باكو: لم يكن قدوم الرئيس الأميركي جون بايدن إلى الحكم في أوائل العام الحالي بداية لتحولات في السياسة الخارجية الأميركية وتحالفاتها العالمية، وإنما بدأت الولايات المتحدة تشهد تحولات عدة في مساراتها ومواقفها حيال كثير من القضايا والملفات والمناطق في ضوء التطورات التي شهدتها الساحة الدولية بعودة القطب الروسي الطامع في استعادة مجده القديم، وبصعود القطب الصيني الساعي إلى ترجمة قوته الاقتصادية إلى قوة سياسية تشارك في إدارة شؤون العالم، رفضا للانفراد الأميركي الذي ظل مهيمنا على الساحة العالمية منذ انهيار المنظومة السوفياتية وتفككها في أوائل تسعينات القرن المنصرم، تلك الهيمنة التي لم تستمر طويلا مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 والاندفاع الأميركي في رد الفعل على تلك الأحداث باحتلال أفغانستان عام 2001 ثم العراق عام 2003، لتفتح بؤرا صراعية واستعمارية جديدة استنزفت مقدراتها وأخفقت في تحقيق أجندتها، وهو ما دفعها لأن تقدم بعد عشرين عاما على الانسحاب من تلك المناطق، تنفيذًا للقرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي السابق الجمهوري دونالد ترامب، ونفذه الرئيس الديمقراطي جو بايدن بالانسحاب الأحادي والمتسارع من أفغانستان، دون التشاور مع حلفائها الذين يخوضون معها المعركة في مواجهة التطرف والإرهاب، الأمر الذي أعطى قراءة واضحة لتوجهات السياسة الخارجية الأميركية في فك ارتباطها مع الحلفاء وإعادة رسم تحالفاتها، انطلاقا من أولوية مصالحها، تطبيقا لشعار أميركا أولا، وهو ما دفع الحلفاء في الغرب باستثناء بريطانيا التي انسحبت من الاتحاد الأوروبي مؤخرا فيما عرف بعملية البريكسيت، إلى إعادة البحث في كيفية ضمان أمنهم واستقرارهم بعد أن شهد حلف الأطلسي- الذي يضم الطرفين- بدايات الانقسام حول مصادر التهديد وأولوياته.
ومما زاد الأمر توترا أنه لم تمض على قرار الانسحاب الأميركي المنفرد من أفغانستان إلا أيام معدودة، ليستيقظ الحليف الفرنسي بقرار أميركي جديد اعتبرته فرنسا طعنة من الظهر، تمثل في إعلان كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا عن حلف عسكري باسم (أوكوس)، تم في ضوئه إلغاء صفقة الأسلحة الفرنسية مع أستراليا واستبدالها بصفقة غواصات أميركية تعمل بالدفع النووي. بل ولم يمض سوى أسبوع على هذا الإعلان ليعلن الرئيس الأميركي عن خطوة أخرى أضافت الكثير إلى الخطوة السابقة، تمثلت في قيامه بإحياء تكتل عسكري عبر صيغة الحوار الأمني الرباعي المعروف بتحالف (كواد) الذي يضم دولا كانت لوقت قريب بعيدة كل البعد عن السياسات الهجومية ليضم كلا من (أميركا- الهند- بريطانيا- أستراليا- اليابان). وهو حلف قديم تجمدت كل أعماله لسنوات، بعد أن تشكل عقب حدوث (تسونامي) المدمر في 2004، وأصبح رسميا عام 2007. ثم جاء قرار بايدن بتنشيط هذا التحالف عسكريا بعد اجتماعين أحدهما عبر الإنترنت في مارس (آذار) 2021. والثاني بالمشاركة المباشرة لقادة هذه الدول الخمس في واشنطن في الرابع والعشرين من سبتمبر (أيلول) الماضي (2021).
