دراسة خاصة لـ«المجلة»: «البريكسيت».. زلزال جغرافي سياسي

دراسة خاصة لـ«المجلة»: «البريكسيت».. زلزال جغرافي سياسي

[caption id="attachment_55254361" align="aligncenter" width="940"]استبدال العلم البريطاني بعلم الاتحاد الأوروبي في أعقاب الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون إلى مقر مفوضية الاتحاد الأوروبي في بروكسل يوم 28 يونيو الماضي (غيتي) استبدال العلم البريطاني بعلم الاتحاد الأوروبي في أعقاب الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون إلى مقر مفوضية الاتحاد الأوروبي في بروكسل يوم 28 يونيو الماضي (غيتي)[/caption]

فلادلفيا: رونالد جي غرانييري*

[blockquote]
•على الرغم من أن بلير وصل إلى سدة الحكم أثناء توهج الخطاب المؤيد لأوروبا، فإنه سرعان ما أدرك أن المصوتين من حزب العمال والشعب البريطاني ككل لا يزالون على عدائهم للأوروبانية
•الهجرة هي القضية الرمزية الكبرى لمناصري الخروج من الاتحاد الأوروبي والتي تجد صدى لها بين القوميين المحافظين وبين الناخبين
•معظم الخبراء بدءًا من وزير الخزانة ومحافظ بنك إنجلترا إلى رئيس صندوق النقد الدولي اتفقوا على أن التصويت لصالح البريكسيت سوف ينذر بفترة من عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي
•من مصلحة أميركا عدم تضخيم نتائج الاستفتاء ومحاولة تهدئة المخاوف الاقتصادية والتوترات السياسية المحتملة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي
[/blockquote]


في الثالث والعشرين من يونيو (حزيران)، توجه الشعب البريطاني نحو صناديق الاقتراع للإجابة عن سؤال بسيط على نحو خادع وهو «هل يجب أن تظل المملكة المتحدة عضوا بالاتحاد الأوروبي أم يجب أن تغادره؟».يحمل السؤال البسيط بشكل خادع عبئًا ثقيلاً من الناحية التاريخية والثقافية والجغرافية السياسية، وكان من الصعب التنبؤ بالنتائج المترتبة على العملية.

تسببت الإجابة التي اختارها المصوتون عن ذلك السؤال في زلزال جغرافي سياسي ستظل آثاره ملموسة لفترة مقبلة. أمام الخيار بين وضع راهن أخفق في بث الحماس، ومستقبل يحيط به الشك يقوم على صور كرامة وطنية عائدة وسيادة مجددة، أدهش البريطانيون العالم بتصويتهم لصالح ترك الاتحاد الأوروبي (أو ما تطلق عليه الصحافة منذ مدة اختصارا «البريكسيت»). كانت الإقبال كثيفا، حيث وصل إلى 70 في المائة من إجمالي الناخبين البريطانيين على الرغم من سوء الأحوال الجوية. تفوقت الأصوات المؤيدة للخروج بنسبة 52 في المائة مقابل 48 في المائة، حيث صوّت أكثر من 17 مليون شخص للخروج مقابل نحو 16 مليون صوت مؤيد للبقاء.
في الوقت الذي يندفع فيه البريطانيون وجيرانهم وشركاء الاتحاد الأوروبي الذين سيتحولون إلى سابقين قريبا، وبقية العالم من أجل استيعاب نتائج الاستفتاء، سوف يقدم الموضوع خلفية عن الاستفتاء وبعض المقترحات التي من المرجح أن تأتي بعد ذلك.


