تونس: هو تناقض تعيشه تونس، فبقدر ارتفاع وتيرة المطالبة بمحاربة الفساد وادّعاء الحكومة أداء هذا الدور، بقدر الإجماع على أن هذا الفساد بصدد التوسّع والتمدّد.
لتحليل هذه الظاهرة، والإجابة عن الأسئلة المتفرّعة، تحاور «المجلّة» الدكتور نزار البركوتي، خبير ومستشار وباحث في مجال الحوكمة ومكافحة الفساد، الذي يطرح المقاربة من زوايا تتجاوز التشخيص المباشر.
* منذ 2011 شكّلت «محاربة الفساد» أحد أهمّ الشعارات التي رفعتها الحكومات المتتالية، إن لم يكن أهمّها، ما الذي تمّ إنجازه طوال هذه الفترة على هذا المستوى؟
- بعض المنجز، على المستوى القانوني، إصدار نصوص قانونية حول النفاذ إلى المعلومة والتبليغ عن الفساد وحماية المبلغين والتصريح بالمكاسب والمصالح ومكافحة الإثراء غير المشروع.
وعلى المستوى المؤسسي، إحداث هيئة متخصصة في مكافحة الفساد وأخرى في النفاذ إلى المعلومة وكذلك القطب القضائي المالي وخلايا للحوكمة الرشيدة داخل الهياكل العمومية وإعلان وزارات في حكومات مختلفة متخصصة في الحوكمة ومكافحة الفساد.
* الإخفاق على مستوى محاربة الفساد، هل مردّه غياب التشريعات الملائمة؟ أم ضعف الإرادة السياسيّة؟ أم غياب الإرادة السياسيّة؟ أم استفحال الفساد في مفاصل الدولة؟
الإخفاق في مكافحة الفساد هو نتاج تقاطع أسباب عديدة، من السهل إصدار التشريعات والتلاؤم مع المدونات القانونية الدولية ومعاييرها التي قُدّت على مقاس دول لها رسوخ لثقافة النزاهة بفعل عوامل عديدة (هذا عمل تقني سهل)، ومن النادر أن تخلو خطابات الحكومات المتعاقبة بعد الثورة من التلويح بمحاربة الفساد. لا بل خوض معارك استعراضية أمام الرأي العام الدولي والمحلي بما يعبّر عن تملّك والتزام بالحرب على الفساد. (من أيسر الأشياء التلويح بالوعود والخطابات التي لا يساءل من يطلقها من أجل تحقيق العائد السياسي).
بمعنى أنه لا تضخم التشريعات المهيئة لمكافحة الفساد ولا إظهار إرادة سياسية قوية، من شأنهما إنجاح الحرب على الفساد ومحاصرته في نطاقه الضيق الذي يجعله عارضا إنسانيا وليس مرضا عضالا مستشريا في مفاصل الدولة ومهددا لكيانها ولأسس الحياة الديمقراطية والاقتصاديات.
بالتالي يطرح السؤال عمّا كان يفعله أمراء الحرب على الفساد في تونس، أحسن النصوص القانونية وخارطة مؤسسية لمناهضة الفساد من هيئة متخصصة وأخرى مجاورة لمعاضدة دورها (هيئات رقابية عامة وتفقديات وزارية وتدقيق وهيئة نفاذ إلى المعلومة وقطب قضائي مالي متخصص في الجريمة الاقتصادية والفساد وتشبيك وشراكات ومجتمع مدني ضُخّت فيه ومن أجل تطوير قدراته الرقابية أموال كثيرة) ومع ذلك فإن المخرجات لا نرى منها سوى هضبة الفساد والتصالح معه بعدما كان أحد شعارات إسقاط نظام بن علي.
عندما تكون الدولة ضعيفة فإنها لا تقدر على المواجهة.
المواطنون هم أيضا أحد أسباب الإخفاق لأنهم ظلوا مستكينين، دون أن يبرعوا في أداء دور المواطنين فيستغلوا الفرص التي أتيحت لهم لبناء ثقافة معادية للفساد وردع الفاسدين. هناك مشكل مجتمعي هو أيضا أحد أسباب الإخفاق. لأن الدول التي تنجح في محاصرة الفساد هي التي تجد في مواطنيها الدرع الأولى برفض الفساد والكشف والتبليغ عنه.
من ذلك تسارع نسق الفساد في تونس واتسع نطاقه وتحالفاته الفاعلة، في التفاف على مفاصل الدولة، من أرفع مركز فيها إلى أخمص قدميها جراء الإخفاقات المتتالية.
