يلتهم النظام البيروقراطي في الدولة الجزء الأكبر من مواردها

يلتهم النظام البيروقراطي في الدولة الجزء الأكبر من مواردها

[caption id="attachment_55253737" align="aligncenter" width="620"]عامل عراقي في طريقه إلى القسم الذي افتتح مارس الماضي بمصفاة للنفط تقع جنوب غرب البصرة (غيتي) عامل عراقي في طريقه إلى القسم الذي افتتح مارس الماضي بمصفاة للنفط تقع جنوب غرب البصرة (غيتي)[/caption]

[blockquote]المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي: متوسط إنتاج العاملين بالقطاع العام ربع ساعة فقط في اليوم[/blockquote]


دبي: كايل ماكينيني*

يبدو مستقبل العراق قاتما. لقد أضعف انخفاض أسعار النفط موارد البلاد المالية، وهي بالفعل مضغوطة إثر المعركة ضد تنظيم داعش وتدفق اللاجئين النازحين نتيجة لذلك. وعلى الرغم من أن القوات العراقية وتابعيها استعادوا أراضي من «داعش»، فإن اقتلاع جذور التنظيم بالكامل سوف يكون عملية شاقة وطويلة وباهظة الثمن. كل ذلك في حين تعرضت أنابيب النفط والبنية التحتية الحيوية في العراق لأضرار، وفي بعض الحالات للدمار. تسبب ذلك في انخفاض إمدادات الوقود المحلية وتقليص الصادرات النفطية.

هناك تهديد أكبر لاستقرار العراق ورخائه طويل الأجل: وهو القطاع الحكومي المتضخم غير الكفء، حيث يلتهم النظام البيروقراطي في العراق الجزء الأكبر من موارد الدولة، ولكنه يعجز عن توصيل الخدمات الأساسية والبنية التحتية أو تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية.
يتم إنفاق 70 في المائة من ميزانية الدولة على رواتب موظفيها الذي يؤدون أعمالا قليلة للغاية. ووفقا لما صرح به مظهر صالح، المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، فإن متوسط إنتاج العاملين في القطاع العام ربع ساعة في اليوم. وتنتج المصانع المملوكة للدولة، والتي تعطلها بالفعل المعدات البالية التي تعاني من سوء الصيانة، نسبة ضئيلة للغاية من سعتها، ولكنها تستعين بأعداد تفوق حاجتها من العمال.

في فترات أكثر ازدهارا، كانت دولة الرخاء في العراق تعمل جيدا لصالح الجميع على الرغم من عدم كفاءتها. وكان العراقيون يحصلون على وظائف في الحكومة وحصص غذائية ووقود وكهرباء مدعمين. وفي الوقت ذاته، استخدمت النخبة السياسية النظام لصالح المحسوبية وتعزيز نفوذها. ولكن في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة، لم يعد النظام قادرا على الاستمرار. إذا لم يحدث إصلاح جاد، يمكن أن يوقع القطاع الحكومي البلاد في الإفلاس قريبا.
من المعتاد أن تكون دول الرخاء المسرفة ذات اقتصاد يعتمد على الموارد، ومن المعروف الصعوبات المالية التي يعاني منها العراق. ولكن المفاجئ أن التحديات الهائلة التي يواجهها العراق الآن فتحت نافذة فريدة على إجراء إصلاحات حقيقية تخفض من إسراف الحكومة، وتسمح باستقرار العائد الحكومي، وتشجع على نمو القطاع الخاص، وتحفز على الإنتاج، وفي النهاية تضع البلاد على طريق التعافي الاقتصادي طويل الأجل.


