[blockquote]الكتاب: علم الغيب في العالم القديم
المؤلف: ماركوس شيشرون
المترجم: الدكتور توفيق الطويل
الطبعة الأولى: الوراق للنشر
سنة النشر: 2015[/blockquote]
من القصص المثيرة في تاريخ ظاهرة التنبؤ بالغيب قصة أوردها الكاتب الأميركي ريتشارد نوكس في مشاركة له في كتاب The Book of Time (ترجم للعربية باسم: «فكرة الزمان عبر التاريخ») يقول نوكس:
«لاحظ الفلكيون المصريون، طيلة مئات من السنين التي سجلوا فيها الأحداث الفلكية، أن كسوف الشمس وخسوف القمر يتبعان دورة تستغرق ثمانية عشر عامًا وأحد عشر يومًا، تقريبًا، لكي تكتمل.. وكل خسوف يشكل جزءا من سلسلة من الخسوفات تتغير فيها تدريجيًا مواقع: الشمس والقمر والأرض بالنسبة إلى بعضها، وذلك نتيجة تغير بطيء غير منتظم.. وهذه الدورة وتسمى الساروس احتفظ كهنة المعابد الفرعونية بأسرارها ضمن سائر المعارف العلمية الأخرى».
«ومنحتهم هذه المعرفة بالأسرار قوى مدهشة، ظاهريًا، على التنبؤ، بل على التحكم الظاهري في السموات، إذ كان بوسعهم أن يتنبأوا بأن إله الشمس سوف يحتجب نتيجة المعاصي التي يرتكبها الشعب. فإذا ما حدث الكسوف أمكن الكهنة أن يبشروا باستعادة الشمس، وفق شروطهم الخاصة»
وفي عام 1996 أصدرت كتابي: «التنبؤات والأحلام من الخرافة إلى العلم» بعد رحلة طويلة في المكتبة العربية بحثًا عن مصادر ذات قيمة علمية وسط ركام الكتابات التي تطفح بالخرافة عن عالم ما يسمى «الظواهر الخارقة» (التنبؤ - التخاطر – الأحلام)، وخلال هذه التجربة صادفتني رسالة أكاديمية متميزة للأكاديمي المعروف الأستاذ الدكتور توفيق الطويل - رحمه الله رحمة واسعة - عنوانها: «التنبؤ بالغيب عند مفكري الإسلام»، وهي عمل نادر المثال في هذا الباب.
وقد لفت نظري أن الدكتور الطويل يتحدث فيها بتقدير كبير عن كتاب من الأمهات في هذا الباب هو: «علم الغيب في العالم القديم» لفيلسوف الرومان وخطيبهم ماركوس شيشرون. والطويل يقول عن كتاب شيشرون: «وقد شرعت في ترجمة هذا النص القديم إعجابًا به وتقديرًا لمنهج بحثه، وكنت في ذلك الحين أقوم بوضع رسالتي للدكتوراه، وقد كانت دراسة مقارنة في موضوع الأحلام عند مفكري الإسلام، ثم لاحظت فجأة أن بين موضوعها وموضوع هذا الكتاب علاقة عموم وخصوص!.. فخطر لي أن ألحق الترجمة مع التعليق عليها برسالة الدكتوراه».
ولا بأس هنا من شيء من الشعور بالأسى على ما لحق بحال الجامعات المصرية بعد هذا الجيل المبدع الصبور المدقق!
وشيشرون رجل غرق في بحر السياسة حتى أذنيه، وقد كتب هذا الكتاب الموسوعي كجزء من سجال كبير كان يدور في عصره حول علم الغيب، «وكان الغرض من تأليفه مناقشة التكهن بالغيب في مختلف أساليبه تأييدًا وتفنيدًا»، وهو جعله عملاً تحليليًا / تأريخيًا لا يخلو من متعة وإثارة، ولا يخلو - وهذا هو الأهم لقراءة معاصرة - من دلالات سياسية وثقافية لم تزل ماثلة في ثقافة القرن الحادي والعشرين.
