هي محاربة شرسة على جبهة السّرطان، هاجمها المرض 5 مرّات، وفي كلّ مرّة كانت تكسب المعركة وتجهّز نفسها لمعركة محتملة. لم تطفئ التجارب المريرة لمعة الأمل في عينيها، ولا حبّ الحياة الذي كان أمضى أسلحتها في معركتها ضدّ «مقصوف الرقبة» كما تسمّيه، لا تزال تنثر من حولها وروداً ملوّنة، والكثير من الحبّ والأمل أنّه في هذه الحياة، ثمّة ما يستحّق النّضال.
هي الكاتبة السّورية المقيمة في الكويت دلع المفتي، التي لم يقهرها المرض فيحوّلها إلى ضحيّة تسأل: «لماذا أنا؟»، بل باتت مرجعاً للمرضى يسألونها: «كيف نواجه؟»، تسدي لهم النصائح، هي نفسها التي تضعف أحياناً، تنكفئ، بعدها تعود وتنثر ورودها عبر حسابها على «تويتر» مع عبارة: «بيتي في زمنٍ آخر»، زمن لا مرض فيه ولا معاناة، ولا سرطان.
في شهر التّوعية من سرطان الثّدي، لدى دلع المفتي الكثير لتقوله، نسألها: «هل تودّين مشاركة تجربتك مع قرّاء (المجلّة) أم أنّك لشدّة ما كتبت عن مرضك لم يعد لديك ما تقولينه؟».
تقول: «طالما أنّ الأمر يتعلّق بالتّوعية، دائماً لديّ ما أقوله».
الملاك الحارس
كيف اكتشفت دلع إصابتها بالسّرطان هي التي لا تاريخ لدى عائلتها في الإصابة بهذا المرض؟
تقول: «الأمر حصل بمحض الصّدفة، كنت في زيارة إلى الطبيب العام لأسباب تجميليّة، بعد بروز غدد أزعجني شكلها، خلال خمس دقائق كان الطبيب قد كتب لي ورقة لأجري أشعة، ثمّ حوّلني إلى مستشفى السّرطان بعد أن اكتشفت إصابتي بسرطان الغدّة الدّرقيّة».
ما حصل مع دلع كان طفرة جينيّة، إذ توالت إصابتها بالسّرطان أكثر من مرّة، لم تعد تذكر تفاصيل المعركة، تذكر أنّه في المرّة الأولى تمّ استئصال الغدّة وبعدها بخمسة أشهر بدأت رحلة عذاب من نوعٍ آخر ودائماً كانت الصّدفة تلعب دور الملاك الحارس.
فبعد استئصال الغدّة، بات لدى دلع مراجعة دوريّة لدى طبيبة غدد كانت تفحص رقبتها، لتتأكّد أنّ كل شيء على ما يرام، لكن ثمّة ما ألهم الطبيبة، فقامت بفحصها سريرياً ثم طلبت منها إجراء صورة ماموغرام للثدي.
تقول دلع: «لم يتبيّن وجود أي ورمٍ في الصّورة لكنّ الطّبيبة لسببٍ ما لم تكن مرتاحة، طلبت منّي إجراء خزعة، خضعت لعملية وتمّ استئصال خزعة ولم تبيّن وجود أي ورم. بعدها بعشرة أيّام قامت بالاتصال بي ورجتني أن أقوم بعمليّة لاستئصال خزعة ثانية، يومها تردّدت لشدّة ما عانيت بالخزعة الأولى، كنت حينها متوجّهة إلى بيروت، وهناك أجريت العمليّة وتبيّن أنّ ثمّة ورماً سرطانياً صغيراً عمره سنتان، تمّ استئصاله، وبدأت بعدها العلاج الإشعاعي».
دواء شافٍ تسبّب بسرطانٍ جديدٍ
بعدها حصل مع دلع أمراً وضعها أمام خيارين أحلاهما مرُ، أُرسلت العيّنة إلى أميركا حيث إن ثمّة مختبرا واحدا في العالم يقرّر نوعيّة السّرطان وكيفيّة علاجه، فتبيّن أنّ نتيجتها محيّرة، بمعنى أن قرار الخضوع لعلاج كيماوي يعود إليها.
تقول دلع: «قلت لطبيبي: شعري أجمل ما فيّ، لا أريد أن أخسره، ثم سألته لو كانت ابنتك مكاني هل كنت ستنصحها بالخضوع لعلاج كيماوي؟ فقال لي: لا، عندها حسمت أمري».
بعدها حصل ما لم يكن بالحسبان، شفاء دلع تسبّب لها في المرض، فبعد العمليّة، وُصف لها دواء تاموكسيفين لإيقاف عودة السّرطان، فتسبّب لها بسرطان الرحم.