الطريق إلى الاستفتاء




يتطلب فهم السبب الذي جعلنا نصل إلى تلك المرحلة الرجوع إلى السياق التاريخي. كانت بريطانيا دائمًا على علاقة متضاربة مع عملية الوحدة الأوروبية، ولكن تغيرت الطبيعة السياسية لذلك الصراع بمرور الوقت. في الخمسينات، عندما ظهرت المنظمات الأوروبية الأولى، لم يشارك حزب العمال البريطاني الحاكم في هذه المنظمات وهو ما يرجع جزء منه إلى حماية الصناعات المؤممة في بريطانيا. وكان السياسيون البريطانيون ذوو الاتجاهات اليسارية عامة يشعرون بارتياب تجاه الوحدة الأوروبية، حيث ظنوا أنها تخدم إما مصالح الرأسمالية أو الحرب الباردة، وكلاهما محل معارضة شديدة من كثير من اليساريين البريطانيين. أما المحافظون فلم يكونوا معارضين للرأسمالية أو الحرب الباردة، ولكنهم فضلوا النظر إلى بريطانيا العظمى باعتبارها قوى عالمية وليست مجرد دولة أوروبية، وفضلوا الاعتماد على العلاقات مع الإمبراطورية (ولاحقًا الكومنولث) بالإضافة إلى العلاقات الخاصة مع الولايات المتحدة باعتبارها أساسًا لدور بريطاني خاص في شؤون العالم. وحتى عندما شجع المحافظون أمثال وينستون تشرشل على إنشاء «الولايات المتحدة الأوروبية»، كما فعل في خطاب عام 1946، كانوا يميلون إلى تصور أوروبا باعتبارها خاصة بالأوروبيين، أي الأشخاص في الجانب الآخر من القناة.
تغير ذلك الموقف في أوائل الستينات، بعدما دخلت السوق الأوروبية المشتركة، التي أُنشئت بموجب معاهدة روما في عام 1957، حيز التنفيذ الكامل. سعت بريطانيا بشدة إلى إنشاء منطقة تجارية أوروبية حرة (التي من شأنها الحفاظ على السيادة الوطنية على التجارة وغيرها من اللوائح) بدلاً من السوق الأوروبية المشتركة الأكثر حصرية (التي تعتمد على الوحدة المتجاوزة للحدود الوطنية وتعريفة خارجية مشتركة)، وظلت مبتعدة عن السوق الأوروبية المشتركة.
ومع ذلك، في غضون أعوام قليلة، صار من الواضح أن أهم الشركاء التجاريين لبريطانيا من أعضاء السوق الأوروبية المشتركة. وأصبح البقاء في الخارج غير منطقي من الناحية الاقتصادية، كما أنه أثار إشكالية من الناحية الجغرافية السياسية، بينما حاول الرئيس الفرنسي شارل ديغول تشكيل السوق الأوروبية المشتركة لتصبح أداة للسياسة الخارجية الفرنسية، وذلك بهدف أن تصبح أوروبا أكثر استقلالا عن الولايات المتحدة. وبحلول عام 1961، وبتشجيع من إدارة كينيدي، قدم رئيس الوزراء البريطاني، هارولد ماكميلان، طلبًا رسميًا للانضمام.


واشنطن وباريس ولندن




عكست المفاوضات للحصول على العضوية البريطانية وجود توترات أكبر في العلاقات الأوروبية الأميركية. وبدا أن ماكميلان وزملاءه قبلا العضوية لأسباب براغماتية بحتة، وليس بدافع الحماس من أجل وحدة أوروبي أعمق، وأشارت جهودهم للحفاظ على ما يصب في مصلحة العلاقات الإمبراطورية والكومنولث البريطانية إلى أنهم لم يتخلوا تمامًا عن فكرة أن مصالح بريطانيا أكبر من أوروبا (أو على الأقل منفصلة عنها). ومن جانبه، كان الرئيس ديغول يخشى (ولم يكن مخطئا) من أن بريطانيا تعمل بالتنسيق مع الأميركان لإضعاف أجندة ديغول الأوروبية، كان في وضع يتيح له إيقاف ذلك. في يناير (كانون الثاني) عام 1963 ومرة أخرى في نوفمبر (تشرين الثاني) 1967، اعترض ديغول على الطلبات البريطانية متهمًا بريطانيا «بالعداء المتأصل» للتعاون الأوروبي، وأكد على أنها تحتاج إلى إعادة تفكير ضرورية في الأوضاع الجغرافية السياسية والاقتصادية البريطانية قبل أن تكون مستعدة.
بعد انتهاء مغادرة ديغول للسلطة في عام 1969 وانتخاب حكومة محافظين جديدة برئاسة إدوارد هيث في عام 1970 صار الوقت مناسبًا لتقدم بريطانيا طلبًا ثالثا. كان هيث مناصرًا قويًا لانضمام بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي داخل حكومة ماكميلان، واستغل الفرصة ليحول حلمه طويل الأمد إلى حقيقة. كان النجاح حليف بريطانيا في تلك المرة، وانضمت إلى السوق المشتركة إلى جانب آيرلندا والدنمارك في عام 1973.
ومع ذلك، ظل حزب العمال، خصوصًا حلفاءه من في الاتحادات التجارية متشككين بشأن أوروبا، وعندما عادوا إلى السلطة في عام 1974، تابع رئيس الوزراء هارولد ويلسون تنفيذ وعود حملة حزب العمال حتى النهاية لإخضاع عضوية بريطانيا في السوق الأوروبية المشتركة إلى استفتاء وطني. وجرى هذا الاستفتاء يوم 6 يونيو 1975، وجاءت النتيجة كاسحة؛ الثلثين مقابل الثلث لصالح البقاء في السوق الأوروبية المشتركة.كان ينبغي أن يضع ذلك نهاية للنقاش ولكن لم يحدث ذلك.
نهج ثاتشر في التوجه إلى السوق الحرة
بعدما أصبحت زعيمة حزب المحافظين، مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء في عام 1979، بدأت موجة الرأي الداعية ببقاء بريطانيا في أوروبا في التحول. أدى نهج ثاتشر في التوجه إلى السوق الحرة وخطابها المعادي للدولانية إلى توجيهها ومعها كثير من زملائها المحافظين انتقادات متزايدة ضد النظام البيروقراطي في السوق الأوروبية. وفي شكواها من أن إسهام بريطانيا في ميزانية السوق أكبر كثيرًا مما تحصل عليه من فوائد، طلبت ثاتشر خصمًا سنويًا وحصلت عليه. ومنذ عام 1985، ووفقًا لاتفاق يجب تجديده كل سبعة أعوام، تحصل بريطانيا على خصم على جزء من مدفوعاتها إلى أوروبا، التي وصلت إلى أكثر من 6 مليارات يورو في عام 2015 (من إجمالي المساهمة التي تبلغ قيمتها نحو 22 مليار يورو).
ولم تكن ثاتشر من مناصري السوق الأوروبية التي أصبحت أكثر ديمقراطية اجتماعية وشجعت على صعود الشكوكية الأوروبية داخل حزبها حتى ولو كان نجاحها في التفاوض بشأن الخصم أشار إلى أنها أكثر اهتماما بضمان حصول بريطانيا على أفضل اتفاق ممكن داخل أوروبا، من اهتمامها بخروج بريطانيا بالفعل من السوق الأوروبية. بيد أنها في نهاية ولايتها في عام 1990، كان حزب المحافظين منقسما بشدة بشأن أوروبا وهو ما أضعف موقف خليفها جون ماجور، وأفسح الطريق أمام توني بلير و«حزب العمال الجديد» لحكم بريطانيا.