في ضوء هذه التطورات غير المسبوقة، أثيرت كثير من التساؤلات حول المساعي الأميركية للإقدام على مثل هذه الخطوات، وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر على المصالح الأميركية في مختلف المناطق التي تخفض وجودها فيها، في مقابل تعزيز هذا الوجود في منطقة المحيطين الهندي والهادي؟ وما موقف الحلفاء من هذه السياسة؟ وما رد فعل الأطراف التي تمارس ضدها هذه السياسة وتحديدا الصين وروسيا؟ هل يمكن أن يدفع ذلك الطرفين (الصيني والروسي) إلى مزيد من التقارب مع جذب أطراف أوروبية كانت تدور في الفلك الأميركي وترفض التوجهات الجديدة؟ وما موقف الأطراف الإقليمية التي أبدت علنا تضامنها مع الولايات المتحدة في مواجهة الصين، ويقصد بها تحديدا (الهند وأستراليا واليابان)؟
وفي خضم الإجابة على هذه التساؤلات، يستعرض التقرير ثلاثة محاور رئيسية على النحو الآتي:
أولا: السياسة الخارجية الأميركية وصعوبة التوازن
تتبنى السياسة الخارجية الأميركية شعارا واضحا يتمثل في «أميركا أولا». ورغم سهولة رفع هذا الشعار إلا أنه يحمل صعوبة في كيفية تطبيقه على أرض الواقع في ظل حجم الارتباطات الأميركية عالميا وإقليميا من ناحية، وحجم التحديات التي تواجهها من ناحية أخرى. الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان أن تحقق هذه السياسة توازنا في توجهاتها مع تحالفاتها القائمة والمستجدة، يدلل على ذلك قرارها بتشكيل ما أطلق عليه «AUUKUS»(اختصار لأسماء الدول الثلاث المشاركة: أستراليا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة)، والهادف إلى تسهيل تبادل المعلومات والابتكارات التكنولوجية في مجال الذكاء الاصطناعي والأنظمة السيبرانية وتكنولوجيا الغواصات، وكذلك ظهور إمكانية توجيه ضربات من مسافات بعيدة. وقد تم على أثر تأسيس هذا الاتفاق تزويد أستراليا ببناء (8) غواصات نووية، مما دفع الأخيرة إلى إلغاء صفقة غواصات تقليدية (12 غواصة) كانت قد وقعتها مع فرنسا عام 2016 بتكلفة تقدر بحوالي 56 مليار يورو، وهو ما أثار رد فعل قويا من جانب باريس دفعها إلى سحب سفيرها من البلدين وتصعيد خطابها في مواجهة هذا التقارب الذي حاولت الولايات المتحدة تبريره كما جاء في البيان الصادر عن البيت الأبيض، بأن: «الغرض من هذا ليس فقط تعزيز قدراتنا في منطقة المحيطين الهندي والهادي، ولكن أيضا لتقريب أوروبا، ولا سيما المملكة المتحدة، من جهودنا الاستراتيجية»، وهو ما يعكس رؤية أميركية متباينة للتعامل مع الشركاء الأوروبيين، إذ يغلب على هذه الرؤية إعطاء الأولوية لبريطانيا التي خرجت مؤخرا من الاتحاد الأوروبي وتسعى إلى استقطاب الولايات المتحدة إلى صفها بعيدا عن البيت الأوروبي في مقابل فك الارتباط بين الطرفين على حد ما وصفته الخارجية الفرنسية في بيانها الصادر في منتصف سبتمبر 2021 تعقيبا على تشكيل التحالف العسكرى، حيث جاء فيه أن: «الخيار الأميركي الذي يؤدي إلى إقصاء حليف وشريك أوروبي مثل فرنسا من شراكة مزمنة مع أستراليا، في وقت نواجه فيه تحديات غير مسبوقة في منطقة المحيطين الهندي والهادي يشير إلى عدم ثبات لا يمكن لفرنسا إلا أن ترصده وتأسف له».
والحقيقة أنه رغم علم الولايات المتحدة بتأثيرات مثل هذا القرار على باريس، إلا أنها لم تول اهتماما يذكر حينما أقدمت على بناء شراكة مثلثة مع بريطانيا وأستراليا دون الأخذ في الاعتبار المصالح الفرنسية التي تتجاوز الخسارة المالية نتيجة فسخ عقد توريد الغواصات إلى أستراليا والمعروف حينها بعقد القرن، وإنما تظل الخسارة الجيوسياسية هي الأكثر تأثيرا في المصالح الفرنسية، إذ يمثل إلغاء الصفقة إقصاء لوجودها في منطقة المحيطين، وهو ما سيحتاج إلى وقت لإصلاح ما جرى.
