عاشت تونس حالة من الجدل السياسي منذ صدور قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد يوم 25 يوليو (تموز) الماضي (2021)، والتي علق بمقتضاها جميع اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه مع إعفاء رئيس الحكومة وبعض الوزراء من مهامهم، وهي القرارات التي تم تجديدها في الثالث والعشرين من سبتمبر (أيلول) الماضي، مع استكمال إدارته للدولة بشكل أكثر إحكاما من خلال حزمة من القرارات الرئاسية التي حددت ملامح إدارة المرحلة المقبلة بدءا من مواصلة العمل بمقدمة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع هذه التدابير الاستثنائية، إلى جانب إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، مرورا بإعادة ضبط العملية التشريعية من خلال إصدار النصوص ذات الصبغة التشريعية بشكل مراسيم يختمها رئيس الجمهورية ويأذن بنشرها في الجريدة الرسمية بعد مداولة مجلس الوزراء، شرط عدم النيل من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة بالمنظومة القانونية الوطنية والدولية، وصولا إلى تنظيم السلطة التنفيذية التي يمارسها رئيس الجمهورية بمساعدة حكومة تتشكل من رئيس وزراء وكتاب دولة، على أن يتولى رئيسها تنظيم الدولة وضبط سياساتها العامة واختياراتها الأساسية، ويسهر على تنفيذ القوانين ويمارس السلطة الترتيبية العامة، وذلك كله طبقًا للتوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس البلاد.
وبعد مرور أكثر من شهرين على حالة الجدل السياسي، جاء قرار الرئيس التونسي في التاسع والعشرين من سبتمبر 2021، بتكليف عالمة الجيولوجيا نجلاء بودن البالغة من العمر 63 عاما والبعيدة كل البعد عن الأحزاب وصخب الحياة السياسية، بتشكيل أول حكومة تتولاها سيدة في تاريخ الدولة التونسية، إذ أسرعت بتشكيل حكومتها المكونة من 24 عضوا من المستقلين بينهم 9 نساء، وهو ما أضاف قضية جدلية جديدة إلى الساحة السياسية التونسية. صحيح أن هذه الخطوة حملت معها مؤشرات إيجابية على بدء انفراج الأزمة السياسية وتجلي الغموض الذي أحاط بالتدابير الاستثنائية وفترة الركود والانتظار التي تلت القرارات الرئاسية، إلا أنه من الصحيح أيضا أن الحكومة الجديدة تقف على اعتاب فوهات أزمات متعددة، بما يجعل من رهانها على إنجاح المسار الانتقالي مهمة صعبة في ظل التحديات العديدة التي تواجهها والأولويات المتعددة التي تسعى لتحقيقها، وهو ما يستعرضه هذا التقرير من خلال ثلاثة محاور على النحو الآتي:
أولا: الحكومة الجديدة والتحديات المتصاعدة
ليست مبالغة القول إن الحكومة التونسية الجديدة تواجه كثيرا من التحديات المتصاعدة يوما بعد يوم، فإلى جانب التحدي الناجم عن انقسام الشارع السياسي في نظرته إلى مدى قدرة الحكومة الجديدة على إدارة الدولة في تلك المرحلة الحرجة، يبرز تحديات اقتصادية عديدة عبر عنها ما خلصت إليه وكالة موديز للتصنيف الائتماني في منتصف أكتوبر الجاري (2021) بتخفيض تصنيف تونس، حيث تراجع التقييم السيادي للدولة من «B3» إلى «Caa1»، مع المحافظة على توقعات سلبية. كما راجعت الوكالة أيضا تقييم البنك المركزي التونسي المسؤول عن الدفوعات المتعلقة بكل قطاع الحكومة، من «B3» إلى «Caa1»، مع الإبقاء أيضًا على آفاق سلبية. وأرجعت الوكالة هذا التخفيض إلى ضعف الحوكمة وتفاقم الاعتقاد بعدم تمكن الحكومة التونسية من تنفيذ التدابير والإجراءات التي تضمن وصول التمويلات اللازمة لتلبية المتطلبات المرتفعة على مدى السنوات القليلة القادمة. وجدير بالإشارة أن هذا التخفيض من شأنه أن يعطي مؤشرا عن مدى الصعوبات التي تواجه الحكومة الجديدة في معالجة المشاكل الاقتصادية والمالية التي تواجه البلاد، وهو ما يفرض عليها سرعة معالجة هذه الأزمة لاستكمال الخطوة التي اتخذها الرئيس التونسي بإصداره مرسومين؛ الأول يتعلق بقانون المالية التعديلي للسنة الحالية 2021. والثاني يتعلق بميزانية السنة المقبلة 2022. إذ يتطلب الأمر من الحكومة البحث عن مقاربة جديدة تمكنها من تعظيم الاعتماد على إمكانياتها الذاتية المتمثلة خاصة في إعادة الاعتبار للقطاعات المنتجة وبالأخص القطاع الفلاحي والصناعي وتنظيم قطاع الخدمات. مع أهمية العمل على إعادة استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، حتى تتمكن البلاد من اللجوء إلى السوق المالية الدولية أو حتى إلى بعض البلدان التي تربط معاملاتها مع تونس بصندوق النقد الدولي. مع الأخذ في الحسبان حجم الأعباء التي يتحملها الشعب التونسي جراء السياسات الهيكلية التي يفرضها صندوق النقد الدولى، نظرا لخطورتها على الاستقرار الداخلي.