تصف دلع ما حصل معها بطريقة ساخرة كما اعتادت أن تتعاطى مع مرضها: «بعد سنتين، عانيت من نزيف، دخلت إلى المستشفى، وكان ثمّة مؤشّرات على إمكانيّة حدوث سرطان، فخضعت لعملية إزالة الرحم والمبايض وكل هذه الكراكيب وأفرغوني من الدّاخل ونزل وزني كيلوغرامين، استأصلوا مني الكثير من الأغراض لكنّي بعدها تعافيت».
رحلة طويلة يفوت دلع منها بعض التّفاصيل، تقول: «بعدها بسنتين قمت بعمل ماموغرام وتبيّن وجود ورمٍ في الغدد الحليبيّة، قالوا لي هذا علاجه سهل، نستأصله ونترك الثدي، ثم قمت بعمل فحص بعد العمليّة، فتبيّن أنّ الورم لم يُستأصل بشكلٍ كامل، فعدت وأجريت عمليّة هي الرّابعة وطلبت منهم إزالة الثدي، فقاموا بإفراغه وتركوا الجلد والحلمة ووضعوا سيليكون تجميلي».
ظنّت دلع يومها أنّها كسبت المعركة، لكن بعدها بسنة، كانت أمام اختبارٍ قاسٍ، شعرت بألمٍ شديدٍ في صدرها، فظنّ الأطبّاء أنّ جسمها لم يتقبّل السيليكون، إلا أنّه بعد إجراء الفحص تبيّن أنّ السرطان قد عاد إليها فتمّ استئصال ما تبقّى من الثّدي.
معنويّات مرتفعة
اليوم دلع خالية من السّرطان، وخلال أيّام، ستسافر إلى لندن لتجري عمليّة إعادة ترميم ولتقوم بفحوصات جديدة، وهي تتحضّر لكافّة الاحتمالات.
رحلة طويلة وقاسية، تتحدّث عنها دلع بسخرية لاذعة، تسخر من المرض ومن المعاناة، على قاعدة «شرّ البليّة ما يضحك»، نسألها: «معنويّاتك عالية أم أنّك تقنعين نفسك أنّك بخير؟».
تقول: «أحب الحياة والورود والشّمس والبحر والضّحك، لكن لا تصدّقي أنّني هكذا على مدار السّاعة، عندما أكون بمزاجٍ هابطٍ أبتعد كي لا أنقل الطّاقات السّلبيّة إلى النّاس، وعندما أتحسّن أعود. لن أدّعي أنّني لم أنم باكيةً ومكسورةً وخائفةً من أن يعود إليّ السّرطان من جديد، ومن أن لا أتمكّن من هزيمته مرّة جديدة. أمرّ بهواجس، لكن لا أحبّ أن أنقلها إلى الخارج حتى في وسط عائلتي، أحب أن أكون متماسكة، لا أريد أن يشعروا بأنّني متعبة أو مريضة، بل أريد أن أظهر دائماً بأنّني بخير، أن أرقص، أن أضع الماكياج، أن أحافظ على شكلي الخارجي».
مقصوف الرقبة
نسألها: «السّعادة قرار؟».
تقول: «بالضّبط، أنا لم أسأل يوماً لمَ أنا؟ عندما أصبت بالمرض تقبّلته، لم أكذب على نفسي وأقول أنا بخير لا أعاني من شيء، مع أنّ الأمر كان مفاجئاً بالنّسبة لي ولم أكن أتوقّع يوماً أنّني قد أصاب بالسّرطان، تعايشت مع المرض وككاتبة تعايشت معه وسميته (مقصوف الرقبة) وكتبت عنه في صحيفة (القبس) مقالاً ساخراً».
تؤمن دلع بأنّ الدّعم العاطفي من أهم الأمور التي يحتاجها مريض السرطان، وتدين لأصدقائها وأمّها وإخوتها بالدّعم، أما أولادها وزوجها فتقول إنّهم في البداية كانوا يشعرون بالصّدمة بعد اكتشاف إصابتها بالسّرطان، وكانوا يعانون معها ويخشون من فقدانها.
ماذا تقول دلع لكل شخص يكتشف إصابته بالسّرطان فجأة؟
«أقول له أولاً أن يقرأ، أن يبحث، أن لا يترك الموضوع للأطباء ليقولوا له ماذا يفعل، كل المعلومات التي أبقتني على قيد الحياة هي التي بحثت عنها وقرأتها. أنصح المرضى بالقراءة عن أسباب المرض، علاجاته، الأعراض الجانبيّة للعلاج، الأدويّة، كيفيّة التأقلم مع الحالة، وعلينا أن نضع نصب أعيننا أنّ السّرطان ليس موتاً، هو أنفلونزا العصر، له علاج، نخرج منه بأفضل حالاتنا».
تتابع: «قد يكون العلاج سهلاً، وقد لا يكون سهلاً، لكن بالنهاية نشفى منه. يحتاج الأمر إلى صبرٍ وتحمّلٍ، لكن بالرّوح الحلوة وحبّ الحياة، وأن نعيش حياتنا بشكلٍ طبيعي ولو اضطررنا إلى أن نقسو على أنفسنا، أنا شخصياً خرجت من المستشفى إلى المطبخ لأمارس هوايتي في الطبخ، يومها صرخ زوجي وأولادي وطلبوا منّي أن أرتاح فأجبتهم إنّ راحتي هي في أن أدخل إلى المطبخ وأطبخ».
