون البارزون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي السعودية؛ بسبب أخطائها المزعومة، وأخفقوا في الاعتراف بإنجازاتها الإيجابية.

تكمن وسيلة التغلب على هذا التوجه في فتح قنوات جديدة للتبادل مع مجموعة متنوعة من القطاعات داخل الولايات المتحدة، وليس فقط على المستويات العليا داخل الحكومة وصناع السياسات الخاصة بالشرق الأوسط. في البحث عن أساليب مكافحة الإرهاب، على سبيل المثال، سوف تجد المملكة كثيرا من الفرص لعقد شراكة مع منظمات أميركية لتطوير «حلول خارج الصندوق». وفي مثال على ذلك، عدنا إلى الدكتور عبد الله القرني من مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، وعندما سألته عن دور المرض النفسي في عقلية الإرهابي، أشار القرني إلى أن بعض «المستفيدين» من المركز يعانون نوبات فزع أو وسواسا قهريا أو يعانون الاكتئاب أو اضطراب ما بعد الصدمة. ولكن بالإضافة إلى رصد تلك الأمراض المعروفة، يقول القرني إنه يسعى إلى تقييم المرضى فيما يتعلق بالسمات النفسية للمجرمين عامة. وعندما سألته عن المنهج الذي يستخدمه في هذا الغرض، قال: إنه كان نسخة من «المخزون النفسي لأنماط التفكير الجنائي»، الذي صممه من أجل المجتمع السعودي. سألته: «أين درست ذلك المنهج؟» قال: إنه حصل عليه من جامعة تكساس المسيحية في الولايات المتحدة.

وعندما كتبت وتحدثت بعد ذلك عما تعلمته من زيارتي إلى المركز، لاحظت أن الأميركيين كانوا مهتمين بنقطة الالتقاء غير المتوقعة بين طبيب مسلم سعودي معني بمكافحة التطرف من جهة، ومؤسسة أكاديمية مسيحية أميركية تركز على دراسة علم الجريمة. كشف ذلك عن سعودي مخلص لبلده، تم تكليفه بعمل مهم فسعى إلى قطع المسافات الجغرافية واستعان بمجالات أكاديمية أخرى من أجل العثور على منهجية يبدو أنها تناسب التحدي الذي يواجهه. ويفضح ذلك أيضا كذب التصور بأن السعوديين مثل القرني يضمرون شرا تجاه أتباع الديانات الأخرى: يكشف حماسه لمجموعة من الأفكار التي طورتها مؤسسة أكاديمية مسيحية عن موقفه من الشراكة والمصالحة، على النقيض من المواجهة. وفي دراسته لمنهج «أنماط التفكير الإجرامي» اكتشف شيئا ما ذا قيمة لخدمة الجهود السعودية في مكافحة الإرهاب، وليس من واشنطن ولكن من تكساس البعيدة، ومن مؤسسة غير متصلة بالمجتمع المُسيس المكون من نخبة الشؤون الخارجية في واشنطن.
قد يجلب مزيد من التعاملات على ذلك النحو قطاعات جديدة من المجتمع الأميركي إلى الحوار بشأن السعودية والتعاون السعودي الأميركي في مكافحة الإرهاب. ربما يؤثر ذلك على النقاش الأميركي حول السعودية بطرق غير متوقعة، وبالطبع سوف يقدم إسهامات كبيرة في المحاولات العابرة للدول من أجل إحلال السلام والأمن. هناك بالفعل عدة فرص للتعاون بين المجالات المتعددة على ذلك النحو، من تعليم إلى ثقافة إلى إعلام إلى عدالة جنائية. ويكفي أن نتناول نموذجا واحدا ببعض التفصيل كمثال على ذلك.

 

 

 

 

 

 

العصابات الأميركية والتنظيمات التكفيرية العربية

 

 