وارتباطا بهذه التحديات الاقتصادية والمالية، تعاظمت التركة الثقيلة التي تواجهها الدولة التونسية في الجانب الاجتماعي، حيث تفاقمت الأوضاع الاجتماعية كما عبر عن ذلك الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي في مكالمة هاتفية مع رئيسة الحكومة نجلاء بودن، حيث أشار إلى أن الحكومة الجديدة عليها التعامل بحرفية مع الملفات الاجتماعية التي يزداد تفاقمها، وهو ما تعبر عنها بعض المؤشرات، ومنها: معدلات فقر متزايدة، ومعدلات بطالة متصاعدة، وقدرات شرائية للمواطنين متدهورة، والأمر الذي يستوجب من الحكومة سرعة اتخاذ حزمة من القرارات للتخفيف من تداعيات هذه الملفات على الاستقرار الداخلي والتماسك المجتمعي، مع الأخذ في الحسبان مدى الارتباط بين هذه الملفات الاجتماعية والتحديات الاقتصادية والمالية.
ثانيا: الحكومة الجديدة وخريطة الأولويات المستقبلية
رغم كل التحديات التي تعيشها الدولة التونسية، إلا أن التونسيين لا يزالون يعلقون آمالا كبيرة على الحكومة الجديدة في التخفيف من معاناتهم ومساعدتهم في التخلص مما أفسدته الحكومات السابقة، شريطة أن تحقق إنجازا في أولوياتها الرئيسية التي عبرت عنها رئيسة الحكومة الجديدة بقولها: «إن أولويات حكومتها هي القضاء على الفساد واستعادة ثقة المواطن في العمل الحكومي بتطبيق القانون دون تمييز وتحسين سبل معيشة المواطنين، فضلا عن السعي لحل أزمات الاقتصاد واستعادة ثقة المجتمع الدولي وفتح الأفق للاستثمار»، ويمكن رصد هذه الأولويات بشكل تفصيلي على النحو الآتي:
- العمل على استعادة توازنات المالية العمومية وتحسين القدرة الشرائية للمواطن، والشروع في الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، حيث يحتاج الاقتصاد التونسي لنحو 10 مليارات دينار تونسي (نحو 3.5 مليار دولار) لتغطية مصاريف الدولة خلال الفترة المتبقية من السنة الحالية، وهو ما يستوجب البحث عن أولويات الملف الاقتصادي من خلال تحجيم الاقتصاد الريعي ومنع الاحتكار في الأسواق وتوسيع هامش المنافسة. ويرتبط بهذه النقطة تحديدا معالجة تداعيات تفاقم أزمة كوفيد-19، خاصة في ظل تزايد أعداد الإصابات رغم الجهود التي اتخذتها الدولة لتوفير اللقاحات لغالبية المواطنين.
- مكافحة الفساد وقضاياه المتزايدة والتي تصل في بعض التقديرات إلى آلاف القضايا المتعلقة بالفساد، أخذا في الحسبان أن مكافحة الفساد تنعكس إيجابيا على الاقتصاد الوطنى، إذ تعطى رسالة واضحة لمن يرتكب مثل هذه الجرائم إذا كان هناك رادع حقيقي. وتحظى هذه القضية بأولوية لدى الحكومة كما عبر عن ذلك الرئيس التونسي في سياقات عدة عن ملفات فساد ثقيلة، متوعدا بمحاسبة الفاسدين على غرار ما ذكره خلال تكليف بودن بتشكيل الحكومة بقوله: «سنعمل معا للقضاء على الفساد والفوضى التي عمت الدولة في كثير من المؤسسات»، ويؤكد على مدى خطورة هذه القضية وأولويتها ما أشار إليه أحدث تقرير نُشر في نهاية عام 2020، حيث صنفت منظمة الشفافية الدولية تونس في المرتبة 69 على مؤشر الفساد، كما كشفت إحصائيات للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، أن تونس تخسر سنويا جراء الفساد نحو 8.4 مليار دينار تونسي. وفي هذا الخصوص، بدأت الحكومة بالفعل في اتخاذ خطوات جادة؛ كان من بينها ما أعلنه جابر الغنيمي المتحدث باسم المحكمة الابتدائية بمدينة سيدي بوزيد التونسية (وسط)، من فتح تحقيقات موسعة مع مسؤولين في المندوبية الجهوية للشباب والرياضة بولاية (محافظة) سيدي بوزيد، بسبب وجود شبهات بتورطهم في ارتكاب جرائم فساد إداري ومالي، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن هناك قضايا فساد أخرى لا تزال قيد التحقيق والتدقيق، الذي تجريه الوحدات الأمنية والجهاز القضائي، من بينها قضية حصول مئات العمال على رواتب وهمية. وفي السياق ذاته، واصلت النيابة العامة التحفظ على مهدي بن غربية، رجل الأعمال والوزير الأسبق والنائب المجمدة عضويته، حيث يواجه مجموعة من التهم الخطيرة، في مقدمتها الإتجار في العملات الأجنبية، وتهريب الأدوية، والإتجار في الأعضاء، فضلاً عن اتهامات أخلاقية.