راجع إنفاقك




على عكس الحكومات التي تعتمد في الأساس على العائدات الضريبية، يوجد في العراق قيود قليلة على الإنفاق الحكومي. تأتي أغلب العائدات التشغيلية في بغداد من صناعة النفط، وفي فترات ارتفاع أسعار النفط، يقل الطلب على تعديل الإنفاق. ولكن في الوقت الحالي، في ظل ضعف سوق النفط العالمية، تجاوز الإنفاق العائدات، مما أعطى دعوات الإصلاح قوة أكبر. وفي عام 2015، عانى العراق من عجز في الموازنة بقيمة 21 مليار دولار، ويقترب العجز في العام الحالي من الوصول إلى 26 مليار دولار.

أجبر الاهتمام الباهت بإصدار السندات في السوق العالمية بغداد على تقليص فجوة الموازنة عن طريق احتياطي العملة الذي انخفض من 75,6 مليار دولار في مايو (أيار) عام 2014 إلى 61 مليار دولار في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2015، ومن المتوقع أن يهبط إلى 43 مليار دولار بحلول نهاية عام 2016. يعني ذلك أن العراق يفقد احتياطيه المالي سريعا مع عدم وجود بادرة قريبة للحل.
بالإضافة إلى إجراء الإصلاحات الممكنة، تمنح حالة العراق المالية الملحة فرصة للإجراءات الإصلاحية لتصبح أساسية وأكثر فاعلية. في المعتاد، وسط الديناميكيات المعقدة على الساحة السياسية العراقية المعاصرة، من الممكن بسهولة تحييد الإصلاحات أو إغراقها بلا نهاية في نظام بيروقراطي بسبب المصالح الراسخة. بيد أن إلحاح الوضع الحالي في العراق يقدم غطاء للعبادي للتحرك بسرعة وحسم لمعالجة الإسراف الحكومي بدلا من أن يكتفي بإصلاحات سطحية تضعفها المصالح الحزبية فلا تكون لها آثار دائمة.

أصبح الحد من إسراف الحكومة في العراق أكثر قابلية للتنفيذ سياسيا عما كان من قبل. كما أن التأييد الشعبي للإصلاح قوي ومنتشر. ولا تعد المظاهرات الاحتجاجية ضد الفشل الحكومي جديدة في العراق، ولكنها اتخذت أهمية أكبر أخيرا، بسبب تأييد رموز دينية ذات نفوذ مثل مقتدى الصدر الذي قاد شخصيا اعتصاما في المنطقة الخضراء في بغداد في مارس (آذار) الماضي مطالبا العبادي ببذل المزيد لمكافحة الفساد. وحتى آية الله علي السيستاني، الذي عادة ما يتحفظ في حديثه عن شؤون الدولة، شجع الحكومة علنا على بذل المزيد لمكافحة الفساد. يمكن أن يستغل العبادي الضغط الشعبي والغطاء السياسي من الزعماء الدينيين للمساعدة على الترويج لإصلاحات القطاع الحكومي بين الشعب العراقي، وأن يتعامل مع الإصلاحات كدواء مر يجب أن تتناوله البلاد لعلاج الفساد المتفشي.
وفي النهاية، تعطي الصعوبات المالية التي تعاني منها الحكومة العراقية مزيدا من النفوذ للمؤسسات المالية الدولية على شروط حزم المساعدات والإنقاذ المالي. خصص صندوق النقد الدولي بالفعل قرضا قصير الأجل بقيمة 1,2 مليار دولار، ووافق مبدئيا على ترتيبات قرض تحت الطلب بقيمة 15 مليار دولار على مدار السنوات الثلاث التالية. سوف يرتبط هذا القرض بخطوات أساسية صارمة وملموسة من المقرر أن يشرف عليها برنامج يرصده العاملون في صندوق النقد الدولي، والذي تم الإعلان عنه في 29 مارس، حيث سيعالج مباشرة إسراف الهيكل الحكومي وعدم كفاءته.