الشّفقة على الذّات
وماذا عن المرضى الذين يغرقون في شعور الشفقة على الذات؟ ماذا تقول لهم؟
لا تنكر دلع أنّها هي نفسها مرّت بهذا الشّعور، تقول: «هذا شعور طبيعي يجب أن لا ننكره، لكن يجب أن لا نستسلم له، كما يجب أن لا نسأل لماذا أنا وليس غيري؟ بل علينا دائماً أن نقول الحمد لله، المرض نعمة ورضا من الله. كلّنا نمرّ بمراحل المرض بدايةً من الإنكار إلى الغضب لكن في الآخر علينا أن نتقبّل، وعندما نتقبّل مرضنا نرتاح، وأن نقتنع أنّ فكرة أنّ عندي سرطان ليست نهاية العالم».
بماذا يشعر مريض السرطان عندما يقرأ عن مريض سرطان توفّي بالمرض؟ تقول دلع: «أشعر بغصّة، عندما ماتت ريم بنا احترقت من الدّاخل، لأنّي قبل وفاتها بشهرٍ كنت قد صوّرت معها فيديو عن السّرطان. أحترق عندما يموت أحدهم بالسّرطان لكنّي أساعد نفسي كي لا أستسلم للحالة».
في شهر التّوعية من سرطان الثدي، بعض وسائل الإعلام تسلّط الضّوء على مشاهير ماتوا بالسّرطان، كيف تقرأ دلع سلوك الإعلام في هذا الخصوص؟ تقول: «الأجدى أن نكتب عن الذين هزموا السّرطان وليس عن الذين خسروا معركتهم. رحم الله الذين رحلوا وبعضهم يستحق أن نكتب عنه، لكن كلمة هزمهم السّرطان قاسية، ليس من المفترض أن يتمّ التعاطي بهذه الطّريقة مع المرضى. هم حاربوا لكن النّهاية ليست دائماً بيدنا، وعلى الإعلام أن يختار كلماته بعناية أكبر».
قبل سنوات، تابعت دلع مسلسل «حلاوة الدنيا» لهند صبري وظافر عابدين الذي عرض في شهر رمضان وكان يتناول قضية مرضى السرطان، وتفاعلت معه وتألمت لألم أبطاله، نسألها عن تعامل الفنّ العربي مع مرضى السرطان، تقول: «قليلة هي الأعمال التي عرضت عن مرض السرطان، و«حلاوة الدّنيا» مقتبس من عملٍ إسباني. لا أحد خرج علينا بموضوعٍ جديد عن السرطان، دائماً المريض يعاني وبحالة مأساوية وينازع، ليس ثمّة أعمال عن مرضى عولجوا وانتصروا، كلّهم يموتون، كلهم ينتهون بصورة مأساوية. حالياً أكتب رواية عن مريضة سرطان انتصرت وأتمنّى أن تتحوّل إلى مسلسل».
الموقف الأصعب
هزمت دلع السرطان خمس مرّات وانتصرت، ماذا بعد؟ تقول: «ذاهبة لأجري فحوصات لم أعد خائفة، إذا وجدوا مرضاً جديداً سأعالجه، دائماً لديّ أمل ودائماً متفائلة».
عن أكثر موقف أثّر فيها تقول: «كان لديّ صديقة، تشخّصت إصابتنا بالسّرطان في الشهر نفسه والسّنة نفسها، شفيت ثمّ عادت ومرضت، وقبل سنة توفّيت. عندما سمعت بخبر وفاتها شعرت بالذّنب كانت أصعب تجربة».
وفي كل تجربة صعبة ثمّة إيجابيّات تتحدّث عنها دلع، تقول: «لكثرة ما تردّدت على المستشفيات أصبحت معتادة على السيستم، والعلاجات والعمليّات، أصبحت مثل الناظرة في المدرسة، عندما ينتهي موعد الزوّار، أجول بين الغرف أتفقّد المريضات، أشرح لهنّ عن المرض، أطمئنهن، أتابع حالة كلٍ منهنّ، كنت أشعر أنّني مسؤولة عن كل واحدة منهن وعن رفع معنويّاتهن، وعندما خرجت من المستشفى، أخبرتني الممرضات أنّ المريضات سألن عنّي وهذا الأمر أفرحني».
لا تقف الحياة عند تجربة مرض، فما بالك بخمس تجارب خرجت منها دلع بمزيد من الإصرار على أنّه إذا هاجمها «مقصوف الرقبة» من جديد ستردّ له الصّاع صاعين، وستبقى دائماً العين السّاهرة على المرضى ولو من بعيد، تقول لهم: «لستم وحدكم، هذا أنفلونزا العصر، أمامنا معركة علينا أن نحارب بكل ما أوتينا من قوّة وبإذن الله سوف ننتصر».