حكم بلير




وتحت حكم بلير، أظهر حزب العمال ذاته باعتباره حزبًا مؤيدًا لأوروبا بقوة على الرغم من أن بلير ولا خلفه غوردن براون لم يوافقا على انضمام بريطانيا لمشاريع مثل اليورو. وظلت بريطانيا في وضع متردد، فهي أحد أكبر الاقتصادات في أوروبا وإحدى الجهات الدولية الفاعلة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، ولكنها غير ملتزمة بمستوى الوحدة الاقتصادية والسياسية ذاتها التي تقدمت بها الدول الأوروبية الرائدة الأخرى مثل ألمانيا وفرنسا. وعلى الرغم من أن بلير وصل إلى سدة الحكم أثناء توهج الخطاب المؤيد لأوروبا، فإنه سرعان ما أدرك أن المصوتين من حزب العمال والشعب البريطاني ككل لا يزالون على عدائهم للأوروبانية، فلم يؤكد على القضية. عندما أعاد ديفيد كاميرون حزب المحافظين إلى السلطة في عام 2010، وسط حالة من الركود والتوترات المتزايدة داخل منطقة اليورو، عاد السؤال الأوروبي مرة أخرى إلى ذهن الجمهور. أدرك كاميرون تراجع شعبية أوروبا بين ناخبيه، وأدرك أيضًا خطورة الأحزاب التي تناهض للأوروبانية بإصرار كبير، مثل حزب استقلال المملكة المتحدة على الاستحواذ على أصوات من حزب المحافظين، وبالتالي حاول تحقيق توازن صعب بين المجموعات المتنافسة داخل حزبه.
وقد تبنى كاميرون موقفًا معتدلاً مناهضًا للأوروبانية، مدعيًا تفضيله لإصلاح الاتحاد الأوروبي على خروج بريطانيا منه، ولكنه أيد إجراء استفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي عندما كان زعيما للمعارضة في عام 2009، وجاء بهذا الوعد معه إلى المنصب. أدى نجاح حزب استقلال المملكة المتحدة في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2014، إلى جانب أدائه القوي في الانتخابات العامة عام 2015، الذي كشف عن إمكانية جذب المشاعر المعادية للاتحاد الأوروبي للناخبين المحافظين، إلى قيام كاميرون بتحديد موعد هذا الاستفتاء.
وفي مفاوضات كاميرون مع شركائه الأوروبيين، استطاع الحصول على بعض التعديلات الرمزية لوضع بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، بصفة أساسية للحفاظ على حق بريطانيا في البقاء خارج منطقة اليورو وعدم الاشتراك في خطط تهدف «لتوثيق العلاقات مع الاتحاد أكثر من أي وقت مضى»، على الصعيد السياسي، التي أعلن أنها كافية للبقاء في الاتحاد الأوروبي. وهكذا كان كاميرون، مع وزير ماليته جورج أزبورن، قائدي معسكر البقاء في الاتحاد الأوروبي. ولكن تبنى قيادات حزب المحافظين الآخرين، بمن فيهم الوزير مايكل غوف وعمدة لندن السابق بوريس جونسون فكرة البريكسيت، وكانوا ومعهم نايجل فاريج من حزب استقلال المملكة المتحدة، أبرز الداعين للخروج.