دواء مر




لكل تلك الأسباب، تعد الأوضاع جيدة للإصلاح على الرغم من الصعوبات التي يواجهها العراق. وينسب إلى الحكومة العراقية محاولة تنفيذ إجراءات تقشفية، ولكنها غير كافية حتى الآن. تم تخفيض الرواتب الحكومية بنسبة 3 في المائة فقط، والتي لم تخفض التكاليف التشغيلية أو تحسن الإنتاجية. كذلك فشلت تجربة بغداد الأخيرة بفرض جمارك جديدة على الواردات ما بين 5 إلى 35 في المائة. فقد رفض كثير من المستوردين إخراج بضائعهم من الجمارك خوفا من أنهم سيخسرون لدي بيعها. وبالفعل انخفضت إيرادات الجمارك اليومية على المعبر الحدودي بين العراق والكويت من 500 ألف دولار إلى صفر. تعد تلك المحاولات مجرد نصف إجراءات، إذ تحتاج الشركات الحكومية والهيئات البيروقراطية إلى تخفيض دائم لعدد العاملين بدلا من تخفيض مؤقت للأجور. وقد اقترح العبادي تغييرا وزاريا حل فيه التكنوقراط محل الوزراء الموالين للأحزاب. ولكن حتى إذا تم قبول هذا التغيير، فسوف يعجز عن تغيير السياسيين في المستوى المتوسط وهم المسؤولون عن القدر الأكبر من سياسة المحسوبية في المقام الأول.

قد يبدو تحويل نظام العراق الدولاني المتداعي، إلى اقتصاد متنوع مفعم بالنشاط وكأنه مهمة كبرى مستحيلة، ولكنها ممكنة. يستطيع العبادي استخدام ضغط شعبي هائل وغطاء سياسي من زعماء دينيين للإقناع بإجراءات مكافحة الفساد بل و أيضًا إجراء إصلاح شامل للقطاع الحكومي. قد يجد الشعب العراقي تلك الإجراءات دواء مرا، ولكن مصير بلادهم يعتمد عليها.
وحتى يكون الإصلاح مؤثرا يحب أن يفقد خادمو الأحزاب سيطرتهم على منتصف هرم السلطة، حيث يتم توزيع المحسوبية، وذلك حتى تصبح قاعدة الهرم أقل حجما وأكثر إنتاجية. ويجب أن يهاجم العبادي «حسابات الأشباح»، والمقصود بها كشوف الرواتب التي تضم أسماء موظفين متوفين أو متقاعدين أو منقطعين عن العمل أو غير موجودين من الأصل.
أعلن وزير المالية العراقي هوشيار زيباري أن أكثر من 500 مليون دولار تذهب إلى حسابات أشباح في الجيش وحده.

يجب أن يأتي تقليص التزامات المعاشات لعمال القطاع العام بعد ذلك. ولكن الخطوة الأهم هي أن يتخذ العبادي إجراءات مهمة في تخفيض الوظائف. بالطبع من الصعب إلغاء وظائف، ولكن تستطيع الحكومة أن تسهل قبول تلك العملية بتقديم أسهم في الشركات إلى الموظفين الحاليين، قبل قرارات تسريح العمالة في المستقبل. تستطيع بغداد أيضًا أن تقدم تدريبا على المهارات لمن فقدوا وظائفهم أخيرا أو حتى تقدم امتيازات مالية لأصحاب الأعمال لكي يعينوا الموظفين الذين يتم تسريحهم من القطاع العام.

يثبط النظام البيروقراطي المرهِق رواد الأعمال والمستثمرين داخل وخارج البلاد. إن إجراءات فتح (أو غلق) شركة باهظة التكاليف وتستغرق وقتا طويلا، وكذلك الحصول على تأشيرات للعمال الأجانب أو المستثمرين الباحثين عن فرص. كما أن هيكل رأس المال في العراق غير مرن، ويمنع تعدد تصنيفات الأسهم، مما يقيد نشاط الاستثمارات. جعلت التكلفة والشكوك المرتبطة بالمشروعات الخاصة الوظائف الحكومية أكثر جاذبية، لذا سوف يساعد تخفيض تلك التكلفة والحد من الشكوك على تقليص حجم القطاع العام.