- الإصلاح السياسي، مثلت قضية استكمال مسار الإصلاح السياسي في ظل القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي، أولوية لدى بعض القوى المجتمعية الفاعلة في الساحة التونسية وعلى رأسها الاتحاد التونسي للشغل، إذ اعتبر أمينه العام أن: «الإصلاح السياسي مسألة حيوية لتجاوز حالة الشلل، التي سببها النظام السياسي الحالي في تونس»، داعيا إلى أهمية أن تبدأ الحكومة في حوار سياسي شامل مع الشركاء الاجتماعيين والسياسيين بغية الوصول إلى بناء سياسي قادر على استعادة المسار الديمقراطي التونسي بعيدا عن أخطاء الماضي وانحرافاته.
ثالثا: الحكومة الجديدة... تأييد الداخل ومساندة الخارج
رغم التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة، إلا أن ردود الفعل الإيجابية التي صاحبت قرار تشكيلها على المستويين الداخلي والخارجي أعطت مؤشرا مهما على الدعم الذي يمكن أن تحصل عليه الحكومة لتمكينها في أداء مهامها وتحقيق أولوياتها. فعلى مستوى الداخل التونسي يأتي في المقدمة الاتصال التليفوني الذي أجراه الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل نور الدين الطبوبي برئيسة الحكومة نجلاء بودن، عبر خلاله عن ثقته وتطلعاته من الحكومة الجديدة، كما عبرت كثير من الأحزاب السياسية عن ترحيبها بها، إذ اعتبر حزب التحالف من أجل تونس، أن الحكومة جاءت لتؤكد القطع مع كل التقاليد المعهودة في التسميات والتعيينات التي كانت خاضعة للولاءات الضيقة ولبعض القوى السياسية والعائلية واللوبيات المهيمنة على مفاصل الاقتصاد والمال، مؤكدا على مساندته ودعمه للحكومة التونسية المطلوب منها سرعة البت في كل ملفات الفساد الإداري والمالي والسياسي، مع مطالبتها بتحقيق إنجازات سريعة في الملفين الاقتصادي والاجتماعي. كما جاء في السياق أيضا تصريح رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية راضية الجربي بقولها: «إن الحكومة التي ترأستها السيدة نجلاء بودن كسرت حاجز جعل المناصب القيادية العليا جدا حكرا على الرجال ومنحت النساء فرصة إدارة الملفات الكبيرة في البلاد كالقضاء والمالية».
أما على مستوى الخارج، فقد عبرت البيانات الصادرة عن كثير من البلدان عن دعمها للحكومة الجديدة، من بينها ما أعلنه المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس بأن: «الحكومة التونسية الجديدة، والتي تضم 10 وزيرات، تمثل خطوة مرحبا بها تخطوها تونس إلى الأمام نحو معالجة التحديات الاقتصادية والصحية والاجتماعية الكبيرة التي تواجه البلاد»، وهو الموقف ذاته الذي عبرت عنه دول عربية في مقدمتها مصر التي أكدت عبر وزارة خارجيتها عن ترحيبها بتشكيل الحكومة، ومواصلة دعمها لجهود القيادة التونسية في مساعيها نحو ترسيخ ركائز الاستقرار في تونس، وتحقيق التنمية والتقدم، بما يضمن مقدرات شعبها ويحفظ المؤسسات الوطنية لتونس. كما جاء الموقف السعودي أيضا مرحبا بتشكيل الحكومة التونسية، آملا أن تحقق هذه الحكومة تطلعات الشعب التونسي، مع حرصها على كل ما من شأنه تحقيق دعائم الاستقرار والتنمية في تونس، وجاء الموقف الإماراتي ليسير على النهج ذاته في تأكيد حرصها على تعميق وتوسيع آفاق التعاون مع تونس ودفعها إلى الأمام في المجالات كافة، تدعيماً لأواصر العلاقات الوطيدة بينهما.
خلاصة القول، إن تونس في حاجة إلى خطة اقتصادية اجتماعية عاجلة، تقوم على إنقاذين: الأول، الإنقاذ الاقتصادي في ملفاته المختلفة؛ صناعيا وزراعيا وسياحيا وتعدينيا. والثاني، الإنقاذ الاجتماعي في قضاياه المتعددة والمتشعبة؛ صحيا وتعليميا وثقافيا وتشغيليا. ومن دون العمل على تحقيق هذين الإنقاذين ستظل تونس تدور في حلقة مفرغة، قد تؤدي بها في النهاية إلى تفاقم أوضاعها بصورة تهدد أمنها واستقرارها، خاصة في ظل جوار جغرافي يزداد التهابا، الأمر الذي يفرض على الجميع معاونة الحكومة الجديدة في مهامها ومسؤوليتها للعبور بالبلاد إلى بر الأمن والأمان.