القاهرة: وسط حالة من الجمود الذي انتاب أزمة سد النهضة الإثيوبي منذ إعلان إثيوبيا عن نجاحها في الملء الثاني لخزان سد النهضة بشكل منفرد، ودون الوصول إلى اتفاق مع دولتي المصب مصر والسودان، وازدياد حالة الجمود بعد جلسة مجلس الأمن لبحث الأزمة بناء على طلب تقدمت به تونس، والذي أعاد الملف مرة أخرى إلى مظلة الاتحاد الأفريقي، ما اعتبرته إثيوبيا انتصارا لها، مع رفضها بقية نتائج الاجتماع، طرأت مستجدات أعادت الملف إلى الواجهة من جديد في ظل نشر دراسة جديدة تتحدث عن احتمالية كبيرة لانهيار سد النهضة لأسباب فنية، وعدم قدرته على تخزين بحيرة السد بما يقارب 74 مليار متر مكعب من المياه كما هو معلن، مما أثار ردود فعل كبيرة بعد نشر هذه الدراسة التي شارك في إعدادها باحثون محليون بعدة جامعات، وهيئات دولية، والتي أكدت وجود هبوط أرضي غير متناسب في أطراف السد الرئيسي، خاصة الجانب الغربي، حيث سجل حالات نزوح متفاوتة يتراوح مداها بين 10، و90 مليمترا في أعلى السد، وكشفت عن وجود إزاحة رأسية غير متساوية في قطاعات مختلفة من السدين الرئيسي، والمساعد، كما أن أساسات السد بنيت على مجموعة من الكهوف الجيرية، مع وجود فوالق أرضية تحت سد النهضة الخرساني، وسد السرج الذي توجد به مشاكل أكثر من السد الرئيسي.
وينذر موقع السد بحدوث انهيارات لوجوده على فالق أرضي قد يتسبب في هبوط غير متناسق، مما ينذر بانهياره. فيما بدأت القاهرة تغير من لهجة خطابها حول ما يتعلق بأزمة السد وهو ما ظهر في تصريحات وزير الري المصري الدكتور محمد عبد العاطي خلال ندوة نظمها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بالقناطر الخيرية والتي أكد خلالها أن الدولة جاهزة للتعامل مع أي طارئ فيما يخص قطاع المياه ولن تسمح بحدوث أزمة مياه في مصر، أو حدوث ضرر في المياه التي تصل إليها، وأن مصر جاهزة للتعامل مع جميع السيناريوهات حول سد النهضة، وأن هناك تنسيقا كاملا بين جميع أجهزة الدولة للتعامل مع قضية السد، بلا تسرع في اتخاذ أي قرار، بل يتم دراسة جميع القرارات التي تخص الأمر بتأن حتى يتم تحديد الوقت لتنفيذ أي سيناريو.
هذه الدراسة التي تزامنت مع تصريحات مسؤول بارز في الخارجية السودانية تشير إلى بدء الجانب الإثيوبي في وضع ألواح خرسانية في الممر الأوسط تمهيدا لتعليته، استعدادا للملء الثالث، إضافة إلى تصريحات رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت، في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، خلال زيارته للقاهرة منذ أيام، والتي بحث خلالها أزمة المياه وسد النهضة؛ مشيرا إلى أنه كان قد تلقى وعدا من أديس أبابا ببدء مفاوضات سد النهضة خلال أكتوبر (تشرين الأول) الجاري عقب تشكيل الحكومة الإثيوبية إلا أنه لم يحدث شيء في هذا الإطار، وأنه أبلغ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، ليس في وضع يسمح له ببدء المفاوضات في الوقت الحالي نظرا لحربه مع المعارضة في تيغراي، إلا أن تأكيدات الرئيس السيسي بضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم ينظم عملية الملء والتشغيل استنادا إلى قواعد القانون الدولي ومخرجات مجلس الأمن لتعزيز الاستقرار في المنطقة تشير إلى عودة الملف إلى الواجهة من جديد، وتمسك القاهرة بحقها المائي في مياه النيل.
