جدة: في سابقة تحدث للمرة الأولى منذ 50 عاماً بالضبط، يقتحم صندوق الاستثمارات العامة، الذراع الاستثمارية للحكومة السعودية، القطاع العقاري المحلي بمشاريع عملاقة موجهة للمواطنين عبر شركته (روشن العقارية)، التي تأسست في أغسطس (آب) 2020. ويأتي ذلك في وقت تسرّع فيه السعودية جهودها لزيادة تملك الوحدات السكنية لمواطنيها من نحو 62 في المائة حالياً إلى أكثر من 70 في المائة وفقاً لرؤية المملكة 2030. لكن المشروعات العقارية الجديدة، التي يطرحها صندوق الاستثمارات عبر «روشن»، تأتي بمفهوم جديد كلياً على الساحة المعمارية السعودية، يتمثل في إعادة الألق للتراث المعماري المناطقي لمختلف أجزاء المملكة بأسلوب معاصر.
ليس لذلك فحسب، بل إن الصندوق، يعتزم طرح مئات آلاف الوحدات السكنية خلال السنوات القليلة المقبلة، بمواصفات قياسية عالية في 9 مدن سعودية ضمن 4 مناطق، تستهدف مناطق الكثافة السكانية، مع التركيز على «التكلفة المعقولة» وتعميم ثقافة كسر الاحتكارات في السوق.
ولعل التصميم الحضري، الذي يركز على إعادة فكرة الحي إلى الحياة من جديد، سيكون عنصر الجذب الأهم للمشاريع العقارية، حيث يفارق الأسلوب العمراني لمرحلة الطفرة النفطية الأولى عام 1974، نحو أسلوب يعتمد على جعل جميع الخدمات واحتياجات المعيشة على مسافة دقائق مشياً على الأقدام؛ عوضاً عن الرحلات الطويلة بالسيارات للوصول إلى المدارس ومراكز التسوق وغيرها.
فما الذي يضيفه دخول صندوق الاستثمارات بقوته المالية الهائلة إلى السوق العقارية السعودية؟ وما هي عناصر أساليب الحياة الجديدة التي تتبناها الذراع العقارية للصندوق «روشن»؟ ولماذا دخل الصندوق أصلاً الاستثمار الداخلي في قطاع العقارات؟
المملكة تنافس التطوّر الصناعي العالمي بـ«الدرع العربية»
لماذا يستثمر الصندوق في العقارات؟
تزامن إطلاق شركة «روشن العقارية» في أغسطس 2020 مع إعلان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن تحول جوهري في السياسة الاستثمارية للصندوق، تقضي بضخ 40 مليار دولار سنوياً خلال عامي 2020 و2021. وكانت «روشن العقارية»، إحدى نتائج الاستثمار الداخلي للصندوق. كما قام الصندوق بشراء حصص في شركات محلية قائمة، أثبتت نجاحها في قطاعات مختلفة.
ويقول الخبير العقاري خالد أبو فيصل: «السوق العقارية السعودية متعطشة إلى مطور عقاري عملاق، يمتلك إمكانات هائلة فيما يخص القدرة على الاستحواذ على أراضٍ يمكن تطويرها لبناء آلاف الوحدات السكنية بأعلى من المعايير السائدة في السوق. لقد وصل عدد سكان المملكة إلى 35 مليون شخص عام 2020، تصل نسبة السعوديين منهم إلى 69 في المائة، بمعدل نمو 2.3 في المائة. الطلب كثيف ومستمر على الوحدات السكنية من جانب المواطنين، والعقلية السعودية تفضل التملك على استئجار المنزل».
ويضيف: «إن الاستفادة من إمكانيات صندوق الاستثمارات العام، الذي يبلغ حجم أصوله 430 مليار دولار، في شركة روشن العقارية، يمنح السوق العقارية زخماً غير مسبوق. فالثقة في العلامة التجارية لصندوق الاستثمارات العامة، ستعطي روشن العقارية ثقلاً معنوياً لدى الباحثين عن امتلاك عقار بجودة عالية وسعر مدروس. لقد ولد الكيان العقاري الجديد عملاقاً، حيث بدأ تأسيسه عام 2019 وأصبح قادراً على إطلاق أكبر المشاريع في وقت قياسي. ما من شك أنه قائم على أسس تجارية بحتة، لكن مظلة صندوق الاستثمارات تعطيه مظلة الثقة بسابع أكبر صندوق سيادي في العالم».
