الجزائر: بَخاخ دهان، وأقلام خاصة، هي عدة الرسّام الجزائري الشاب مكي دفاس، الذي بات متخصصاً في رسومات الغرافيتي في شوارع ومدن الجزائر الكبرى، يقول دفاس إن الغرافيتي الذي بات يزين شوارع وأحياء الجزائر الكبرى في ظاهرة حديثة برزت مع بداية الحراك الشعبي قبل عامين، يحمل هموم وآمال الشباب في مستقبل زاهر سياسياً اجتماعياً، وحتى كروياً.
ويُعد فن الغرافيتي، أو رسم الجدران، من فنون الرسم التي عرفت انتشاراً واسعاً في مدن الجزائر الكبرى، وبشكل خاص في العاصمة الجزائر، حيث برز عشرات الرسامين يوقّعون بأسمائهم لوحات فنية مبدعة، تحمل في الكثير منها رسائل اجتماعية وثقافية، وحتى رياضية مختلفة، وحسب خبراء في هذا الفن فإن أصوله تعود إلى الحضارات العتيقة وبشكل خاص القدماء المصريين والإغريق والرومان وغيرهم.
الغرافيتي الحديث
تطوّر الغرافيتي عبر الزمن، واليوم يسمى بالغرافيتي الحديث، وهو يعرف بالتغيرات العامة لملامح سطح عن طريق استخدام بخاخ دهان أو قلم تعليم أو أي مواد أخرى، ونشأ فن الغرافيتي الحديث في الستينات من القرن الماضي في نيويورك بإلهام من موسيقى الهيب هوب.
ورسم الغرافيتي على سطح عام أو خاص دون الحصول على إذن من مالك السطح من الممكن أن يعتبر نوعا من التخريب، والذي يعاقب عليه القانون في معظم دول العالم. يستخدم الغرافيتي غالباً لإيصال رسائل سياسية واجتماعية، وكشكل من أشكال الدعاية، ويعتبر أيضاً أحد أشكال الفن الحديث، ويمكن مشاهدته في صالات العرض العالمية.
فن الثورات
شهد فن الغرافيتي انتشارا واسعا في العقد الأخير، إذ رافق التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم، وقد ربطته العديد من الدراسات في العالم العربي بالثورات التي شهدتها المنطقة العربية، بداية من ثورة الياسمين في تونس عام 2011 وصولاً إلى الحراك الشعبي في الثاني والعشرين من فبراير (شباط) 2019.
وبسبب هذا الأخير أي الحراك الشعبي، حاول فنانو الجزائر مسايرة الأحداث السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد في ثورة سلمية غير مسبوقة أطاحت بالرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة من سدة الحكم بعد عشرين عاماً قضاها في قصر الرئاسة بالمرادية في أعالي العاصمة، وانخرط مغنون في هذه الثورة، وكان أبرزهم الفنان المقيم في فرنسا سولكينيغ والذي أدى أغنية «الحرية»، والتي تتغنى بالحرية والحلم بالتغيير والقضاء على الاستبداد، وقد شاركه في الأغنية فرقة )البهجة( الفرقة الشبابية التي برزت من أحضان الحي الشعبي العريق وسط العاصمة باب الوادي، والتي كانت أغانيها الحماسية كأهازيج تدوي في مدرجات الملاعب، وتحمل في معظمها رسائل سياسية واجتماعية غاضبة من الأوضاع التي كانت تشهدها البلاد خلال حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وكذلك أنتج مسرحيون أعمالاً فنية بثيمات سياسية جريئة وغير مسبوقة، والأمر نفسه بالنسبة لأصحاب الريشة، الذين فضل كثير منهم اتخاذ الغرافيتي كوسيلة لإيصال رسائلهم وأفكارهم وطموحاتهم.
مكي دفاس فنان غيّر نظرة الجزائريين لهذا الفن
وكان أبرز هؤلاء الفنان مكي دفاس الذي بدأ رحلته في الريشة في سن مبكرة، ترعرع في أسرة فنية ساعدته على امتلاك اللمسة الإبداعية من خلال الريشة، فوالدته التي تخرجت من المدرسة الوطنية للفنون التشكيلية بالعاصمة رسمت له الطريق نحو عالم من الألوان والإبداع المفتوح. أنشأ مكي ورشة صغيرة في منزله العائلي في مدينته بضواحي جيجل التي تسمى عروس الساحل الجزائري بوسائل بسيطة، وبدأ يرسم لوحاته والمشاركة بها في المعارض التي تقام بمكتبة جيجل.
عام 2004، تذوق الطفل الصغير طعم النجاح وهو في العاشرة من عمره، حيث استطاع أن يحرز المرتبة الأولى في الفن التشكيلي بمحافظته جيجل، وفي العام 2010، قرّر أن يحمل أفكاره وموهبته ويخرج بهما إلى الشارع، حيث اعتبر الجدران لوحة كبيرة تحتاج إلى أنامل مبدعة لتنثر فيها الجمال، وتماشيا مع تطلعات الشباب، استطاع أن يرسم «تيفو» كبيرا في الملعب حمل الأفكار التي يريد أنصار فريق جيجل أن يعبروا عنها من خلال المباراة.
