حين طرح الأميركيون فكرة «حل الدولتين» لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، لم يكن ذلك دفاعا عن الشرعية الدولية وقراراتها ومبادئها التي تعطي للشعب الفلسطيني حق تقرير مصيره ونيل حريته وبناء دولته، بقدر ما كان نتيجة قراءة واقعية للحقائق الديموغرافية، ودراسة استشرافية للمستقبل انتهت إلى أن من مصلحة الدولة العبرية الانفصال عن أغلبية السكان الفلسطينيين؛ لأن الظروف الدولية والإقليمية سياسيا وإعلاميا وعسكريا لم تعد تسمح بممارسة سياسة الترانسفير ضد هؤلاء السكان من الضفة الغربية ومن داخل الخط الأخضر نفسه.
انطلاقا من هذه المعطيات يرى الدبلوماسيون الأميركيون، الذين كلفوا بالترويج لحل الدولتين، بأن على إسرائيل الإقرار بأنه في ظل التطورات العالمية الراهنة وما تحمله من تحديات لا يمكنها الحفاظ على الهوية اليهودية للدولة دون الانفصال عن الفلسطينيين، كما يستحيل الدفاع عن الدولة العبرية كـ«واحة للديمقراطية»في الشرق الأوسط إذا واصلت ممارساتها التمييزية والاستعمارية في الأراضي المحتلة.
وبحسب هؤلاء الدبلوماسيين، فإن إسرائيل انتزعت اعتراف جميع الأنظمة العربية بها منذ مؤتمر مدريد في أكتوبر (تشرين الأول) 1991 عندما جلس المفاوض الفلسطيني والأردني والسوري واللبناني وجها لوجه وثنائيا مع المفاوض الإسرائيلي برعاية أميركية وروسية، وبحضور عربي جماعي في المفاوضات المتعددة الأطراف المنبثقة عن المؤتمر المذكور. وبذلك فإن إسرائيل لم تعد بالنسبة لهذه الأنظمة سرطانا في جسد المنطقة يجب استئصاله، وإنما غدت كيانا قطريا قائما يتطلب الواقع التعامل معه بغض النظر عن طبيعة ونوعية ودرجة هذا التعامل، الذي يفترض العمل الآن على توسيع دائرته، والاستفادة منه كما وكيفا.
ولذلك تعتقد الإدارة الأميركية الجديدة أن «حل الدولتين»سيساعد كثيرا في الجهود المبذولة والناجحة لحد الآن في إدماج إسرائيل دولة ومجتمعا في نسيج المنطقة، إذ من شأنه تأمين تقبل شرائح واسعة من أبناء الشعوب العربية لها، والسعي للانفتاح عليها والتعامل بلا حرج مع مواطنيها، وهو الهدف الذي ظلت تسخر له في السابق كل الإمكانيات دون تحقيق اختراق كبير يذكر.
إن على إسرائيل- يضيف أقطاب الإدارة الأميركية- انتهاز هذه الفرصة بغية إقبار كل الاتهامات الموجهة إليها بالتمييز العنصري، وكذا كل المطالب المرتبطة بحق العودة وفق مقتضيات القرار 194 للجمعية العامة للأمم المتحدة، خاصة وأن حل الدولتين يحظى بقبول عربي عام بما في ذلك السلطة الفلسطينية، رغم تأكيد واشنطن المستمر على أن المفهوم لا يعني العودة إلى قرار التقسيم رقم 181، كما لا يتطلب العودة التلقائية إلى حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، رغم أنها تمثل 22 في المائة فقط من مساحة فلسطين التاريخية.
وإذا كانت إدارة الرئيس الأسبق أوباما قد تعمدت إبقاء مفهوم «حل الدولتين»غامضا دون تحديد فحواه ولا رسم معالم حدود الدولتين باستثناء الإشارة إلى قابلية الدولة الفلسطينية المرتقبة للحياة، فإن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اقترح سنة 2020 في سياق صفقة شاملة لتطبيق «حل الدولتين»قيام إسرائيل بضم 30 في المائة من أراضي الضفة الغربية إليها، على أن تترك للجانب الفلسطيني الباقي في شكل كانتونات معزولة ومحاطة بمستوطنات إسرائيلية، إضافة إلى إمكانية تجريد ربع عدد مواطنيها من عرب 1948 من جنسيتهم الإسرائيلية، ودمجهم في الدولة الفلسطينية الوليدة.
ومع ذلك، رفضت معظم النخب السياسية والأمنية الإسرائيلية هذا الاقتراح، وهو رفض قطعي جرى الخروج عليه مرة واحدة في بداية عهد الرئيس أوباما من طرف رئيس الوزراء آنذاك بنيامين نتنياهو، الذي تدارك الموقف، مشيرا إلى أن إسرائيل ترفض أن يكون للكيان للفلسطيني المقترح حدود مباشرة مع الأردن، أو سلطة ولو رمزية على مدينة القدس الشريف ومعالمها الدينية، وعلى أجواء الضفة الغربية.
وكما كان متوقعا، فإن موقف الرفض هذا استمر مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة وتم تبليغه إلى إدارة الرئيس جو بايدن، الذي ما زالت إسرائيل تتذكر بامتعاض تأكيده أمام لجنة شؤون العلاقات الأميركية الإسرائيلية (إيباك) عندما كان نائبا للرئيس على ضرورة وقف بناء المزيد من المستوطنات، وتفكيك العشوائية منها، ومنح الفلسطينيين حرية أكبر في التنقل بين مدنهم وقراهم.
وإدراكا من إسرائيل بأن المجتمع الدولي لن يوافق أبدا على مساعيها الرامية إلى ضم الأراضي المحتلة، وخشية تعريض علاقاتها المتنامية مع الدول العربية للانتكاسة بدأت مؤخرا في الترويج لخطة انفصال جديدة عن الفلسطينيين. هذه الخطة المسماة «تقزيم النزاع»(Shrinking the Conflict) تنطلق من مفهوم السلام الاقتصادي الذي تبنته إسرائيل رسميا في تسعينات القرن الماضي بعد صدور كتاب «الشرق الأوسط الجديد»لشيمعون بيريس، وتستوحي خطوطها العريضة من أفكار السياسي والأكاديمي ميخا غودمان المحسوب على تيار الحمائم في حزب العمل الإسرائيلي، الذي نشر مقالا بمجلة «The Atlantic»الأميركية يوم 1/4/2019 تحدث فيه عن ثماني خطوات لاحتواء النزاع وتقزيمه، متجاهلا تسوية جوهر النزاع المتمثل في السيادة على الأرض.
في هذا المقال أوجز غودمان تلك الخطوات في مجموعة مغريات تعطى للفلسطينيين، أهمها منح تسهيلات تجارية لصادراتهم ووارداتهم عبر الموانئ والمطارات الإسرائيلية، والسماح لسلطتهم باستيفاء الرسوم الجمركية مباشرة، وزيادة عدد تراخيص العمل للفلسطينيين في مناطق الخط الأخضر، وحث المانحين الدوليين على بناء مناطق صناعية في الأراضي التي تديرها السلطة الفلسطينية.
في حديث صحافي لجريدة «النهار»يوم 3/7/1973 قال الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة: «إن العرب يتمسكون بمبدأ معين، بينما معطيات الواقع أصبحت تناقض ذلك المبدأ». والواضح أن إسرائيل استعارت هذا السلوك العربي بإصرارها على الالتفاف على حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة. فهل تنجح؟