تحمل إشارة وزارة الداخلية السعودية إلى أن «الإرهاب لا دين له، ولكنه يستهدف كل الأديان» رؤية خاصة ذات صلة بأحدث صورة للجماعات الإرهابية: كشفت مجموعة من الدراسات أن الأفكار المتعلقة بالإسلام أو التطرف الإسلامي في حد ذاتها ليست بالضرورة الدافع الأساسي للمنظمة الإرهابية، بصرف النظر عن استخدام كثير منها لتلك الأسماء بهدف تبرير أفعالها للعالم. وصرح السيد آدم غارفينكل، وهو مسؤول سابق في وزارة الخارجية الأميركية ويعمل حاليا رئيس تحرير مجلة «مجلة أميركان إنترست»، قائلا: «لا نواجه مشكلة فكرية مقتصرة على فئة قليلة، ولكن مشكلة اجتماعية كاملة في الشرق الأوسط كله. فالسياق الاجتماعي الأوسع والأعمق، الذي يستقي أفكاره من العاطفة الجماعية بدلا من كتابات سيد قطب أو رسائل أسامة بن لادن المسجلة على شرائط، يفسر لنا لماذا تُعد الجهود الأميركية الأخيرة الشائعة في مكافحة الفكر الإرهابي مضيعة للوقت والمال. لقد قُدّر لتلك الجهود الفشل لأن تلك الأفكار.. منفصلة عن الشبكات الاجتماعية، التي تترسخ فيها الأفكار وتنبض بالحياة. من الخيال الاعتقاد بأن مجموعة من الأفراد الجالسين في الدور الخامس بمبنى وزارة الخارجية الأميركية سوف يتوصلون في أحد الأيام الصافية إلى مجموعة الكلمات المثالية والموضوعة بترتيب مثالي، لتتم ترجمتها بمثالية إلى اللغات العربية والفارسية والأردية والبشتوية وما إلى ذلك، وأن مجرد عرض تلك الكلمات على المتعصبين سيجعلهم فجأة يغيرون وجهة نظرهم بالكامل. بعبارة أخرى، هناك انفصال بين الإدراك السعودي لوجود أمراض اجتماعية نفسية واسعة يرتكز عليها الإرهاب من جهة ووجهة نظر محدودة ترى أن الإرهاب أساسه في الدين فقط، التي تنطبق على حالة بعض صانعي السياسات الأميركية. ولا يُعد الأميركيون الذين يتبنون تلك الرؤية من أصدقاء السعودية، بل يميلون إلى عدم الاهتمام بالتفكير في التخصصات المختلفة كالذي يطبقه الطبيب النفسي في مركز محمد بن نايف.

ولكن هناك مدارس فكرية أخرى في الولايات المتحدة، لا يستفيد منها خبراء مكافحة الإرهاب بدرجة كبيرة، ربما تملك استيعابا فطريا لظاهرة الإرهاب متعدد الأوجه، وتتماشى مع الوسائل السعودية أكثر من توافقها مع ما يُطلق عليهم خبراء مكافحة الإرهاب في أميركا ذاتها. أحد النماذج المحتملة غير المستغلة هو التقدم الذي أحرزه علماء الجريمة الأميركيون ضد العصابات المدنية. انتقلت أساليب مكافحة العصابات في الولايات المتحدة، التي قامت على مزيج من العمل الشرطي والتعليم والتواصل المجتمعي، إلى مجتمعات أجنبية متنوعة كانت تواجه مشكلات مشابهة وبصورة أساسية في منطقة الكاريبي وأميركا اللاتينية. وبالإضافة إلى حقيقة وجود نقاط تفاعل وتعاون بارزة بين الجريمة المنظمة والجهاديين، ربما يكون هناك أيضا أوجه تشابه فيما يتعلق بدور الظروف الاجتماعية البائسة في تشكيل عقلية الشباب المقاتل، والبنية التنظيمية، وأساليب التجنيد، ووسائل التواصل الاجتماعي، وحتى الآيديولوجيات.

وكانت الخطوة الأولى لاختبار تلك النظرية هي التحدث مع خبير في تصدير التكتيكات الأميركية المتعلقة بمكافحة العصابات إلى الدول النامية. يعمل هيث غرانت أستاذا في كلية جون جاي للعدالة الجنائية، وقد عمل غرانت مع وزارة الخارجية الأميركية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية وهيئات أخرى تعمل في برامج التنمية حول العالم، التي تركز على تطوير ثقافة الالتزام بالقانون ومكافحة الجريمة والفساد. وعمل غرانت في المكسيك وكولومبيا، وفي الآونة الأخيرة ساعد شرطة بنغلاديش في تطوير هيكل الشرطة المحلية. كما قاد أيضا جهودا بحثية في منطقة الكاريبي بهدف تقييم عنف الشباب واقتراح التغيير باسم وزارة الخارجية الأميركية. وعندما سألت الدكتور غرانت عن حجم الأبحاث المقارنة بين العصابات الإجرامية في نصف الكرة الأرضية الغربي من جهة والجماعات المتشددة من جهة أخرى، قال: إنه لا يعلم شيئا عنها؛ ولكنه رد بسرعة وصراحة بأنه لاحظ ما يعتقد أنه تشابه واضح: «يبدو لي أنه في كلتا الحالتين، ربما تكون الدوافع أقل ارتباطا بالدين وأكثر ارتباطا بالسياق المجتمعي واليأس ونقص الفرص».
وعندما أطلعناه على معلومات تتعلق بمدى فاعلية الجماعات المتطرفة في الدول العربية والإسلامية، أشار غرانت إلى وجود نقاط تشابه كثيرة بين المنظمات الإرهابية وعصابات الشوارع في المدن. وقال: إنه يمكن وصف كلا الفئتين بأنهما يتبنيان «آيديولوجية معارضة للمؤسسات ». وأضاف أن التنظيمات الإرهابية مثل «داعش»، ليست الجهة غير الحكومية الوحيدة في العالم، التي تسعى إلى إقامة أراض خاصة بها: «ففي الأحياء الفقيرة في البرازيل، على سبيل المثال، أصبحت العصابات هي الشرطة، وتتحكم في بعض الأراضي. وفي دول الكاريبي، مثل ترينداد وتوباغو، توجد مناطق لا تدخلها قوات الشرطة الحقيقية إلا إذا كانت هناك عملية خاصة، والعصابات المحلية هي المتحكم والمسيطر غير الرسمي».