لماذا البريكسيت؟




ليس من السهل تحديد الدوافع والنيات السياسية لمناصري الخروج من الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن أكثر المؤيدين المتحمسين للخروج يمكن العثور عليهم على أقصى يمين المشهد السياسي، فإن بعض العناصر من حزب اليسار، وخصوصا ناخبي حزب العمال في مناطق الطبقة العاملة الأقل ثراء سجلوا أيضًا رفضهم للاتحاد الأوروبي.
في اليمين، اعتمد مناصرو الخروج في حجتهم على القومية موضحين موقفهم كمدافعين عن السيادة الوطنية. دفع المحافظون الذين يناصرون الخروج، ويؤيدهم المحافظون في الولايات المتحدة وغيرها، بأن بريطانيا تخلت كثيرا عن سيادتها للاتحاد الأوروبي. وبالتالي يصبح الخروج من الاتحاد تحريرا لها. يتحمس بوريس جونسون لتصور «تحرير» بريطانيا من القيود التنظيمية التي تفرضها بروكسل، حتى إن كثيرًا من فعاليات «البريكيست» تتضمن فواصل موسيقية تتخللها موسيقى من فيلم المغامرة «الهروب الكبير» الذي يحكي عن أسرى الحرب في الحرب العالمية الثانية. بيد أن حتى تلك المجموعة بها اختلافات، إذ يتبنى حزب استقلال المملكة المتحدة خطابًا أكثر عدوانية ضد الاتحاد الأوروبي مقارنة بالمحافظين مثل جونسون أو غوف، الذين ينكرون أنهم متطرفون ولكن يشيرون إلى أن زيادة السيطرة الوطنية ستسمح باتخاذ قرارات سياسات شرعية أكثر ديمقراطية وأكثر عقلانية.
أما في حزب اليسار، تبدو القصة أكثر تعقيدًا. حاول توني بلير أن يجعل حزب العمال حزب أوروبا، ومع ذلك، يستمر كثير من الناخبين من حزب العمال في الارتياب بشأن بروكسل. وكثيرًا ما استخدم بلير مسألة أوروبا لتشجيع الانقسامات بين المحافظين بدلاً من الفوز بالأصوات لصالح حزب العمال. لا يزال اليسار التقليدي ينظر إلى الاتحاد الأوروبي كمؤامرة رأسمالية بلكنة ألمانية. وبالتالي أبدى رئيس حزب العمال الحالي، جيرمي كوربن، الذي جاء من ذلك اليسار التقليدي، قدرًا كبيرًا من التناقض. لقد قام بالتصويت ضد استفتاء 1975 وتعرض لانتقادات بسبب تصريحاته الفاترة خلال الحملة الراهنة. وعلى الرغم من أن حزبه أيد رسميًا البقاء في الاتحاد الأوروبي، رفض كوربن الاشتراك في الحملة مع كاميرون، ومن المرجح أن يكون عدم حماسه سببا في تصويت كثير من ناخبي حزب العمال لصالح الخروج.
وعلى الرغم من أن النخبة المثقفة البريطانية، التي تؤيد في العموم حزب العمال، يناصرون أيضًا وبقوة البقاء في الاتحاد الأوروبي، كان كثير من الناخبين من حزب العمال في المناطق الفقيرة في بريطانيا أقل حماسًا. وبالفعل، تشير استطلاعات الرأي أن حزب استقلال المملكة المتحدة جذب أتباع حزب العمال الذين يشعرون بخيبة أمل مثلما جذب أشخاصًا من حزب المحافظين.