الاعتقاد في التنبؤ
يستهل ماركوس شيشرون مؤلفه بأن يقرر أن اعتقادًا قديمًا انحدر إلى عصره مفاده إيمان «سائر الشعوب» بوجود نوع من «التكهن بالغيب» بين بني البشر، والأشوريون مثلاً مكنتهم سعة السهول التي عاشوا فيها ومنظر السموات التي تمتد مكشوفة على مدى البصر من أن يلاحظوا مسالك الكواكب، وأن يرقبوا حركاتها، فسجلوا ما أدتهم إليه مشاهداتهم، وورثوا الأجيال التي تلتهم ما تحمله حركات الكواكب من دلالات على حظوظ الناس. ومن أبناء الشعب نفسه عرف الكلدانيون، ويرجح أنهم واصلوا ملاحظة المجموعة النجمية زمانًا طويلاً واستغلوا هذه المشاهدات في إقامة علم يمكنهم من التنبؤ بحظوظ الناس.
ويلخص شيشرون التأثير الكبير - بل الاستثنائي - للتنبؤ بالغيب في الشؤون العامة في عصر بالتساؤل:
«وفي الحق أية هجرة قام بها الإغريق إلى إيتوليا، أو أيونيا أو آسيا أو صقلية أو إيطاليا، قبل أن يستشيروا الكاهنة (بيثيا) أو يتلقوا الوحي من (دودونا)، أو (جوبتر آمون)؟ أو أية حرب خاض الإغريق غمارها قبل أن يلتمسوا نصيحة الآلهة أولاً»؟
ويثير شيشرون قضية مهمة هي أن القدماء كانوا أكثر تأثرًا بالنتائج العملية منهم بالاقتناع المنطقي، وهو في موضع آخر يقول: «وأظن أنه ينبغي عند البحث في طرق التكهن بالغيب، وأن نهتم بنتائجها لا أن نعنى بأسبابها، فإن هناك قوة طبيعية خاصة تكشف المحجب من أنباء المستقبل»، وهاتان العبارتان تلخصان - على نحو دقيق - الصلة بين العقل البشري والظواهر الخارقة حتى القرن الحادي والعشرين!
وأما الفلاسفة فقدموا أدلة لبقة على صدق التنبؤ بالغيب، والمثير أكثر فيما يتصل بالصورة النمطية عن العقل الفلسفي الغربي وعقلانيته يقول شيشرون: «سائر الفلاسفة - مع استثناء أبيقور -.. سلموا بالتكهن بالغيب». والتكهن نوعان: أولهما يعتمد على الصناعة، وثانيهما يستند إلى الطبيعة.
الكهانة تصنع السياسة
تحت عنوان: «أثر التكهن في توجيه الحكومات والشعوب قديمًا» يتساءل شيشرون بعبارة واضحة عن انتفاء التعارض بين قيمتي: العقلانية والنظام من ناحية، وبين التكهن بالغيب كظاهرة لاعقلانية بامتياز، يقول شيشرون: «من ذا الذي فاته أن يلاحظ أن استنباء الطيور وسائر أساليب التكهن بالغيب، تزدهر أيما ازدهار في أعظم الأمم نظامًا؟ وأي ملك وأي شعب لم يستخدم التنبؤ في شؤونه؟»..... ويضيف شيشرون: «وإني لأعود الآن إلى الأحداث التي وقعت في بلادنا: كم من مرة أمر مجلس الشيوخ الحكام العشرة ذوي الحكم المطلق، أن يستوحوا كتب الكاهنة في دلفي؟ وكم مرة أصاخ فيها لإجابات العرافين في شؤون لها خطرها».
والإثينيون – على سبيل المثال – لا يعقدون اجتماعًا عامًا إلا حضره أهل التنبؤ من الكهان. وخصص الإسبرطيون رجلاً من أهل العيافة ليتولى نصح الملوك، ويكون بمنزلة المستشار القضائي لهم، وقرروا أن يحضر الجلسات التي يعقدها مجلس الشيوخ. ويفرد شيشرون بعد ذلك سياقًا طويلاً يتناول فيه عشرات الأمثلة لحوادث مفصلية سياسية وعسكرية كان التكهن بالغيب محددًا رئيسًا في الإقدام عليها أو الامتناع عنها.
