الخرطوم: تزداد حدة الأزمة السياسية في السودان مع تعثر المحادثات بين الجيش وتحالف قوى الحرية والتغيير الذي يدعو إلى عودة رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك وحكومته، لمزاولة أعمالهم الرسمية، كما ينادي بالاستمرار في التظاهرات داخل العاصمة الخرطوم ومدن الولايات لإسقاط القرارات الانقلابية التي اتخذها القائد العام للجيش في الخامس والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، في حين تم تأجيل تسمية رئيس وزراء واستكمال تشكيل المجلس السيادي من أعضاء مدنيين، في ظل وساطات محلية ودولية تنشد التوصل إلى تسوية تنهي النزاع بين العسكر والمدنيين في السودان تجنبا لوضع أكثر خطورة من الناحية السياسية والأمنية.
التسوية بعيدة
وينظر محللون إلى الوضع في السودان بأنه يتسم بالضبابية، حيث تبدو احتمالية التوصل إلى تسوية بين العسكر والمدنيين بعيدة حتى اللحظة، ما يهدد باستمرار النزاع واحتمالات تفاقمه في ظل تمترس واصطفاف سياسي غير مسبوق، ويطرح في السياق دعوة لعدم العودة إلى الشراكة مع المكون العسكري والعمل على إسقاطه أو الاستمرار في الحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك وطاقمه بشكل مواز للحكومة المرتقب أن يقوم بإعلانها رئيس الوزراء الذي يقع الاختيار عليه من قبل الجيش والقوى المساندة له.
كما يعتقد على نطاق آخر بأن الجيش لن يتخلى عن السلطة في ظل هذه الظروف وسوف يمضي نحو تشكيل حكومة من شخصيات من غير المنتمين لتنظيمات سياسية والعمل على تطمين الأحزاب السياسية عبر تشكيل مفوضيات التعداد السكاني وتوفير الحريات السياسية تمهيدا لإجراء انتخابات عامة في الموعد المحدد في الوثيقة الدستورية عام 2023م، لكن هذا السيناريو مرهون بمدى قبول أو رفض القوى السياسية المستبعدة من الحكومة الانتقالية وغيرهم من الذين يتهمون الجيش بطموحات الانفراد بالحكم، كما أن هذا السيناريو مرتبط بقدرة قوى الحرية والتغيير على إعادة الزخم الثوري إلى الشارع الذي يمثل الشباب فيه العنصر الرئيسي.
وفي هذا الصدد، يدعو تجمع المهنيين السودانيين الذي نظم التظاهرات التي قادت إلى سقوط نظام الرئيس عمر البشير في ديسمبر (كانون الأول) 2018م، إلى التظاهر واستخدام مختلف آليات المقاومة السلمية الرافضة للعودة إلى مشاركة المكون العسكري في السلطة.
مرحلة التحالفات الجديدة
وحسب علاء الدين محمود وهو عضو شبكة الصحافيين السودانيين إحدى مكونات تجمع المهنيين، فإن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي حظي بشعبية هائلة بعد اختياره للمنصب عام 2019م، ينتمي للمؤسسة الانتقالية الفاشلة، التي تؤيد المشاركة مع العسكر، وأن البعض يريد أن يجعل منه رمزا يتم توظيفه في سياق لعبة التكتيكات السياسية من أجل التكسب، بينما يريد العسكر العودة إلى تلك المرحلة التي ينتمي إليها حمدوك، وكذلك الشركاء من المدنيين، ويبقى على الثوار عندما يرفعون شعار لا للعودة للمشاركة أن تكون رافضة بحيث تشمل الرموز نفسها.
ويقول محمود إن المرحلة القادمة هي مرحلة التحالفات، التي تتم على أسس واضحة، والقيادة والتنظيم والرؤية النظرية، وكل ذلك يتطلب توسيع قاعدة الثورة نفسها بحيث تشمل ممثلين جددا لقضايا حقيقية.
بينما يرى محللون تحدثت إليهم «المجلة» أن الأمر ليس كله مرهونا بالداخل وإنما ترتبط بضغوط وتدخلات خارجية لها تأثير كبير على احتمالات التسوية أو استمرار العسكر في الحكم.