قضية الهجرة



كانت القضية الرمزية الكبرى لمناصري الخروج من الاتحاد الأوروبي الهجرة، وهي القضية التي تجد صدى لها بين القوميين المحافظين وأيضًا بين الناخبين منخفضي المهارات الذين يعتريهم القلق بشأن الأمن الوظيفي. وأكد قادة حركة الخروج على مخاطر تدفق المهاجرين دون قيود، ويلومون الاتحاد الأوروبي على تراخيه، وأشاروا إلى أنه بمجرد أن تمكن بريطانيا من إحكام سيطرتها الكاملة على حدودها سيكون بإمكانهم السيطرة عليها بشكل أفضل. ويشير المعارضون إلى أن التركيز على الهجرة غير دقيق، لأن بريطانيا تتمتع بالفعل بقدر كبير من السيطرة على حدودها، كما أنه مسبب للنزاع، إذ يشجع على الشك في المهاجرين في الفترة الأخيرة بل وأيضًا على كراهية الجاليات التي عاشت في بريطانيا طوال عقود. ومرة أخرى يؤكد جونسون وغوف بأن تحسين السيطرة الوطنية ليس بالضرورة أن يكون متطرفًا أو عنصريًا (ويستشهدون بكندا وأستراليا كأمثلة نموذجية). ومع ذلك تعرضت تلك الوعود المعتدلة للعرقلة عندما نشر حزب استقلال المملكة المتحدة ملصقات عن أمواج من المهاجرين من الشرق الأوسط محذرًا من اقتراب المجتمع البريطاني من «نقطة الانهيار». ويقول المعارضون أيضًا إن التركيز على الهجرة يعطي للقضية بعدًا عاطفيًا يساعد على إخفاء الاضطرابات الاقتصادية الحقيقية التي من المرجح أن يسببها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ولكن تأتي الإشارات المتناقضة بشأن الهجرة كأكثر الأمثلة تطرفًا عن التناقضات الخاصة بموقف البريكسيت. يرغب مؤيدو الخروج مثل جونسون في تصوير البريكسيت قرارًا شجاعًا، من شأنه أن يحقق نصرًا للحرية، ولكن في الوقت ذاته يقللون من قيمة العواقب واصفين الأرقام الاقتصادية المقلقة بأنها تهدف فقط إلى بث الخوف. علاوة على ذلك، على الرغم من رغبتهم في إلقاء لوائح الاتحاد الأوروبي خلف ظهورهم، يدّعون أيضًا بأن بريطانيا ستكون قادرة على التفاوض من أجل ظروف تجارية ملائمة مع أوروبا وبقية العالم بعد ذلك، وكأن شيئًا لم يحدث.
ويُشار إلى كل من النرويج وسويسرا وكندا يعدون نماذج لدول نجحت في إجراء اتفاقيات ملائمة مع الاتحاد الأوروبي متجنبة في الوقت ذاته أعباء العضوية. يتجاهل ذلك بالطبع كل الوقت الذي استغرقه التفاوض من أجل الاتفاقيات بين الاتحاد الأوروبي وتلك الدول، ودرجة استمرار التزام كل من تلك الدول بلوائح الاتحاد الأوروبي وهي بالنسبة لتلك الدول، غير الأعضاء، أقل تحكما مقارنة بالمملكة المتحدة في الوقت الحالي. كما أنها تتجاهل الواقع العملي بأن أيًا من تلك الاتفاقيات يجب أن يتم التفاوض عليها مع الشركاء الأوروبيين أنفسهم الذين تخلت عنهم بريطانيا. في النهاية، تكمن مشكلة الإجراءات الرمزية في أنها لا تحمل المعنى ذاته للجميع. فكلما كان هناك إصرار على «توصيل رسالة»، زاد حجم الضرر الذي يمكن أن يقع إذا وصلت الرسالة بوضوح للجميع.