خلال هذه الفترة تخرّج دفاس من جامعة العربي بن مهيدي بمحافظة أم البواقي بشهادة ماجستير في المشاريع الحضرية، ولم يكن هذا التخصص إلا دافعا لهذا الشاب ليستمر في انتزاع اللون الباهت من الجدران الكئيبة ويبث فيها الألوان، واستطاع خلال سنوات قليلة أن يغير نظرة المجتمع الجزائري لهذا الفن من كونه فنا يحرض على الإجرام، إلى داعم ومشارك فيه. لم يكتف مكي بالرسم في مدينته جيجل وحسب، بل نقل موهبته إلى مدن أخرى على غرار العاصمة، قسنطينة، بجاية، سطيف، أم البواقي، مستغانم، سوق أهراس، حيث لاقى إعجابا كبيرا واستجابة منقطعة النظير من الشباب.
ولكن رأي السلطات لم يكن على نفس المستوى الذي عرف به بين الشباب، حيث وجهت له قبل سنوات تهمة تخريب الممتلكات العامة وإهانة هيئة حكومية، وبعد تبرئته واصل مسيرته متجاوزاً كل التحديات الاجتماعية والحكومية التي واحهته في بداية مسيرته الفنية في هذا العالم.
فن الخروج من القاعات المغلقة
وفي حديثه لـ«المجلة» يقول مكي دفاس إن الرسالة التي يريد إيصالها من خلال جهده في تزيين الشوارع هو الخروج بالفن من القاعات المغلقة، ووضعه بشكل مباشر أمام الجمهور. وفي ذلك يقول دفاس: «القضية قضية عدم ترك الفن يدفن في الورشات بجعله جزءا من الحياة اليومية، وتحويل المدن الجزائرية إلى متاحف، وهذا عن طريق فن الغرافيتي»، لكن البدايات حسب حديثه «دائما ما تكون صعبة، فكانت النظرة نحو هذا النوع من الفن على أنه إجرام»، ويعتقد أن «تزيين الواجهات الحضرية وجعل الفن أقرب إلى المستعمل الحضاري هذا ما جعل المجتمع الجزائري يغير الموقف من رافض إلى داعم ومشارك» ويقول دفاس إنه يجد الآن قبولاً وترحيباً واسعاً من الجزائريين، يتجلى ذلك من خلال الدعوات التي تصله من كل المحافظات الجزائرية لتزيين الواجهات الكبرى، وكان آخر عمل قام به دفاس ونال إشادة واسعة من طرف الجزائريين إنجازه للوحة فنية كبيرة وضخمة بمدينة مليانة، مسقط رأس جمال بن إسماعيل، الذي تحول إلى أيقونة جزائرية بعد تعرضه لاغتيال وحشي بمدينة تيزي وزو، حينما هبّ لمساعدة المتضررين من الحرائق غير المسبوقة التي شهدتها البلاد الصائفة الماضية.
فن الغرافيتي يعبر عن الحراك الشعبي في الجزائر
الفنانة نسرين حوامدي، المتخرّجة حديثاً من معهد الفنون الجميلة، تقول لـ«المجلة» إنّ علاقتها بهذا الفن تعود لأولى بدايات الحراك الشعبي، حينما قامت مع مجموعة من الشباب والشابات بإنجاز جداريّة كبيرة في حي باب الواد الشعبي، وتقول نسرين إن «اللوحة تجسد تراث وثقافة العاصمة فنياً وموسيقياً، حيث تضم أبرز فناني العاصمة الذين أدوا أغاني شعبية خالدة في الموروث الثقافي والغنائي الزاخر»، وحسب حديثها فإن «الغرافيتي لا يحمل فقط مضامين سياسية ولكنه يحمل أيضا رسائل فنية وثقافية وحتى تاريخية، بحيث يهدف إبرازها إلى إبراز الثقافة ولإحياء هذه الفنون والموسيقى العريقة». وفي المقابل كشفت نسرين عن مشاركتها في رسم جدارية رياضية كبيرة تحمل ألوان نادي اتحاد العاصمة وهو أحد أبرز الفرق الكروية بالجزائر.
