كثيراً ما يقود إنكار الواقع أشخاصاً هم في مراكز قيادية إلى أخذ قرارات والقيام بمغامرات غير محسوبة النتائج ترتد بشكل سلبي على مجتمعاتهم وناسهم. كلما كبرت المغامرة دفع الناس ثمنا أكبر لها. التاريخ مليء بتلك الأمثال، من نابليون إلى هتلر مرورا بعبد الناصر وصولا إلى صدام حسين وغيرهم من القيادات التي لم تكن على دراية بموازين القوى أو كانت في حالة إنكار لها عند اتخاذهم قرارات تتعلق بالحرب خاصة. بعض المغامرات غير المحسوبة كان ثمنها باهظا على الإنسانية جمعاء كما في حالة هتلر الذي قاد مشروع إبادة اليهود.
الأمر ينطبق على بعض القيادات في لبنان أو أغلبها، خاصة وأن البلد انغمس في حروب أهلية كثيرة كالحرب الأهلية عام 1975 وحروب الطوائف فيما بينها كحرب الإخوة بين شيعة أمل وشيعة حزب الله، وحروب الإلغاء بين موارنة القوات وموارنة عون. هذه الحروب تركت آثارها على الناس والمجتمع وظلت تلك الجروح تلاحق «المجتمعات اللبنانية»حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية ودخول لبنان حقبة الاحتلال البعثي السوري.
تلك الحروب التي شهدها لبنان والتي يجلس أبطالها في مقاعد الحكم اليوم، كان يمكن تفاديها لو تعاملت تلك القيادات بشيء من الوعي ولو قدرت مثلا الواقع كما كان عليه وليس كما تصوروه. هل كان بالإمكان الوصول إلى صيغة معدلة للدستور اللبناني من دون الدخول في لعبة الحرب؟ هل كان ممكنا للموارنة الاتفاق مع مسلمي لبنان لضبط الوضع الفلسطيني ومنع سلاحه من أن يصبح «سلاح المسلمين»وبالتالي منع استعماله لتصفية حسابات الداخل؟ يقول بقرادوني في كتابه «السلام المفقود»،والذي عند نشره كانت معظم شخصياته على قيد الحياة ولم تعترض على مضمونه، أن المبعوثين الغربيين والأميركيين منهم خاصة كانوا يحثون القيادات المسيحية على تعديل الدستور، هذا منذ ثمانينات القرن الماضي، وكانوا يؤكدون لهم مرارا وتكرارا أنه لا يمكن الاستمرار بنفس النظام الذي أعطى أفضلية للموارنة في الحكم عام 1943 لأسباب تعود إلى ظروف تكوين لبنان الكبير. لم تأخذ القيادات وقتها بهذا النصح وبهذه الآراء وأتى التعديل الدستوري بالقوة وبعد أحداث دامية، وأوكل لحافظ الأسد تنفيذ مضمونه وهو الذي كان يتحين الفرصة لفرض سيطرته بالكامل على لبنان.
في هذه الفترة من تاريخ العالم كان الاتحاد السوفياتي ينهار، وحائط برلين يسقط وأصبحت أميركا تقود العالم، والعالم في غالبه ينساق لإرادتها. حافظ الأسد في هذه الفترة انضم إلى تحالف طرد صدام من الكويت و الذي كانت تقوده «عدوته اللدودة»قبل زمان البريسترويكا.
أصبح هناك في المنطقة اختلال في التوازن بعد سقوط السوفيات ولم تعد معادلات الحرب الباردة قائمة ولم تعد هناك خطوط حمراء. في هذه اللحظة قرر اثنان من زعامات الموارنة الأقوى التقاتل فيما بينهم من أجل حسم هوية قائد الموارنة المفوض للحديث باسمهم. هل كان يمكن تفادي هذه الحرب لو كانت هناك محاولة لتقدير الواقع الذي يشير إلى تبدل أولويات الأميركيين لصالح الدول العربية والإسلامية في المنطقة؟ هل كان من الممكن الحفاظ على نقاط القوّة التي كان يملكها القطبان عون وجعجع واستعمالها كنقاط قوة في المفاوضات مع الطرف الآخر حول تعديل الدستور الذي كان سيأتي مهما حاولوا تأخيره؟ لا نملك جوابا على تلك الأسئلة سوى أن الدستور عُدل على دم كثير سال في «المناطق الشرقية»من دون جدوى.
نحن اليوم أمام نفس المشهد، حيث يعتقد البعض أن إيران على أفول، وأن أدواتها في المشرق هي الأخرى على أفول. ومن هذا المنطلق يسعى ربما البعض إلى افتعال إشكال مع الجناح العسكري لإيران في لبنان. أقول ربما، لأنه هكذا يبدو لي وقد أكون على خطأ، ولكن هناك خطابا سياسيا يأخذ الناس في هذا الاتجاه ويوهمها بمغامرة غير محسوبة، يشحن طائفيا من خلال زرع الصلبان في المناطق «الشرقية»مجددا، ويرسم خطوطا للتماس ويطلق الشعارات المذهبية في خضم جو عام لم يعد يحتمل فوقية حزب الله في التعامل مع باقي المكونات. هذه الأعمال تنطلق من الاستنتاج بأن الزمن الإيراني على أفول.
مع العلم أنه ليس هناك أية دلالات على أن إيران على أفول، بل هناك مسعى أميركي للعودة إلى استراتيجية الرئيس أوباما التي تسعى إلى إعادة تأهيل إيران كنظام في المنطقة ليلعب دورا تراه هذه الإدارة الأميركية تنافسيا مع دول الجوار من دون أن يفضي إلى حرب. حتى إن روبرت مالي كبير المفاوضين الأميركيين يقول إن على العالم أن يعود لفكرة التعايش مع إيران من دون عقوبات، هذا من جهة.
وعلى الأرض لا يمكن إغفال أن بقاء الأسد أبقى طريق طهران بيروت مفتوحة، كما لا يمكن إغفال واقع سيطرة حزب الله وأدواتها على غرب سوريا من حمص وصولا لشبعا مرورا بالقنيطرة، ما يعني أن حدود لبنان الشرقية مع سوريا هي في يد حزب الله. أضف إلى هذا أن حزب الله يستطيع الاعتماد والاستعانة بشيعة الأفغان و«مجاهدي الحشد الشعبي»إذا دعت الحاجة، ثم نحن في لحظة يستعد الأسد فيها للعودة إلى حضن المجتمع العربي.
هذا واقع وإنكاره لا يفيد.
بكل بساطة حزب الله مشكلة إقليمية، لا بل عالمية، لا يستطيع لبنان التعامل معها. تماما كما لم يستطع لبنان التعامل مع مشكلة الوصاية السورية بل عمل على التأقلم معها إلى حين أتى موعد مغادرة تلك القوات ليس لسبب مقاومة داخلية ما، إنما غداة اغتيال الحريري الأب ورفض المجتمع الدولي لتلك الجريمة، في حين أن القوات الأميركية كانت بكامل قواها في الشرق.
للأسف على الجميع انتظار التطورات التي قد تأتي غدا أو لا تأتي قبل سنين والتي معها قد تضعف إيران أو يزول نظام الملالي فيها، حينها لن تعود مشكلة حزب الله عصية على الحل.
فكما كان الوجود السوري مؤقتا (دام 15 سنة)، فإن الوجود الإيراني هو الآخر مؤقت.