اليوم التالي.. وما بعده





يقودنا كل ذلك إلى نتائج الاستفتاء. تشير نتائج التصويت إلى أنه مر كما كان متوقعا إلى حد ما. صوّت الناخبون في المدن الصغيرة والمناطق الريفية، وخصوصا في إنجلترا، بقوة لصالح «البريكسيت»، بينما اتجهت المدن الكبرى للتصويت بالبقاء. في إنجلترا ذاتها، التي تعكس الدرجة تأكيد بها مؤيدو البريكسيت على تراثهم الإنجليزي وكرامتهم الوطنية، كان هناك هامش اقترب من مليوني صوت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وكان الفارق في ويلز أقل، ليعكس نتائج الاستفتاء التي بلغت نسبتها 52 مقابل 48 في المائة على مستوى المملكة المتحدة. في الوقت ذاته، في اسكوتلندا كانت نتائج التصويت صوتين مقابل صوت واحد لصالح البقاء، كذلك أظهرت آيرلندا أغلبية قوية لصالح البقاء.
ومن المرجح أن تكون هذه الانقسامات الإقليمية ذات أهمية كبرى خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
ومع أنه كان من غير الممكن التنبؤ بنتائج التصويت بكل ثقة، فإن معظم الخبراء - بدءًا من وزير الخزانة ومحافظ بنك إنجلترا إلى رئيس صندوق النقد الدولي - اتفقوا على أن التصويت لصالح البريكسيت سوف ينذر بفترة من عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي. وبالفعل نال الأسواق العالمية بعض من ذلك، إذ انخفض الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوياته منذ عقود، الأمر الذي أدى بدوره إلى انهيار عام في أسعار الأسهم العالمية. وأشار كثير من الشركات متعددة الجنسيات التي قد تقيم مقراتها الأوروبية في لندن بالفعل إلى أنه سيجب عليها إعادة التفكير في تلك المقرات، إذا لم تظل بريطانيا عضوا في الاتحاد الأوروبي. وليس من المعروف حتى الآن كيف سيكون رد فعل مدينة لندن، التي ازدهرت كمركز مالي ضخم.
يدفع مؤيدي البريكسيت بأن التحرر من قواعد بروكسل سوف يؤدي إلى ازدهار الاقتصاد البريطاني، إلا أنه لا أحد يعتقد أن تلك الطفرة سوف تحدث على المدى القريب. وبالفعل، أحد الأمور المثيرة للاهتمام بشأن الجدل القائم هو رؤية مؤيدي الخروج وهم ينكرون بشدة أهمية الاقتصاد على الإطلاق. فهم يفضلون عدم النقاش على أساس المزايا أو المساوئ الاقتصادية، بل على أساس فوائد السيادة الوطنية غير الملموسة، كما يتضح في شعار «بريطانيا أولاً!» بالنسبة لهم، تدل حقيقة أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف تكون مكلفة على صدق رغبتهم في تخليص بريطانيا من التزام لم يخدم المصالح البريطانية على الإطلاق. أي شيء سيكون أفضل في النهاية.


[caption id="attachment_55254362" align="alignleft" width="199"] رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون ترافقه زوجته سامانثا أمام 10 داونينج ستريت بوسط لندن بعد اعلانه في 24 يونيو الماضي (غيتي)
رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون ترافقه زوجته سامانثا أمام 10 داونينج ستريت بوسط لندن بعد اعلانه في 24 يونيو الماضي (غيتي)[/caption]


ولكن يعتمد الأمل في سماع أنباء جيدة على المدى البعيد على طول ذلك المدى البعيد - وقد تواجه بريطانيا طريقًا صعبًا وطويلاً. كما ستزداد التحديات الاقتصادية إثر الفوضى السياسية التي ستتبع التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. سوف يجبر التصويت بالخروج ديفيد كاميرون على البدء في الإجراءات القانونية للخروج من الاتحاد الأوروبي. تنص المادة 50 من معاهدة لشبونة للاتحاد الأوروبي (أقرب ما تكون لدستور الرسمي للاتحاد الأوروبي) على ما يلي: «يجوز لأي دولة اتخاذ قرار الانسحاب من الاتحاد وفقًا لمتطلباته الدستورية الخاصة». بمجرد أن تتخذ الدولة العضو ذلك القرار بالانسحاب، من المتوقع أن تُبلغ المجلس الأوروبي الذي سيبدأ في مفاوضات للتوصل إلى اتفاق بشأن الانفصال.
تتوقع المعاهدة استمرار هذه المفاوضات لمدة عامين، بعدها ينتهي تطبيق المعاهدات الأوروبية على تلك الدولة التي صوتت بالخروج من الاتحاد، سواء توصل الجانبان إلى اتفاق بديل أو لا. ويعني ذلك أنه في حالة عدم التوصل إلى اتفاق بشأن تأمين مصالح بريطانيا في غضون عامين، من المحتمل ألا يكون هناك اتفاق على الإطلاق. وبالطبع من الممكن أن تستمر المفاوضات، ولكن قد لا تكون هناك أي ضمانات. ولن يكون هناك أي طريق واضح لتعود بريطانيا إلى وضعها الأصلي، إذا أصابها الندم على الاستفتاء. وبعد إتمام الانفصال، إعادة التقدم للالتحاق بالاتحاد الأوروبي سوف يعتمد على خوض المتقدم لعملية التقديم كاملة، التي تخضع لتصويت الدول الأعضاء الموجودين بالإجماع.