وفي هذا الصدد يقول المحلل السياسي النور أحمد النور إن الوضع في السودان له صلة بالوضع الإقليمي والدولي، موضحا أن الأوربيين والولايات المتحدة الأميركية يساندون رئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك ولكن تنتابهم المخاوف أيضا من اندلاع نزاع سوداني سوداني قد تدفعهم إلى قبول تشكيل حكومة من كفاءات مستقلة برئيس الوزراء حمدوك أو بدونه، مضيفا أن الولايات المتحدة قد لا ترغب في تأزيم الأوضاع الأمنية في الإقليم بعد الصراع الذي تشهده إثيوبيا، بينما يرى أن الجيش يناور أيضا بتقارب مع روسيا والصين ويعول على مواقف الدولتين لصد أي اتجاه لعزلة أو إجراءات مضادة عبر مجلس الأمن الدولي.
ويأتي ذلك في خضم إعلان القائد العام للجيش تجميد بنود رئيسية في الوثيقة الدستورية وسريان حالة الطوارئ وحبس عدد من قيادات الحكومة الانتقالية في مقدمتهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، فضلا عن حملة اعتقالات طالت عددا من القيادات السياسية الوسيطة وناشطين في لجان المقاومة بالأحياء، وتزامن ذلك مع قرارات اتخذها الفريق أول عبد الفتاح البرهان بإعادة موظفين إلى وظائف رئيسية في الخدمة العامة وتكليف مسؤولين للقيام بأعباء الحكومة التنفيذية.
البحث عن تسوية
وعلمت «المجلة» أن الجيش يتمسك بموقفه بحل الحكومة الانتقالية وعدم العودة إلى ما قبل 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأن القائد العام للجيش ومستشاريه العسكريين يقومون بإجراء مشاورات واسعة في هذا الصدد مع القوى السياسية التي كونت تحالفا موازيا لقوى الحرية والتغيير إضافة إلى قوى اجتماعية وجهوية من بينها المجلس الذي يرأسه الزعيم القبلي محمد الأمين ترك في شرق السودان.
لكن مصادر مطلعة رجحت تأخير عملية اتخاذ أي إجراء بشأن الحكومة، يرتبط بقياس تفاعلات الشارع فضلا عن توفير الوقت لاحتمالات التوصل إلى تسوية عبر الوساطات المحلية والدولية الهادفة لإعادة الشراكة بين المكون العسكري والمدنيين.
ويتهم الجيش تحالف قوى الحرية والتغيير والأحزاب التي مثلت الحكومة الانتقالية في الفترة السابقة بأنها قوى «صغيرة» وتجاهلت تنفيذ بنود الوثيقة الدستورية التي نشأ على أساسها الحكومة الانتقالية عام 2019م، إلى جانب الهجوم الذي تشنه هذه القوى على المؤسسة العسكرية والإضرار بسمعتها ما يضع أمن البلاد في خطر.
إلا أن تحالف قوى الحرية والتغيير الذي يضم أحزابا مثل حزب الأمة القومي والتجمع الاتحادي والمؤتمر السوداني والبعث العربي الاشتراكي الأصل وقوى سياسية ومهنية أخرى، يصف الإجراءات التي اتخذها القائد العام للجيش بأنها انقلاب على السلطة المدنية، وتقويض للفترة الانتقالية، وتعمل على إعادة إنتاج نظام الرئيس المعزول عمر البشير.
وكانت حركات تحمل السلاح وقوى سياسية، أعلنت عن تحالف سياسي مواز لـ«الحرية والتغيير» وأكدت تأييدها للإجراءات التي اتخذها قائد الجيش في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، ووصفتها بالإجراءات «التصحيحية».
ويضم التحالف قوى سياسية شاركت في تشكيلات حكومية في نظام الرئيس عمر البشير ولم تك جزءا من تحالف الحرية والتغيير، لكن من بين أطراف التحالف قوى عضوة ومشاركة في الحكومة الانتقالية أبرزها الحركات حاملة السلاح والموقعة على اتفاق سلام في العاصمة الجنوبية جوبا- حركة تحرير السودان بقيادة حاكم إقليم دارفور السابق وحركة العدل والمساواة بزعامة الدكتور جبريل إبراهيم وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السابق.