ثانيا: الحلفاء والبحث عن مقاربات جديدة للأمن والاقتصاد
لم تكن القرارات الأميركية الأخيرة بتشكيل التحالفات الجديدة بعيدا عن شركائها في حلف الأطلسى، سوى القشة التي قضمت ظهر البعير، إذ سبق ذلك قرارات أميركية منفردة منذ عهد الرئيس دونالد ترامب كانت مصدر قلق كبير للحلفاء، إذ فهم الحلفاء أن شعار «أميركا أولاً»يهدف إلى تحقيق المصلحة الأميركية دون غيرها خاصة في ظل تصاعد حدة الحرب التجارية الأميركية الصينية التي رغم ما حققته من إيجابيات للسوق الأوروبية في مواجهة غزو الصناعات الصينية إلا أنها أعطت رؤية بشأن كيف يُولي صانع القرار الأميركي مصالح بلاده أولوية، بغض النظر عن تأثيرات ذلك على اقتصاديات الحلفاء. صحيح أن مسؤولي الإدارة السابقة بعثوا برسائل تطمينية إلى الحلفاء بأن واشنطن ستلتزم بعهودها الدولية، مؤكدين على أهمية تحالفاتها في جميع أنحاء العالم، وهو ما ظهر في العديد من المواقف والأحداث، بما حافظ على استمرار مسار العلاقات بين جانبي الأطلسي دون حدوث تغييرات ملحوظة، خاصة بعد وصول الرئيس جو بايدن إلى الرئاسة، حيث مثلت زيارته إلى الشركاء الأوروبيين في يونيو (حزيران) 2021 مؤشرا على استمراره في النهج ذاته، حينما أشار إلى ذلك صراحة بقوله: «اتفقت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على تعليق الرسوم الجمركية لمدة 5 سنوات، والتزمنا بضمان تكافؤ الفرص لشركاتنا وعمالنا»في إشارة إلى حسم الخلافات بين الجانبين بشأن صناعة الطائرات والصلب والألومنيوم، إلا أنه من الصحيح أيضا أن هذه الرسائل لم تحمل تطمينا كاملا للأوروبيين في اعتمادهم على قوة واشنطن ونفوذها، وإنما بدأ هذا الاعتماد في التراجع، بما دفعهم إلى البحث عن مقاربات جديدة تنطلق من الاعتماد بشكل أكبر على القدرات الذاتية للقارة، والتخلص تدريجياً من الاعتماد الكامل على الحماية الأميركية، كما جاء في بيان وزارة الخارجية الفرنسية عقب الإعلان عن إلغاء صفقة الغواصات مع الجانب الأسترالي، بأن: «القرار المؤسف الذي تم الإعلان عنه للتو، يؤكد فحسب ضرورة إثارة مسألة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي بصوت عال وواضح. ما من طريقة أخرى جديرة بالثقة للدفاع عن مصالحنا وقيمنا في العالم». وقد دفعهم ذلك لمنح الأولوية لتأسيس منظومات أمنية مستقلة خلافاً للتكتلات الدولية الموجودة حالياً، مثل حلف شمال الأطلسي، إلى جانب العمل على البحث في إمكانية تأسيس مشروع سياسي مستقل يعزز من القدرة على مواجهة التحديات من دون الاعتماد بشكل كبير على الحماية، أو الدعم الأميركي.
ما يمكن قوله إن ثمة أزمة ثقة تتصاعد اليوم بين جانبي الأطلسي، وخاصة من جانب فرنسا وألمانيا اللتين تريان في سياسة الولايات المتحدة تقلبات ورسائل مشفرة لم يستطيعا فهمها والتعامل مع تحدياتها وإن اتفقتا معها على ضرورة مواجهة الصعود الصيني والعودة الروسية، ولكن شريطة أن يتم ذلك في إطار من التنسيق الكامل مع الحلفاء بما يعطي فهماً أكبر بتقدير مصالحهم المهددة وليس المصالح الأميركية المنفردة، خاصة وأن الحلفاء قد لا يرون في خيار الاحتواء خيارا متاحا للتعامل مع الصين وروسيا بسبب حجم الارتباطات الاقتصادية بينهم.