وينبغي بعد ذلك موافقة البرلمان على المعاهدات الناتجة بين المملكة المتحدة التي خرجت حديثًا والاتحاد الأوروبي. وسوف تكون تلك العملية معقدة نظرًا لأن معظم أعضاء البرلمان الحالين - بما فيهم قيادات الأحزاب الرئيسية الثلاثة جميعا - يُفضلون البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي. هل سيرغبون في التصويت لصالح قوانين تتناقض مع مواقفهم الحالية؟ في المراحل الأخيرة من الحملة، أشار بعض المدافعين عن البقاء والمحللين المؤيدين للاتحاد الأوروبي إلى أن رفض البرلمان لمتابعة الجوانب القانونية للبريكسيت قد يمثل محاولة أخيرة لإنقاذ عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. بيد أن رفض البرلمان احترام الاستفتاء سوف يُثير أزمة سياسية ودستورية أكبر، مُعززًا بذلك التأكيدات على أن النخبة السياسية تفتقر إلى شرعية ديمقراطية. وقد يُمثل ذلك تهديدًا كبيرًا للغاية في حد ذاته.
يصور مؤيدو البريكسيت أنفسهم كمدافعين عن الشعب، ويترددون في منح خصومهم أي شرعية على الإطلاق، لذلك ليس من الصعب أن نتصور كيف سيكون ردهم على مثل تلك المناورات البرلمانية التحكمية. ونُقل عن نايجل فاريج، من حزب استقلال المملكة المتحدة قوله إنه في حالة شعور الشعب البريطاني بعدم قدرتهم على تحقيق أمنياتهم عبر صناديق الاقتراع، فقد يلجأون للعنف. يثير الاعتداء القاتل الذي استهدف أخيرًا نائبة حزب العمال جو كوكس على يد رجل مختل عقليًا الذي هتف بشعار «بريطانيا أولاً»، ومتأثرا بموضوعات النقاش اليمينية المعادية للمهاجرين وللاتحاد الأوروبي، القلق مما قد يأتي.

[blockquote]لم تكن ثاتشر من مناصري السوق الأوروبية التي أصبحت أكثر ديمقراطية اجتماعية وشجعت على صعود الشكوكية الأوروبية داخل حزبها[/blockquote]

علاوة على ذلك، سوف تجرى المناقشات البرلمانية في ظل انقسامات متزايدة في لمملكة المتحدة. يتركز أغلب الحماس للبريكسيت داخل إنجلترا. أما عن المناطق الأخرى في المملكة المتحدة (اسكوتلندا وآيرلندا الشمالية وويلز) على الرغم من صغر عدد السكان، فقد أيدت البقاء عامة. وتعكس نتائج التصويت ذلك بدرجة كبيرة. وبالتالي، أشار الاستفتاء إلى أن الأغلبية العظمى ترغب في الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكن الأغلبية في الأقاليم تُفضل البقاء، مما قد يؤدي إلى زيادة التوترات بين المناطق. أجرت اسكوتلندا بالفعل استفتاء في عام 2014 على الانفصال عن المملكة المتحدة، وهو استفتاء تغلبت عليه حملة من الحزبين تدافع بأن بريطانيا كانت «أفضل معًا». وأشارت زعيمة الحزب القومي الاسكوتلندي، نيكولا ستورجيون، إلى أن الشعب الاسكوتلندي سوف يرد على البريكسيت بإحياء خططه للانفصال عن المملكة المتحدة. قد يكون ذلك تهديدًا أجوف، ولكن لا يمكن استبعاده. وفي آيرلندا الشمالية، اعتمد الازدهار إلى حد كبير على فتح الحدود مع جمهورية آيرلندا. وبمجرد أن تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي، سوف يتم إغلاق تلك الحدود مجددًا، بما لذلك من عواقب اقتصادية وسياسية كبيرة. سوف تستهلك معالجة المخاوف الآيرلندية والاسكوتلندية أثناء محاولة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي وبقية العالم قدرًا كبيرًا من رأس المال السياسي والطاقة في بريطانيا.