وفي دراسة أنجزها الباحثان عائشة قرة من جامعة محمد لمين دباغين، بولاية سطيف، والدكتور عبد الرؤوف وشان من جامعة الجزائر بعنوان الدلالة الرمزية للحراك الشعبي من خلال فن الغرافيتي فإن فن الغرافيتي يعبر عن الحراك الشعبي الذي عاشته الجزائر في خضم المسيرات والاحتجاجات التي شهدها البلد منذ22 فبراير 2019، جراء تنامي الفساد السياسي والاقتصادي وتنامي الظواهر الاجتماعية السلبية من قبيل البطالة والهجرة غير الشرعية، إذ انتشرت مشاعر الإحباط والأسى في الفضاء العام الجزائري قبل الحراك، ذلك أن الوضعية المتأزمة للبلد حسب الباحثين «شكلت عقبة في مسار بناء دولة ديمقراطية، وسرقت جزءا من شبابها وأحلامها وسط شعور عام بالسخط بسبب الحصيلة الهزيلة التي تحققت في ظل نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، وتفاقم مظاهر الفقر وعدم تحقيق المطالب الأساسية للمواطن خاصة السياسية والاجتماعية منها، فالمواطن البسيط لا يرى تغييرا في الوضع، وعلى المستوى السياسي تعالت الانتقادات الموجهة للنظام السياسي الذي اتهم بفشله في تسيير المرحلة».
سيميولوجياً يقول الباحثان إن «الغرافيتي ينشد طاقة تأويلية عبر اللون الأبيض في لفظة الحرية، فهو يبدو بسيطا وسهلا إلاّ أنه يخفي في العمق الكثير من الحذاقة وتقنيات التشكيل الفني، مما يكثف الرموز اللونية الثقافية ويزيد من الميل البصري، فالألوان حسب مارتين جولي هي علامات مشحونة تشكل ضمانا لقراءة أمثل، لذا يمكن القول إن تتابع اللون الأبيض يوحي بالنقاء والطهر، ويوجه القارئ إلى قراءة أفضل للغرافيتي والتركيز على الغاية، دون أن يلهيه عن الغوص بمدلولات أخرى ليست ذات أهمية، فاللون الأبيض حسب فناني الرسم غيبوبة الألوان، إنه يشبه الصمت الذي يحتوي على كل إمكانيات المباشرة، يمكن استعماله كلون خلفي لإبراز أهمية الألوان الأخرى، وتتنوع دلالة المدونات اللونية المتعددة في هذا الغرافيتي لتنتج حقلا دلاليا يحاجج في سيميولوجية الغرافيتي ووظيفته التواصلية، فلقد تعددت ألوان الخلفية وتدرجت بين الأحمر والأخضر والأصفر والأصفر القاتم وكذا البرتقالي لتعكس المشاعر وتبرز العمق والمستويات وتوحي بالحالة النفسية كما تجعل القارئ يركز على الرسالة الأيقونية».
أما النجوم في الرسم فتحمل حسب البحث المنجز «دلالتين تتعلق الأولى بالعلم الجزائري والذي تشير فيه النجمة إلى أركان الإسلام الخمس، كما تتراءى النجمة هنا كعلامة سيميائية تشير إلى مظاهر الفرح والاحتفال بأعياد الميلاد، هذه الدلالات المختلفة تقود إلى فكرة أساسية مفادها أن الحراك الشعبي في الجزائر ذو طابع سلمي تميز عن غيره بمظاهر الفرح والتكافل بين جميع مكونات الشعب، وهو ما تؤكده الأهازيج والأغاني المتداولة بما تحمله من سخرية وما تضفيه من سرور في أوساط المحتجين».
لقد كان للمكان دور دلالي في الصورة إذ يعد المكان حسب الباحثين «عنصرا له دلالته الرمزية، فالمكان ليس مجرد ديكور لتزيين المشهد بل هو عنصر حقيقي فرض وجوده في النص والصورة، وسيميولوجياً دائما يحيل الشكل المعماري الذي يعد أيقونة لمقام الشهيد رياض الفتح على دلالة ثورية باعتباره نصبا تذكاريا مخلدا لنضال وتضحيات الشعب الجزائري في ثورته ضد المستعمر الفرنسي، فهو يرمز للمقدس ويستعير تناصه ليقدم حمولة دلالية بالغة الأهمية تحاجج في كون الحراك الشعبي في2019 يعد امتدادا ونفسا آخر لثورة التحرير 1954، فـالنضال ضد المستعمر/ الفاسد/ المستبد يتحدد في هذا السياق رغم اختلاف الأزمنة كضرورة للحفاظ على الوطن وكمطلب أساسي لازدهاره».
أما النزعة التفاؤلية والأمل في غد أفضل تتحسن فيه الأوضاع يعبر عنه الرسام برأي الباحثين من «خلال جل مدوناته اللونية ورسائله الأيقونية التشكيلية والألسنية الواردة في هذا الغرافيتي، ليقدم لنا مشهدا مبطنا يسترعي اهتمام المتلقي عند قراءته، كما يستحضر الرسام صورة الشاب الحامل للعلم الوطني كرمز جمالي لدى الشعب الجزائري وكرمز ثوري أخذ معناه من ثورة التحرير وحراك 2019 الناعم الذي اتسم بالسلمية».