إنه استثمار حيوي في قطاع واعد، عليه طلب كثيف جداً، في وقت تجند فيه الحكومة والبنوك ومؤسسات التمويل جهودها لزيادة حجم التملك، إذ بلغ حجم التمويل العقاري للأفراد في النصف الأول من العام الجاري أكثر بقليل من 21 مليار دولار، فيما وصل عام 2020 إلى 37.5 مليار دولار رغم ظروف جائحة كورونا. إنها أرقام ذات دلالة هامة، تتمثل في استعداد فئات واسعة من المواطنين للاقتراض من أجل امتلاك بيت العمر.
مشاريع روشن
جرى الإعلان عن أول مشاريع «روشن العقارية» قبل أيام، وهو مشروع «سدرة» في الرياض، الذي سيضم 30 ألف وحدة سكنية عند اكتماله. وبدأ في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري البيع على الخارطة، للمرحلة الأولى، التي تضم 3055 وحدة سكنية، تتنوع بين الفيلا والدوبلكس والتاون هاوس. وسبق ذلك توقيع اتفاقيات تمويلية؛ لتسهيل تملك المواطنين لوحداتهم السكنية. كما أرست الشركة عقوداً بقيمة تقترب من مليار دولار لتنفيذ المشروع من بنية تحتية وتطوير.
ومن ضمن المدن التي جهزت «روشن» فيها مخططات تصميمية، الرياض (وسط) وجدة ومكة المكرمة (غرب) وأبها (جنوب) والقطيف والهفوف (شرق). لقد جهزت الشركة العديد من المواقع للبدء في تطويرها تباعاً بمساحة إجمالية، تصل إلى 150 مليون متر مربع.
ويعلق الخبير خالد أبو فيصل: «إن طرح آلاف الوحدات العقارية في أوقات متقاربة ضمن أكثر من منطقة سعودية، سيعطي صدمة إيجابية للسوق العقارية بزيادة المعروض العقاري وتحفيز تنافسية الأسعار. إنه تحول مفصلي، لا يمكن تجاوزه بسهوله. ولأن شركة روشن العقارية غير مدرجة في سوق الأسهم السعودية، فإن بياناتها المالية غير متوفرة، لكن المجتمع العقاري السعودي، متأكد من وجود تدفقات نقدية هائلة، تمكنها من إنجاز أعمال التطوير العقارية».
إحياء المعمار التراثي
مع بدء عصر الطفرة النفطية السعودية الأولى عام 1974 وتدفق البترودولار إلى المملكة بكميات غير مسبوقة، ابتعدت المملكة عن الأنماط المعمارية النجدية والحجازية والعسيرية وغيرها، وانتقلت إلى أنماط معمارية تقوم على بناء مخططات عقارية، تبتعد عن مراكز المدن، ذات شوارع ضخمة، تكون الغلبة فيها لاستخدام السيارات الخاصة من أجل الذهاب للمدرسة ومراكز التسوق والدوائر الحكومية. صحيح أن ذلك النمط المعماري الجديد، منح الأفراد والعائلات مزيداً من الخصوصية والمساحات الواسعة، لكنه في الوقت نفسه، ابتعد بالناس عن التفاعل الاجتماعي اليومي، فمراكز الخدمات التعليمية والحكومية والتجارية والترفيهية، بعيدة عن الأحياء.
إن ما تطرحه «روشن العقارية» هو إعادة الاعتبار لفكرة الحي ذي الطراز المعماري التراثي مع إضفاء لمسة عصرية، فمشروع «سدرة» في الرياض، يطرح الوحدات السكنية المصممة وفقاً للطراز المعماري السلماني، فيما يضم المشروع أسلوب حياة، يعتمد على توفير جميع الخدمات التعليمية والتجارية والتموينية والحكومية على بعد مسافة يمكن قطعها مشياً على الأقدام، بينما يكون الاعتماد على السيارات محدوداً.
ويختتم الخبير العقاري خالد أبو فيصل حديثه بالقول: «سيوفر مشروع سدرة فرصاً للاستثمار وكسب موارد الرزق داخل الحي نفسه. إنه يخلق أسلوب حياة جديد، حيث المسجد والمدرسة والمقهى والمتاجر على بعد خطوات من جميع السكان. إنها نواة لبناء مجتمع متنوع، لكنه أكثر تماسكاً بحكم تحسين التفاعل الاجتماعي والتركيز على الاقتصاد الحي. وقد تجد التجربة، عند نضوجها، صدى لدى كبار المطورين العقاريين، لبناء مجتمعات تتمركز حول الأحياء نفسها، وتعيد الألق إلى الماضي في أجواء معاصرة».