ثالثا: المنافسان والبحث عن مقاربة جديدة للمواجهة
تسعى السياسة الأميركية إلى مواجهة المنافسين الجدد القادمين إلى قمة النظام الدولي (روسيا والصين) عبر تبني سياسة ترتكن إلى نهج بناء التحالفات مع جوارهما الجغرافي بهدف تطويقهما وتهديد مصالحهما، وذلك بدلا من نهج المواجهة المباشرة ذات الكلفة الباهظة على الجميع. مع الأخذ في الحسبان أن ثمة مستويين من النظرة الأميركية إلى الطرفين، إذ إنها في الوقت الذي تقبل فيه واشنطن إجراء حوارات سياسية مع موسكو كما جرى في جنيف مؤخرا، ترفض في الوقت ذاته الدخول في جولات من الحوار مع الصين، بل تحاول تسويق تحالفاتها الجديدة (الشراكة المثلثة والرباعية الأمنية) بأنها تسعى إلى مواجهة التهديد، وهو ما فهمته بكين جيدا في رسائله التحذيرية من سياسة التحالفات الأميركية التي ستقوض الاستقرار الإقليمي في المنطقة، خاصة الخطوة المتعلقة بتزويد أستراليا بغواصات نووية بما قد يؤدي إلى تسريع سباق التسلح في المنطقة كما ترى الصين.
على الجانب الآخر، تحاول واشنطن تحييد الموقف الروسي أو إبعادها عن ساحة الصراع القادمة مع بكين، الأمر الذي تتفهمه موسكو جيدا في أن التخلي عن بكين في هذه المواجهة يعني خوضها لذات المواجهة ولكن في المدى الأبعد بعد حسم الصراع لصالح الولايات المتحدة. بمعنى أكثر وضوحا تعي موسكو جيدا أن تأجيل الصراع مع الولايات المتحدة والغرب في تلك المرحلة التي يشتد وطيسها في مواجهة الصين في الوقت الراهن، ستخوضه لاحقا بمفردها إذا ما حُسمت المواجهة ضد بكين.
ولذا، فالشريكان يبحثان عن مقاربة جديدة تمكن كلا منهما من مواجهة سياسة التطويق التي تتبناها واشنطن تجاههما، مع الأخذ في الحسبان أن التوصل إلى هذه المقاربة يواجه تحديات عدة أبرزها تباين العلاقات بينهما وبين الدول الأعضاء في التحالف الأميركي الجديد. إذ إنه في الوقت الذي يشترك فيه الطرفان (الصين وروسيا) في مواجهة بعض أعضاء هذا التحالف ويقصد بذلك تحديدا اليابان وبريطانيا، إلا أنه في الوقت ذاته يتباينان في علاقاتهما مع بعض الأطراف الأخرى ويقصد بذلك تحديدا الهند، حيث ترتبط الهند بعلاقات وثيقة مع موسكو في حين خاضت وتخوض صراعا مع بكين، بما يجعل من وضع استراتيجية مشتركة صينية روسية في مواجهة التحالفات الأميركية الجديدة في المنطقة محل صعوبة جمة.
ولكن على الجانب الآخر، لدى الطرفين فرصة لبناء تحالف مع بعض الأطراف الأوروبية الرافضة للنهج الأميركي شريطة أن يكونا حذرين في أنه رغم تصاعد أزمة الشكوك بين الولايات المتحدة وحلفائها والتي لم تكن الأولى من نوعها، إلا أنهم سرعان ما ينجحون في احتواء تلك الأزمات. ولكن ما قد يميز هذه الأزمة الراهنة أنها تأتي في مناخ جديد يتعلق بالرؤية الأميركية في إدارة العالم من ناحية، وبتعدد الفاعلين الدوليين المنغمسين في الأزمة من ناحية أخرى، وبأوضاع أوروبية خاصة في فرنسا (التي تنتظر إجراء الانتخابات الرئاسية القادمة في أبريل 2022) وألمانيا (التي تشهد أفول عصر مستشارتها الموصوفة بالمرأة الحديدية أنجيلا ميركل) من ناحية ثالثة.
منتهى القول، إن سعي الولايات المتحدة الأميركية إلى بناء تحالفات جديدة في عالم يموج بالتقلبات والتغيرات يفرض عليها في نهجها وتحركها أن تدرك حقيقة مهمة أن إدارة التحالفات بين الدول لا تقل صعوبة عن إدارة الصراعات، لأن غياب القواعد الحاكمة في بناء التحالف وإدارته قد تحوله إلى صراع ينذر بمزيد من التهديدات والمخاطر للأمن والسلم الإقليميين والدوليين.