في آخر إطلالة إعلامية له، أشار أمين عام حزب الله اللبناني إلى أن الهيكل العسكري لميليشياته يضم 100 ألف مقاتل. ورغم تداركه للموقف بالتأكيد على أنه يكشف الرقم للمرة الأولى لا ليهدد بنشوب حرب أهلية، وإنما ليمنع الانجرار نحوها، فإنه أعاد إلى دائرة النقاش العمومي موضوع التنظيمات المسلحة الخارجة عن سيطرة الدول، وما تشكله من تهديدات لسيادة معظم البلدان العربية وليس لسيادة لبنان وحده.
ولم يعرف العالم العربي في تاريخه الحديث تنظيمات مسلحة غير حركات المقاومة والتحرر الوطني ضد الاستعمار الأجنبي، أما الميليشيات المدججة بالسلاح، والناشطة ضد سيادة الدولة الوطنية أو بالتوازي معها دون موافقتها، وبعيدا عن رقابتها فهي بدعة طارئة على المنطقة بدأت إرهاصاتها الأولى مع:
1- بروز حركات انفصالية كانت متوارية أو غير موجودة خلال الفترة الاستعمارية. هذه الحركات قدمت نفسها في البداية كحركات تحرر موالية للمعسكر الاشتراكي محاولة الاستفادة من أجواء الحرب الباردة آنذاك للحصول على دعم مادي وتسليحي من بعض دول هذا المعسكر، ومن الدول الإقليمية التي كانت محسوبة عليه.
2- تنامي التيارات السياسية المتشحة بالدين، التي لجأت مبكرا إلى العنف المسلح للإعلان عن نفسها، وتحقيق مآربها، كما حصل في حادثة المنشية سنة 1954 حيث جرت محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، ثم فيما بعد في حادثة الكلية الفنية العسكرية سنة 1974 التي كانت تستهدف الانقلاب على الرئيس السادات.
ورغم أن الحركات الانفصالية كانت تروم هدفا واحدا هو الانفصال عن الوطن الأم، إلا أن مصيرها كان مختلفا. فأبرز هذه الحركات في الستينات حركة تحرير ظفار التي انتهت بتغليب قادة الحركة للمصلحة الوطنية وإلقاء السلاح سنة 1975 والاندماج في مؤسسات وطنهم الأم سلطنة عمان، فيما استطاعت حركة تحرير جنوب السودان فرض إجراء استفتاء شعبي قاد إلى انفصال جنوب السودان عن سلطة الخرطوم، وتأسيس دولة مستقلة نالت الاعتراف الدولي سريعا بما فيه اعتراف السودان نفسه.
وخلافا لواقعية قوات البشمركة التابعة لأكراد العراق، التي تطورت مهامها وأهدافها من حركة تحارب من أجل انفصال إقليم كردستان عن العراق إلى قوات محلية في إطار الحكم الذاتي الموسع للإقليم ضمن الفيدرالية العراقية، فإن جبهة البوليساريو ما تزال أسيرة أوهام الماضي في معاكسة الوحدة الترابية للمغرب، معاندة لحقائق التاريخ وسابحة ضد تيار المستقبل، الذي قد يجرفها بعيدا للتحول إلى مجرد مرتزقة في خدمة من يدفع أكثر.
وإذا كانت الحركات الانفصالية في العالم العربي قد استهدفت وما يزال بعضها يستهدف الوحدة الترابية لبلد واحد وداخل حدود معينة، فإن جماعات وحركات الإرهاب المنتسبة زورا وبهتانا للدين الإسلامي لم تعترف منذ نشأتها بالحدود الدولية القائمة بين البلدان العربية والإسلامية، متذرعة بالبحث عن إعادة ما تسميه أمجاد الخلافة الإسلامية كوسيلة لاستقطاب وتجنيد الأتباع من مختلف الجنسيات، وصهرهم في بوتقة واحدة.
إن هذه الجماعات، التي بدأت كخلايا عنف صغيرة، تطورت سريعا إلى ميليشيات منظمة ومسلحة تدعي تمثيل المذهبين الدينيين الرئيسيين السني والشيعي؛ وذلك بعد توسع دائرة احتضانها الدولي والإقليمي، على يد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها بالنسبة للجماعات المحسوبة على المذاهب السنية، وعلى يد ملالي طهران فيما يخص التنظيمات الشيعية الجعفرية في البداية، ثم الزيدية والنصيرية فيما بعد.
فالولايات المتحدة الراغبة في تحويل أفغانستان إلى مستنقع يستنزف القوات السوفياتية التي غزت البلاد كانت مترددة في إرسال قواتها إلى هناك بسبب حساسية الرأي العام الأميركي، الذي كان ما يزال تحت هول صدمة الهزيمة في فيتنام وما خلفته من ضحايا وجدت ضالتها في الحرب بالوكالة عن طريق استقطاب الجماعات الإسلامية السنية المتطرفة بدعوى حثها على الجهاد لتخليص أرض الإسلام من براثن النظام الشيوعي الكافر.
وكما هو معروف فقد تولت المخابرات الغربية وخاصة الأميركية تحضير معسكرات داخل أفغانستان وباكستان لتدريب من جرت تسميتهم آنذاك بالمجاهدين، الذين اكتسبوا طيلة الحرب الأفغانية خبرات قتالية كبيرة جعلتهم يشكلون نواة أساسية صلبة لنشوء تنظيم القاعدة كحركة سلفية جهادية ارتد أعضاؤها بعد نهاية الحرب في أفغانستان إلى بلدانهم يعبثون بأمنها واستقرارها، ويضربون بعض مقومات اقتصادها؛ بل لم يتوانوا عندما أتيحت لهم الفرصة في ضرب حاضنتهم الأميركية أكثر من مرة كانت أخطرها تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. ورغم كل الضربات التي تلقاها، فإن تنظيم القاعدة واصل تمدده وإحداث فروع محلية له في أكثر من بلد، كما واصل تفريخ تنظيمات أكثر تشددا وتطرفا منه كما هو الشأن مع داعش.
وعلى غرار رعاية المخابرات الغربية للتنظيمات السنية المتوحشة عملت إيران على تشكيل ميليشيات شيعية مستندة في ذلك إلى ما تسميه «نصرة المستضعفين»فيما تبحث عن توسيع نفوذها في المنطقة لاستعادة أحلام الإمبراطورية الفارسية، ودور الدركي الإقليمي الذي تولته إبان حكم الشاه. وبالفعل فقد تأتى لها ما أرادت إلى حد كبير حيث تمكنت من بسط سطوتها على أربع عواصم عربية استنادا إلى قوة الميليشيات التابعة لها في كل من لبنان والعراق واليمن وسوريا غير آبهة بما تسببه تلك الميليشيات من انفراط لأسس التعايش بين مختلف المكونات الإثنية والدينية والمذهبية لتلك الدول.
إن تبادل الاتهامات بالتكفير والمروق عن الدين بين الميليشيات المتطرفة السنية والشيعية لم يمنع التقاءها حول غاية واحدة هي عدم الاكتراث بسلامة الوحدة الترابية للدولة الوطنية الموحدة، وإشاعة عدم الاستقرار السياسي والأمني فيها، وذلك بتغليب المصلحة الفئوية الضيقة على المصلحة الوطنية العامة.