تحالفات تدعم الخيارات المصرية
لا زالت فرص حلحلة أزمة سد النهضة أمرا صعبا رغم كل الجهود، والتي دخلت فيها أطراف عديدة في محاولة إيجاد مخارج مرضية لجميع الأطراف ومنها الجزائر، ومنظمة الوحدة الأفريقية، والكونغو، ولا زال التعنت والإصرار الإثيوبي وعدم اعترافها بوجود مخاطر حقيقية في عملية بناء السد على دولتي المصب، يجعل هناك صعوبة كبيرة في إمكانية إيجاد حل للأزمة، وذلك حسب الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الدكتور عمرو الشوبكي، في تصريحات خاصة لـ«المجلة»،مؤكدا أنه ما لم يكن هناك حسم دولي مبني على وجود مخاطر حقيقية على دولتي المصب، ويكون ذلك بمثابة شهادة دولية مؤكدة في ظل الدراسات الجدية التي تؤكد أن السد معرض للانهيار، وبحيث يكون هناك قرار دولي بأن استمرار هذه الأزمة دون حل يهدد الأمن والسلم الدوليين، وهذا لم يحدث خلال جلسة مجلس الأمن التي كانت مخصصة لمناقشة ملف أزمة السد، ما لم يكن ذلك فلن تحدث أي حلحلة، ولن تتراجع إثيوبيا عن موقفها المتعنت.
الخيار العسكري في أزمة سد النهضة الإثيوبي حساباته لدى القيادة السياسية في مصر معقدة، وهو ليس قرارا سهلا، ولكن في كل الأحوال مصر حريصة على أن توثق تحالفاتها بالخرطوم، وجنوب السودان، بصرف النظر عما سوف تسفر عنه هذه التحالفات، لكن هناك حرصا شديدا خلال الفترة الحالية على توثيق العلاقة مع جنوب السودان كما هو الحادث مع الخرطوم وقد شاهدنا من قبل المناورات العسكرية المصرية السودانية ( نسور النيل-1، ونسور النيل-2، وحماة النيل) التي تمت على الحدود الإثيوبية، والدعم المصري الكامل لحق السودان في السيطرة على كامل أراضيه وكامل حدوده، وبالتالي فإن هذا التحالف يأتي على المستوى الاستراتيجي المطلوب بصرف النظر عن الإقدام على خيار اضطراري عسكري أم لا، وهو تحالف مطلوب ويتم تدعيمه بصرف النظر عما إذا كان هناك اضطرار للجوء إلى خيار عسكري أم لا.
قرار اللجوء للخيار العسكري يعد قرارا أخيرا، وهو أمر لم يحسم بعد في القاهرة، وبالتالي لا زالت تسعى القاهرة لإيجاد ضغوط سياسية على الجانب الإثيوبي، وهذه الضغوط على الرغم من أنها لم تسفر عن شيء خلال السنوات الماضية، لكنها تدعم اختيارات مصر بتحالفات مع الدول المحيطة بإثيوبيا سواء كانت السودان، وفتح قنوات اتصال مع دول أفريقية مهمة مثل أوغندا وجيبوتي، ولذا فمن المتصور أنه لكل مقام مقال في حال إذا اضطرت القاهرة إلى استخدام الخيار العسكري فسيكون شكل التحالفات مختلفا، وموقف الدول يكون مختلفا، لأن ذلك خيار حساباته مركبة لكن في الوقت الحالي مصر تكتفي بالتحالف السياسي، ودعم الشراكات السياسية والاستراتيجية بينها وبين عدد من الدول الأفريقية ومنها جنوب السودان.
انتهاء أزمات إثيوبيا الداخلية شرط لبدء التفاوض
زيارة الرئيس سلفاكير ميارديت، سبقها زيارة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى جوبا، بهدف زيادة العلاقات المصرية مع دولة جنوب السودان، ومناقشة الأوضاع الأمنية في المنطقة، كما أن جنوب السودان غير مستقر حتى الآن، ومع ذلك، وحسب أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، الدكتور عباس شراقي، في تصريحات خاصة لـ«المجلة»،فليس هناك اعتقاد بأن تلجأ دولة جنوب السودان إلى تقديم تنازلات لمصر، حيث إن علاقتها قوية مع إثيوبيا، كما أن هناك اتفاقا عسكريا تم توقيعه في فترة سابقة بين جوبا، وأديس أبابا، وبالتالي فإن جنوب السودان سوف تعمل على المواءمة بين دول الجوار في إطار العلاقات الطيبة مع الجميع، وليس في نية جنوب السودان الانحياز مع طرف ضد الآخر، وهي تسعى لأن يكون هناك اتفاق ملزم يحظى بقبول جميع أطراف الأزمة.