وعندما سألت غرانت عن الأساليب التي اتبعها هو وزملاؤه للتأثير في بيئات عصابات المدن الأجنبية، وصف مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات الشاملة التي جرى تطويرها ردا على حرب العصابات في مدينة بوسطن ولوس أنجلوس ومدن أميركية أخرى. وهناك نموذج دعمه الدكتور بصورة خاصة في الخارج، وهو «علاج العنف» القائم على عملية أطلق عليها اسم «النزع والزرع»، وشرحها قائلا: «بعد أن (ينتزع) الجهاز الأمني معظم عناصر العنف، يتم على الفور توفير فرص عمل ومساعدات من أجل سد الفجوة التي كانت العصابة تملؤها. ويتضمن هذا الأسلوب جهودًا لـ(علاج العنف) تعتمد على تسوية النزاعات، وتحديد المعرضين للخطر ومعالجتهم، وتشجيع المجتمع على اتخاذ إجراءات ضد العنف». وأشار إلى نجاح هذا النموذج في مدن مثل شيكاغو، التي شهدت انخفاضا في حوادث إطلاق النيران بنسبة 75 في المائة في المناطق التي تم تنفيذه بها. وفي انتقاد لتخصصه، تحدث غرانت عن أسفه لأن بعض جهود مكافحة العصابات لم تركز على نحو مناسب على الاقتصاد غير الشرعي بعيدا عن العصابات ذاتها.. كم عدد الأشخاص الذين يعتمدون على اقتصاد السوق السوداء والرمادية التي أنشأه العصابات؟ وما الفرص التي ستكون متاحة أمامهم في حالة التخلص من ذلك الاقتصاد؟ «في العالم النامي، مثل المكسيك أو البرازيل، إذا كانت هناك مجرد استراتيجية للتخلص من تلك العصابات ومن اقتصاد المخدرات، لن يتبقى شيء للأفراد الذين اعتمدوا عليه. ولإصلاح الأمر، توجد حاجة إلى تنفيذ طريقة مضادة لتساعد على تحفيز السياق الاجتماعي وأيضًا الاقتصادي». تستلزم استراتيجيات غرانت إقامة تعاون وثيق مع مخططي الاقتصاد وقطاع التعليم وقطاع الأمن، الذي يجب إدراجه من أجل تعزيز أواصر الثقة والتعاون مع المجتمعات التي يحرسها.
لا يبذل غرانت جهوده في عمله منعزلا. في بعض الأحيان، تحصل مبادرات كتلك التي عمل بها على تمويل من قطاعات في الحكومة الأميركية، غير مرتبطة بسياسات الحكومة تجاه الشرق الأوسط، أو دول الكاريبي، مثل مؤسسة بان أميركان للتنمية. وعندما سألناه افتراضيا عن رأيه في إمكانية إعادة تخيل أساليبه وتطبيقها بإبداع في سياق خاص بالشرق الأوسط - بالتعاون مع خبراء مكافحة إرهاب سعوديين وعرب آخرين - كان رده أشبه بحماسة طفولية. كان من الواضح أنه نظرا لمتابعته للتقارير الإخبارية المتعلقة بالإرهاب وإجراءات مكافحته من بعيد، أمضى وقتا يفكر في الجوانب الإيجابية والسلبية للنهج الأميركي، وما يمكن أن تحققه خبراته في تطوير استراتيجية جديدة.

 

 

 

 

 

 

التحرر من الطريق التقليدي الضيق في العلاقات السعودية الأميركية

 

 


تعد فكرة التعاون بين مجتمع الأميركيين المهتمين بأنماط علم الجريمة الدولي ومجتمع مكافحي الإرهاب السعوديين واحدة من عدة أمثلة يستطيع من خلالها التعاون المباشر بين كل قطاع أن يعيد تعريف التحالف السعودي الأميركي. في مجال التعليم، هناك متخصصون أميركيون في مجال التعليم الدولي المقارن على استعداد لمشاركة ما تعلموه بشأن الحد من الصراعات داخل المجتمع عبر المناهج الدراسية، بالإضافة إلى الاستفادة من التجارب السعودية التي لم يعرفوها من قبل. يمكن تحقيق أهداف إيجابية أخرى من خلال عقد شراكات اقتصادية استراتيجية، وتعاون إعلامي، ومجالات أخرى. إذا انتظر السعوديون ببساطة خروج استراتيجية جغرافية سياسية جديدة من البيت الأبيض لتكون أكثر قبولا وفقا لطموحاتهم، ربما سيصابون بخيبة أمل. ولكن لا داعي لأن ينتظروا من أجل إقامة تعاون أكبر مع الشعب الأميركي. ذلك النوع من التواصل هو في النهاية أقوى وسيلة يمكن من خلالها تعريف الأميركيين بالجهود السعودية، بالإضافة إلى العمل معا للاستفادة من نقاط القوة التي يملكها كلا الجانبين ومعالجة نقاط الضعف لدى كل منهما.

 

 

 

font change