تنحي كاميرون




ومن المقرر أن تحدث كل تلك المناورات البرلمانية في فترة انتهاء ولاية رئيس الوزراء ديفيد كاميرون. وفي أول تصريح له بعد صدور النتائج الرسمية للاستفتاء، أعلن عن عزمه التنحي عن منصبه في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، مُعلنًا أنه «(لن يكون) مناسبا بالنسبة لي محاولة قيادة البلاد إلى وجهتها التالية». ومن المرجح أن يخلفه في منصبه أحد المحافظين المؤيدين للبريكسيت، والأكثر احتمالا أن يكون خلفه بوريس جونسون ذا الطموح الصريح الذي تخلى عن دعمه السابق للاتحاد الأوروبي كي يقود حملة الخروج. وفي ظل انقسام المحافظين حول القضية الأوروبية، لم يتضح حتى الآن ما إذا كانوا سيتمكنون من الحفاظ على أغلبيتهم حتى إجراء الانتخابات المقبلة في عام 2020. على الأرجح أنه سيلزم عقد انتخابات جديدة قبل ذلك الموعد. وكل ذلك لا يؤدي إلا إلى المزيد من أجواء الأزمة وحالة الشك.
أحد الأسئلة المثيرة للاهتمام التي تواجهها بريطانيا في الوقت الحالي، وهو مصير نايجل فاريج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني. ظهر فاريج منتصرًا ليلة الانتخابات، وأعلن حزب استقلال المملكة المتحدة تحقيقه لنصر كبير بإلهامه الاستفتاء ودفعه لقضية البريكسيت. من الممكن أن يتمكن حزب استقلال بريطانيا من تحقيق المزيد من الانتصارات الانتخابية، خصوصًا إذا تراجع حزب المحافظين. ولكن في الوقت ذاته، يعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن يفقد حزب استقلال بريطانيا قضيته المميزة. وقد يتحولون إلى ضحايا لنجاحهم. ويعتمد الكثير على الدور الذي يؤديه فاريج وقادة الآخرين في الحزب في المفاوضات المحلية والدولية بخصوص تفاصيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما إذا كان الحزب سيتمكن من إعادة تشكيل ذاته كحزب قومي محافظ بالمملكة المتحدة المستقلة بالفعل.
إذا أدى «البريكسيت» إلى بدء عصر جديد من الشك داخل بريطانيا، فسوف يُثير أزمة كبيرة داخل الاتحاد الأوروبي ذاته.



تأثير الصدمة في الولايات المتحدة




أن موجات الصدمة ظهر تأثيرها خارج أوروبا أيضًا. وسوف تنتقل آثار اضطراب السوق الذي بدأ ليلة الانتخابات إلى كل أنحاء العالم. وتُشير حالة التراجع التي سادت الأسواق خلال الأسابيع السابقة للاستفتاء إلى أن المستثمرين كان قد بدأوا بالفعل في وضع ذلك الاحتمال في حسبانهم، ولكن لا يزال هناك متسع للتدهور على المدى القريب. ومع أنه من الممكن أن تتمتع الولايات المتحدة بدفعة أولية من رؤوس الأموال الدولية الهاربة من أوروبا بحثا عن ملاذ آمن في الأسهم والسندات الأميركية، مما يزيد قوة الدولار الأميركي، فإنه من المحتمل أيضًا أن لا يجر ذلك الركود الاقتصادي الذي تُعاني منه أوروبا الاقتصاد الأميركي فحسب، بل قد يمتد إلى الاقتصادات الآسيوية التي تعتمد على الطلب الأوروبي.
تحدث الرئيس أوباما نيابة عن الغالبية العظمى القادة الأميركيين قائلاً إن واشنطن كانت ترغب في بقاء بريطانيا في اتحاد أوروبي معدل وأكثر تماسكًا. واستاء مؤيدو البريكسيت كثيرًا من تصريح أوباما الشبيه، عندما قام بزيارة بريطانيا في مطلع الربيع الماضي، ولكنه كان تعبيرًا صادقًا عن للسياسة الأميركية الثابتة تجاه أوروبا منذ عام 1945. تحتاج الولايات المتحدة الأميركية إلى شريك أوروبي، وكان ذلك الشريك الأوروبي في أفضل حالاته عندما كانت بريطانيا جزءًا منه.
من مصلحة أميركا عدم تضخيم هذه الأحداث ومحاولة تهدئة المخاوف الاقتصادية وأي توترات سياسية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. ولكن قد تكون هناك حدود لما يمكن القيام به على المدى القصير، في ظل ردود فعل شركاء بريطانيا على الاستفتاء.

* مدير مركز دراسات أميركا والغرب بمعهد أبحاث السياسات الخارجية بفلادلفيا ومدير الأبحاث بمعهد لودر بجامعة بنسلفانيا
font change