خطر أمني
وتشهد الساحة السياسية حالة من الاستقطاب السياسي الحاد واختلافات بائنة في وجهات النظر بين القوى السياسية الرافضة لـ«الانقلاب العسكري» والأخرى المؤيدة لـ«الإجراءات التصحيحية»، الأمر الذي دفع بوتيرة الخلافات السياسية لتجعل الساحة السياسية «شبه شاغرة»، حسب وصف صحيفة «اليوم التالي» السودانية بسبب أزمة عدم التوافق بين المكونات السياسية المختلفة على مواجهة المستقبل بعد بيان القائد العام للجيش في أكتوبر الماضي، موضحة أن البلاد تمضي نحو هاوية يصعب الخروج منها إذا ما انجرت فيها الخلافات على النحو الذي تسير معطياته الآن.
وكانت «قوى إعلان الحرية والتغيير» طالبت في بيان تسملت «المجلة» نسخة منه، بضرورة عودة الحكومة المدنية الشرعية لمزاولة مهامها تحت قيادة رئيس الوزراء الشرعي، عبد الله حمدوك، والتمسك بالوثيقة الدستورية.
وأكد البيان رفض التحالف للانقلاب وما ترتب عليه من إجراءات غير شرعية، وعدم التفاوض مع الانقلابيين، وحتمية العودة إلى ما قبل 25 أكتوبر.
ويرى الكاتب الصحافي والباحث السياسي محمد المبروك أن الخيار المفضل، ذا التكلفة المنخفضة، هو تسوية سياسية تتراضى عليها الأطراف المتنازعة (قادة المنظومة الأمنية، قادة الحرية والتغيير وقادة حركات الكفاح المسلح)، والخيار الثاني على الطاولة كان يتمثل في إجراءات استثنائية تعلق العمل بالوثيقة الدستورية وتحل الحكومة وتعلن حالة الطوارئ، والخيار الثالث كان انقلابا عسكريا كاملا تقوم به المؤسسة العسكرية.
وبعد أسبوعين من تلك العاصفة- يقول المبروك- إن منطق القوة هو الذي يتحكم في القرار، وهذا المنطق يكاد يصادر كل القوى السياسية لصالح مشروع سياسي غامض محمي بالسلاح وغير واضح التوجهات حتى الآن.
ويضيف في حديث لـ«المجلة» إن الوقائع على الأرض تشير إلى أن هناك حركة واسعة لإعادة تركيب وترتيب القوى الحاكمة بصعود قوى مدعومة إقليمياً وهبوط قوى أخرى غير مرضي عنها، وما حدث في الخرطوم فجر الاثنين، ربما، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا التوجه الإقليمي والذي يجد دعماً خفياً من قوى دولية رغم ما يصدر عنها علناً من تصريحات وقرارات رافضة لمنطق السيطرة على السلطة عبر القوة.
ويعتقد محمد المبروك أن السودان قد دخل مرحلة جديدة في تاريخه السياسي قد تستند شكلياً على إرث ثورة ديسمبر ومواثيقها وإطارها السياسي، ولكن بقوى سياسية مختلفة عن تلك التي صعدت بعد 11 أبريل (نيسان) 2019م والتي لم تقدم ما يشفع لها بالاستمرار.
أما العقيد المتقاعد الصورامي خالد، فقد رأى في حديثه لـ«المجلة» أن الوضع ينذر بخطر كبير على سلامة وأمن البلاد، خصوصا بوجود استقطاب سياسي حاد وفي ظل وجود جهات لديها السلاح ولم يتم دمجها في المؤسسة العسكرية الرسمية أو تسريحها.
وذكر أن الوضع الراهن مرتبط بتسوية بين المدنيين أنفسهم تنهي الخلاف القائم داخل تحالفاتهم والعودة إلى منصة الوثيقة الدستورية ومعالجة الأزمة الناشبة بين مجموعات التحالف الذي يضم حركات تحمل السلاح.
وقال الصورامي إن السيناريو الأكثر ترجيحا هو استمرار الجيش في السلطة لأن خيار اتفاق القوى المدنية غير وارد، مستبعدا أيضا أي تأثيرات لهذه الخطوة من قبل القوى الدولية التي ترغب في نظام سياسي متماسك وقادر على حفظ الأمن، وأشار إلى أن الوساطات التي طرحت كانت مجرد «مبادرات عاطفية» وليست برنامجا واضحا لحل الأزمة، وأن الدول التي قامت بالوساطة ليس لديها ما تقدمه للسودان في وضعه المأزوم سياسيا واقتصاديا وبالتالي تفتقد للجدية والتأثير على الأمر الواقع.