وهكذا يجب أن تسعى بغداد إلى إجراء إصلاحات ثانوية لقانون الشركات لعام 2007، مع الاستعداد للسماح بوجود هياكل أعمال جاذبة للاستثمارات وأكثر نشاطا. يجب أيضًا أن تبذل الحكومة المزيد لتشجيع ريادة الأعمال. لقد بدأت حاضنات الشركات الناشئة ومؤسسات الاستثمار المبكر في الازدهار في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وبدأت الحكومات تدرك أنها أقل فاعلية من رواد الأعمال فيما يخص توفير فرص العمل. على سبيل المثال، أدخل مصرف لبنان المركزي إجراء جديدا يسمى تعميم 331، والذي يقدم ضمانات مالية ورأسمالية للبنوك التجارية للاستثمار في شركات ناشئة. يمكن تكييف برامج مشابهة من أجل العراق، وسوف تكون تكلفتها على الحكومة منخفضة نسبيا حيث ستقوم البنوك الخاصة بعملية الإقراض.

وفي الوقت ذاته، يجب أن تسعى بغداد إلى تنفيذ استثمارات أكبر في الشعب ذاته. نتيجة أعوام العزلة عن بقية العالم أصبح السكان أقل مهارة. وأصبح المستثمرون الأجانب في قطاعات عراقية متنوعة يعانون من صعوبة العثور على أيدٍ عاملة محلية مؤهلة. قد تزيد السياسات الراهنة من فرص العمل التي يحصل عليها العراقيون، ولكن تلك الإجراءات في النهاية لها نتائج عكسية. تُلزم الشركات بتعيين عمالة عراقية عالية الأجر قليلة المهارات. وبالتالي تضطر إلى تسديد أجور مبالغ فيها للعراقيين الذين يجب أن يُكلفوا بمهام تتطلب مهارات قليلة مثل الأمن. ويتم تمرير التكاليف الإضافية لهؤلاء الموظفين في النهاية إلى عميل تلك الشركات: وهي الحكومة العراقية. وبدلا من المبالغة في الإنفاق على وظائف لا تتطلب مهارات عالية، يجب أن تطلق الحكومة العراقية برنامج تنمية بشرية يهدف إلى تقديم تدريب مهني وإداري ومحاسبي وغيره إلى المواطنين لإعدادهم من أجل الدخول في الاقتصاد العالمي الحقيقي.

في النهاية، إذا كانت الحكومة لا تستطيع تخفيض عدد العاملين، فإنها يمكن على الأقل أن تعمل على تحقيق أفضل عائد مقابل الأجور التي تنفقها باستثمار ذلك الإنفاق في أصول البنية التحتية. تصارع الحكومة العراقية من أجل تنفيذ مشروعات كبرى، مثل إنشاء مصانع للطاقة ومصافي نفط، ولكنها تستطيع أن تحول تركيزها إلى مبادرات أصغر حجما وأكثر قابلية للتنفيذ في جميع أنحاء البلاد. يستطيع مجلس تنمية العراق، وهو جهاز للأشغال العامة يرجع إلى الخمسينات، أن يقدم نموذجا مفيدا هنا، حيث يمكن أن يركز بصورة جديدة على إصلاح شبكة الطرق أو مد خطوط للسكك الحديدية أو استعادة مناطق الأسواق التاريخية. سوف تحسن تلك المبادرات من بيئة الأعمال العراقية، بل وسوف تساعد على إعادة بناء البنية التحتية المتهالكة في البلاد وتحافظ على عمل العراقيين في وظائف منتجة.

*باحث أقتصادي أميركي متخصص في شؤون العراق مقيم في دبي ويكتب بانتظام لمجلة فورن أفيرز الأميركية

font change