* ما السبيل الأكثر نجاعة لمحاربة الفساد أو الحدّ من تأثيراته على الاقلّ؟
- أعتقد أن النجاح في الحرب على الفساد يحتاج للوصفة التالية:
- قيادة سياسية ذات إرادة حرة وواعية بالرهان على تنميةمستدامةخالية من الفساد مستقطبة للاستثمار الذي يتوق للعمل في البيئات النظيفة. علينا أن ننتقل بمكافحة الفساد من مكون من مكونات سياقات صنع الثروة والبناء الاقتصادي بشكل يبعده عن الاهتمام الموضعي الذي جعله موضع توجس من قبل كثير من الفاعلين الاقتصاديين الذين ظنوا أن الحرب على الفساد هي حرب ضد الإرادات الخاصة ورأس المال والاستثمار الخاص.
- الرقمنة في تونس مشروع معطل لصالح أخطبوط الفساد، أدواته موظفون وسياسيون وبرلمانيون عجزوا عن جعله العلامة الأولى، من أجل تطوير البلد وجعله أكثر تنافسية. فقط حولوه إلى حلقة نقاش لا تنتهي.. هذا المشروع الرقمي بالإضافة إلى فضائله الاقتصادية، كاف للقضاء على سوق الفساد الصغير بين الموظفين وطالبي الخدمات العمومية.
- البتّ بشكل نهائي بين فتح المجال للإرادات الخاصة والاستثمار الخاص والمبادرات الحرة والمؤسسات الناشئة دون معوقات من أي نوع كان على حركة المال والاستثمار، بين النزوع إلى التقييد والرقابة والتراخيص المتشعبة وسلطان الإدارة المطبق على المبادرة والسياقات الاشتراكية التي تحاصر المبادرات الحرة والتشبيك النقابي الذي من شأنه أن يعطل الحراك الاقتصادي الحر... مكافحة الفساد لا بدّ أن تكون مسؤولية مواطنية ومهمة منتشرة في أذهان كل الفاعلين حتى لا نصنع بمناسبة إنجاز تلك المهمة من يرون أنفسهم فوق القانون، وهم أول من يغتني على حساب الكافة.
- تغيير نسق مطاردة الفاسدين وتكتيكات المطاردة، لأنّ المشاريع الإجرامية صارت شديدة التطوّر وأصحابها على قدر كبير من الذكاء. لذلك من غير المعقول مطاردته بأساليب تقليدية بالية بنفس وسائل العمل التي نكافح بها التدخين ونتعامل بها مع الطلاق والطفولة المهددة. هذا يهم التشريع الجيد الذكي وأجهزة الرقابة المدربة والذكية ممن يتولون مهمّة المكافحة، وليس هاجسهاإكمال وقت الدوام والزج بها في دوامة البيروقراطية والرتابة الإدارية.
- بناء الإنسان من خلال سياسات تتمحور حول حاجاته ورؤية الدولة إلى مواطنيها في آفاق زمنية محددة، وبناء الإنسان يستهدف تكوينه المعرفي والثقافي وإتاحة فرص النجاح وتوضيب الشخصيات من خلال فسح المجال للإبداع والابتكار والنجاح، في مجتمع لا يكبت ولا يقيد، بناء الإنسان. هذا المشروع تنهض به الدولة لأن هذا الإنسان هو الذي سيكون موظفا صغيرا، أو كبيرا أو سياسيا أو نائبا أو رئيسا أو مستثمرا. الفساد يدور حول كل هذه النماذج التي وإن تأكدت صعوبة معالجة انحرافاتها فإن المستقبل لا يزال فيه متسع من الفرص لمكافحة الفساد. هذا البناء من أجل المستقبل مهمته أيضا جعل المواطن يتعوّد على رسوخ فكرة القانون وثقافة الحق وتكافؤ الفرص والمساواة التي هي الضمانات للإيقاع بالفساد وتكوين ثقافة عامة حاضنة للنزاهة وممتنعة عن ممارسة الفاسد العام صغيره وكبيره.
* هل يمكن القول إنّ حكومة المشيشي تمثل القطرة التي أفاضت الكأس على هذا المستوى؟
- هي خطأ في تاريخ تونس.
* ما حدود تأثير الحوكمة الرشيدة والشفافية على مستوى محاربة الفساد أو الحدّ منه؟
- الحوكمة الرشيدة والشفافية بقيت في تونس حبيسة الترف المعرفي ولم ننجح في تحويلها إلى أدوات لإشاعة ثقافة النزاهة والرقابة، ولا في صياغة المشروع الرقمي ومشروع الذكاء الكبير الذي من شأنه أن يطيح بالفساد والفاسدين.
من غير المعقول اليوم في زمن الإنترنت من الجيل الخامس،تنظيم كيانات وهياكلعمومية لا تزال خاضعة لذات المعايير ونفس تقسيم العمل اللاقط للفساد وذات علاقة باتجاهات للمواطنين لا تزال بها مناطق ظل يسهل معها انتشار الفساد.