مرّت أحداث «الطيّونة» الأليمة على اللبنانيين كمعظم الأحداث التي عرفها لبنان في آخر 16 عاما حصرا، وآخرها انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة أكثر من مائتي شخص وآلاف الجرحى ودمار هائل في الممتلكات ما زال شاخصا للعيان حتى يومنا هذا، من دون أي نتيجة تحقق العدالة للذين ماتوا أو تضرروا جراء هذه الأحداث. الأكيد أن العمل جارٍ بغية الاستثمار السياسي لها بشكل مكثّف من قبل الأطراف السياسية في لبنان، خاصة أن البلد على أبواب انتخابات نيابية حيث يحاول كل «زعيم»طائفي تكريس أو تمكين قبضته على ملّته.
البلد وناسه معدّون سلفا للاصطفافات السياسية الطائفية والمذهبية الحادة بعيدا عن أي موضوعية. أحداث عين الرمانة الأخيرة لم تكن استثناء. ضاعف من حدّة هذا الاصطفاف استدعاء رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع من قبل المحكمة العسكرية كشاهد أو مستمع إليه. وهو انعكس في مواقف السياسيين وكتاب الرأي والصحافيين الذين واكبوا هذا الحدث، إن بإطلالات تلفزيونية أو بمقالات رأي. كل العدّة كانت جاهزة من أجل استنهاض شارع ضد آخر وزعيم ضد زعيم. فجأة دخل بوتين على مشهد عين الرمانة العنفي من خلال تصريح، تبرع بعض الصحافيين/ العرافين بتفكيك رموزه وتحميله أبعادا لم يعرف بوتين نفسه بوجودها. أصبح بوتين جزءا من الاصطفاف المذهبي.
هذه الأحداث بحسب من كتب وتكلم عنها وضعت جعجع في مواجهة نصر الله. تلك المواجهة بدأت أصلا مع تحقيق انفجار المرفأ وإصدار القاضي بيطار مذكرات توقيف بحق نواب ووزراء ورئيس وزراء. تبرع جعجع يومها للدفاع عن قرارات القاضي بيطار وأصبح المؤيد الأول لخطواته والتي اعتبرها من جهته نصر الله بالاستنسابية واضعا نفسه في مقدمة المطالبين بتنحيته عن التحقيق.
من هنا انقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض لمواقف الرجلين. البطركية المارونية وجدت نفسها معنية بالدفاع عن جعجع، فيما اعتبرته ارتيابا باستدعاء المحكمة العسكرية أحد أبنائها من زعامات الصف الأول واستغربت كيف يمكن أن يستمر البلد في ظل صيف وشتاء تحت سقف واحد.
حزب الله نهل من أدبيات الإمبريالية الصهيونية ولوّح بمائة ألف مقاتل جاهزين لمنع الحرب الأهلية عن لبنان، إن كان أحد يفكر فيها. هذا تكرار لمنطق نصر الله في 7 مايو (أيار) أي استعمال السلاح في معرض الدفاع عن السلاح، فالحرب والدمار والقتل هذه المرة مطروح لحماية «السلم الأهلي».
تلك الأحداث وجّهت النقاش حول الزعيم وصورته وشعبيته. لم يتطرق إلى الناس الذين بدأوا في التفكير جديا بترك عين الرمانة إلى مكان أقل التحاما مع الآخر خوفا من الآتي. هذا النقاش لم يشمل موضوع التعويض عن المتضررين في أملاكهم التي تعرضت للتكسير. هم هامشيون. هذا النقاش لم يشمل المسألة الأهم في هذه الحادثة وهو أداء القضاء.
الأسئلة الأساسية التي لم ترد على ألسنة الصحافيين أو الزعماء أو كتاب الرأي تتمحور أساسا حول دور القضاء في حياة اللبنانيين؟ هل هو مسيّس أم لا؟ هل يستعمله السياسيون من أجل التنكيل بالخصم؟ هل ارتياب الوزراء والنواب الذين استدعاهم القاضي بيطار مشروعة؟ لماذا لا توجد محكمة مختصة بالنظر في اعتراضهم؟ أين النصوص التي تبت في الخلاف بين المعترضين والقاضي والتي إما تسمح له بملاحقتهم واستجوابهم وإما تمنع عنه هذا الأمر وتقطع الطريق على التأويلات والفرضيات ونظريات المؤامرات؟ ثم ألا يصير استدعاء جعجع كشاهد أو مستمع إليه أمرا مريبا؟ وألا يؤكد هذا الاستدعاء معطوفا على ما سبق أن القضاء أداة سياسية؟
لم يتطرق أحد من المفكرين أو الصحافيين إلى هذه المواضيع بتاتا ولم يعرها اهتماما وانغمس في الدفاع أو الهجوم على هذا الزعيم أو ذاك حسب انتمائه الطائفي أو المذهبي أو السياسي. وبالتالي دافع عن القاضي أو هجاه تبعا لمنطق غرائزي شعبوي سخيف يقول إذا كنت ضد القاضي بيطار فأنا معه والعكس صحيح.
إذن المشكلة الأساسية موجودة في النص، الذي تُرك ضبابيا عن قصد، ليفتح الباب أمام مبدأ التسويات الذي يعلو على مبدأ القانون والعدالة والديمقراطية. منازلة جعجع نصر الله تفصيل في هذا المجال سيتكرر غدا أو بعده أو بعد سنين آتية إن لم نواجه العلّة الحقيقية الموجودة أصلا في النص.