كما أن تصريحات رئيس جنوب السودان سيلفاكير ميارديت، خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس السيسي، ليست مطمئنة بعد قوله إن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، أكد له أنه لن يكون هناك اتصال بين إثيوبيا ودولتي المصب (مصر والسودان)، إلا بعد حل المشكلات الداخلية في إثيوبيا، خاصة أزمة إقليم تيغراي. وها هو قد بالفعل عملية هجوم بري شديد على قوات تيغراي، وهذا يعني أنه لا وجود حاليا للمفاوضات في ظل أنباء تتحدث عن بدء إثيوبيا في تعلية الحاجز الخرساني للقطاع الأوسط من سد النهضة تمهيدا للملء الثالث، وفي ظل وجود دراسات جدية عن إمكانية انهيار سد النهضة، ولكن جنوب السودان لها علاقات طيبة مع إثيوبيا، ومصر، ومن الممكن أن تلعب دورا إيجابيا في المفاوضات بين الأطراف الثلاثة، خاصة في ظل تراجع الكونغو رئيس الدورة الحالية للاتحاد الأفريقي، وتراجع الجزائر، التي أبدت أيضا رغبتها في الوساطة بين أطراف الأزمة وذلك خلال الشهور الماضية، وجنوب السودان لديه إمكانية الآن في تحريك هذا الملف، ولكن رأينا تصريحات سلفاكير ميارديت التي أكد فيها رغبة إثيوبيا في عدم بدء المفاوضات في الوقت الحالي، خاصة في ظل تواصل أزمة إقليم تيغراي.
جاهزية مصرية لجميع السيناريوهات
وأضاف شراقي أن مصر تؤكد دائما أنها جاهزة لجميع السيناريوهات وأن كل الخيارات مفتوحة، وكان آخرها تصريحات وزير الري، محمد عبد العاطي، منذ عدة أيام والتي أكد فيها على ذلك، وأنها في ذات الوقت لا زالت تشجع على استمرار التفاوض، وهو ما أكدت عليه خلال جلسة مجلس الأمن الذي أشار في بيانه إلى ضرورة استئناف المفاوضات في أسرع وقت ممكن، وهو ما تطالب به مصر حاليا، ولكن التعنت الإثيوبي لا يزال مستمرا حتى إن الرد الإثيوبي على بيان مجلس الأمن كان رفض كل ما جاء في هذا البيان، من ضرورة استئناف المفاوضات، ووجود أطراف دولية، وسير المفاوضات في فترة زمنية مقبولة، ولم تعترف سوى بإحالة ملف الأزمة للاتحاد الأفريقي. ومع ذلك وفي غضون الساعات القليلة الماضية أكد مسئوول بالخارجية السودانية أن إثيوبيا بدأت في تعلية الممر الأوسط لسد النهضة، ووضع حوائط خرسانية استعدادا للملء الثالث. ولا أعتقد صحة هذه الأنباء حيث إن سد النهضة الرئيسي خرساني ويتم الصب مباشرة على جسم السد، وحتى الآن المياه تفيض من أعلى الممر الأوسط وسوف يستمر ذلك حتى نهاية الشهر الجاري على الأقل وبعد ذلك سوف يتم إما تشغيل توربين، أو اثنين لتمرير المياه بدلا من أعلى الممر الأوسط أو في حالة استمرار فشل التشغيل سوف يتم فتح بوابتي التصريف السفلي التي تم فتحهما في أبريل (نيسان) حتى منتصف أغسطس (آب) الماضي، ثم تجفيف الممر وإنهاء الأعمال الهندسية على جانبي السد حتى منسوب 595 مترا على الأقل، وحينئذ يتم تجهيز الممر الأوسط وبدء الخرسانة غالبا في فبراير (شباط) القادم
من جانبه، قال وزير الري الأسبق الدكتور محمد نصر علام، الموقف الإثيوبي لم يتغير، ولا زال التعنت الإثيوبي مستمرا، وليس هناك متغيرات حقيقية، أو تغير في المواقف الدولية بما يؤدي إلى خلق أفق جديد في مفاوضات سد النهضة يمكن من خلاله الوصول إلى حلول عادلة وملزمة تقبل بها كل الأطراف، وإذا ما فشلت المفاوضات فكل السيناريوهات محتملة، ويتوقف ذلك على التوازنات الدولية والإقليمية في وسط منطقة مشتعلة لا تحتمل تفجر نزاع جديد.