شيشرون والدكتورة تيسيه
ما لفت نظري إلى الكتاب ودفعني للكتابة عنه، إلى جانب أهميته المعرفية ودلالته على عصر ذهبي للجامعات المصرية، وطرافة موضوعه، عامل آخر استوقفني من سنوات هو استمرار المفارقة عشرات القرون بين ثقافة عامة ترفع شعار العقلانية وواقع لاعقلاني بامتياز.
فما كتبه شيشرون عن الغرب قبل ميلاد المسيح بعدة قرون ما زال يتمتع بنوع من الاستمرار والتعايش بين العقل ونقيضه في الغرب، فمن يقرأ مذكرات نانسي ريجان زوجة الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريجان سوف يصدمه - غالبًا - الدور الذي لعبته عرافة أميركية شهيرة في حياة الرئيس الأميركي وعائلته، وإذا انتقلنا إلى شرق الأطلنطي في باريس عاصمة التنوير والعقلانية سيجد أمامه نموذجًا يبدو كما لو كان قد هرب من قلب التاريخ الروماني القديم ليستقر في قلب الإليزيه، وأعني بذلك إليزابيث تيسيه العرافة التي لعبت دورًا كبيرًا في حسم القرار في موضوعات سياسية كبيرة - منها قرار فرنسا بالاشتراك في حرب تحرير الكويت - عبر تقديم نبوءاتها للرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتيران، وهي بعد سنوات من رحيله كانت تحصل على الدكتوراه من جامعة السوربون العريقة أمام لجنة من كبار الأساتذة في علم النفس والفلك، عن أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في «علم التنجيم».
وقالت تيسييه إنها عكفت على إعداد هذه الأطروحة على مدى عدة سنوات، وإنها كانت تجمع مادتها بموازاة الجهد الذي تبذله لإصدار كتاب في مطلع كل عام، يحتوي على تنبؤاتها للعام الجديد. وفي دلالة مهمة على «المزاج العام» في «عاصمة التنوير» تحقق كتب العرافة الفرنسية أرقامًا عالية في سوق المبيعات، و«هي مقسمة إلى عدة فصول، منها ما يتناول أوضاع العالم من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومنها ما هو مخصص للقارة الأوروبية، ولفرنسا، انتهاء بفصل عن طالع كل برج من الأبراج على امتداد أشهر السنة».
وحسب العرافة كان الرئيس الفرنسي «يستقبلها على الإفطار أو الغداء، بين الحين والآخر، ويتناول الطعام معها على انفراد، من دون ان يحاول التكتم على تلك اللقاءات أو المحافظة على سرية مكالماته الهاتفية معها». «وكان آخر لقاء بين الرئيس وعرافته جرى في الشهر الأخير من عام 1994. وسألها الرئيس خلاله عما تراه بخصوص وضعه الصحي، فسكتت ولم تواتها الشجاعة لمصارحته بأنها ترى طالعة سيئة».
والكتاب يظل «مسارًا فرعيًا» يستحق الاحتفاء من الباحثين والمشغولين بعالم الأفكار الذين يتشوقون إلى أن تنال الكتابات ذات الطبيعة المعرفية والثقافية القدر الذي تستحقه من إنتاج المطابع، وبخاصة في ظل طغيان غير مسبوق للسياسي - وبخاصة السجالي - على ما سواه من الكتابات، وهو أمر تفسره الأجواء السياسية السائدة في العالم العربي منذ الربيع العربي، وإن كان غير مبرر في كل الأحوال.
والتنبؤ - وغيره من الظواهر المعروفة اصطلاحًا بالظواهر الخارقة - لا تحظى باهتمام كبير من الباحثين الجادين في العالم العربي، فباستثناء كتابات العلامة الراحل الدكتور توفيق الطويل والعلامة العراقي الراحل علي الوردي، وسلسلة ممتعة أصدرها الكاتب راجي عنايات، تفتقر المكتبة العربية إلى دراسات جادة في هذا المجال الشيق، وتكاد النسبة الأكبر من الكتب الرائجة التي تتناوله تفتقر إلى العلمية والموضوعية. ويبقى أن كثرة الطلب عليها - رغم طبيعة محتواها - مؤشرًا على تجذر الفكرة في الثقافة العربية المعاصرة التي لا تزال تتداول مؤلفات من التراث كتبت منذ قرون واصطبغت بصبغة دينية واعتمد كثير منها تتبع الغرائب دون تدقيق.