في تصريحات غير مسبوقة، حول ملف الذاكرة ما بين الجزائر وفرنسا، تسببت تصريحات أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أزمة سياسية عاصفة ما بين بلده فرنسا والجزائر، حيث اتهم ماكرون النظام السياسي الجزائري باستعداء فرنسا، واعتبر أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون رهين لنظام وصفه بـ«المتحجر».
وقال ماكرون، خلال لقائه 18 طالباً وشاباً فرنسياً من أصول جزائرية، ومن مزدوجي الجنسية، وجزائريين يقيمون في فرنسا- نقلا عن صحيفة «لوموند» الفرنسية التي حضرت اللقاء أن «لديه اتصالات جيدة مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، لكن الأخير يعيش ضمن نظام صعب». وقال: «نحن نرى النظام الجزائري متعباً والحراك أنهكه، لدي حوار جيد مع الرئيس تبون، لكني أرى أنه عالق في نظام صلب للغاية».
وكان ماكرون قد أقر في وقت سابق بأن «العلاقات الجزائرية الفرنسية ليست على ما يرام»، خاصة بعد قرار الجزائر إلغاء زيارة كان مقرراً أن يقوم بها رئيس الحكومة الفرنسية جون كاستكس إلى الجزائر في 11 أبريل (نيسان) الماضي، وسحب تراخيص عمل قنوات فرنسية في الجزائر، وإنهاء عقود شركات فرنسية كانت تدير قطاعات حيوية في الجزائر، خاصة بسبب احتضان باريس لـ«حركة الماك» الانفصالية ورفضها تسليم الجزائر عددا من الناشطين المعارضين المطلوبين لدى القضاء الجزائري.
واتهم الرئيس الفرنسي النظام الجزائري الذي وصفه «بالعسكري»، بتعميق ما يصفه بـ«كراهية فرنسا» لدى الجزائريين، واعتبر أن «المشكلة لم تنشأ مع المجتمع الجزائري في أعماقه، ولكن مع النظام السياسي العسكري الذي بُني على هذا الريع من الذاكرة». وعلى الرغم من محاولة ماكرون إخفاء عقيدته الاستعمارية الموروثة إلا أنها تجلت في تساؤله حول ما إذا كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، مضيفا: «الأتراك تمكنوا من جعل الجزائريين ينسون أنهم استعمروا بلادهم». ويعتقد الجزائريون أن خرجات فرنسا التي يرونها استفزازية ضد بلادهم أنها غير عفوية بل مقصودة، ويستدلون بذلك على إقدام ماكرون مؤخراً على تكريم مئات الحركي من الجزائريين الذين خدموا فرنسا ضد بلادهم في حرب التحرير الجزائرية، وإعلانه عن مشروع قانون لتعويضهم وذويهم.
تقليص عدد التأشيرات
وقد جاء التطور الجديد أياما فقط من إعلان باريس عن قرار تقليص عدد التأشيرات الممنوحة لسكان الدول المغاربية لدخول فرنسا، حيث أعلن المتحدث باسم الحكومة الفرنسية غابريال أتال منتصف الأسبوع الماضي، عن قرار حكومته بتقليص حصة التأشيرات الممنوحة للرعايا الجزائريين بنسبة 50 في المائة خلال الأسابيع القادمة، ومثلها للرعايا المغاربة وبنسبة الثلث للرعايا التونسيين، بسبب ما اعتبره رفض الجزائر والدول الأخرى التعاون مع السلطات الفرنسية والمماطلة في إصدار التراخيص القنصلية التي تسمح بترحيل المهاجرين غير الشرعيين وإعادتهم إلى بلدانهم.
وقال وزير الداخلية الفرنسي غيرالد دارمانان، في كلمة له أمام البرلمان الفرنسي، إن «التراجع عن قرار تشديد منح التأشيرات للجزائريين مرتبط بحل أزمة المهاجرين غير الشرعيين المتواجدين في فرنسا»، وربط تراجع بلاده عن قرار تشديد منح التأشيرات لمواطني الجزائر، وكذا المغرب وتونس، بشرط إصدار هذه الدول التصاريح القنصلية اللازمة لاستعادة مواطنيها الموجودين بطريقة غير قانونية على الأراضي الفرنسية.
وشرح الرئيس ماكرون ملابسات القرار الفرنسي، مؤكداً أنه «سيضمن حصول الطلاب ومجتمع الأعمال على التأشيرات»، لكنه كان صريحا بأن «القرار سيستهدف بالدرجة الأولى ما وصفه بأفراد المجتمع الحاكم الذين اعتادوا التقدم للحصول على تأشيرات بسهولة». ويُفهم من تصريح ماكرون رغبة السلطات الفرنسية في إزعاج المسؤولين الجزائريين ومنعهم هم وأبنائهم من الحصول على التأشيرات، خاصة أن عددا كبيرا من أبناء المسؤولين تعودوا على الحصول بسهولة على التأشيرات والسفر إلى فرنسا بشكل مكثف، كما أن عددا منهم يدير أعمالا هناك، ويشير هذا الخيار إلى رغبة باريس في استغلال وتوظيف هذه الورقة ضد المسؤولين الجزائريين، لدفعهم نحو التعاون والقبول بترحيل الجزائريين المقيمين بطريقة غير قانونية في فرنسا وكذا الأشخاص الذين صدرت في حقهم قرارات الإبعاد من فرنسا.
وعبّرت الحكومة الجزائرية عن رفضها للقرار الفرنسي، ووصفه مساعد وزير الخارجية المكلف بقضية الصحراء الغربية والمغرب العربي عمار بلاني، في تصريح صحافي، بأنه «أحادي الجانب وغير متناسب ومحاولة لفرض الأمر الواقع، ناتج عن اعتبارات أحادية الجانب خاصة بالجانب الفرنسي، ويخل بالبعد الإنساني في العلاقات الجزائرية الفرنسية».
واستدعت الخارجية الجزائرية السفير الفرنسي في الجزائر فرانسوا غويات لإبلاغه اعتراضات رسمية على القرار وعدم استشارة الطرف الفرنسي للجزائر قبل اتخاذه، خاصة أنه جاء عشية إيفاد الجزائر لوفد رسمي إلى باريس، لإجراء محادثات مع السلطات الفرنسية بشأن ملف المهاجرين المقيمين غير الشرعيين وإجراء جرد لقائمة بأسماء المعنيين بقرارات الطرد والترحيل من فرنسا، بهدف التثبت من هوياتهم قبل اتخاذ قرار استقبالهم والموافقة على نقلهم إلى الجزائر.
موجة غضب في الشارع السياسي
التجاذب الحاصل الذي شكلت تصريحات ماكرون الأخيرة منعطفاً حاسماً في مساره، دفع بالسلطات الجزائرية إلى إعلان الرئاسة الجزائرية استدعاء سفيرها في باريس للتشاور، وهو القرار الذي تبعه إعلان عن حظر السلطات الجزائرية عبور الطائرات العسكرية الفرنسية التي تقوم بمهام في الساحل الأفريقي عبر مجالها الجوي، وأكدت وكالة الأنباء الفرنسية تطبيق قرار إغلاق المجال الجوي أمام جميع الطائرات العسكرية الفرنسية المتجهة إلى منطقة الساحل في إطار عملية «برخان». وذكرت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية في وقت لاحق أنه «لم يعد يحق لفرنسا التحليق بطائراتها العسكرية في الأجواء الجزائرية، وهو ما كانت تقوم به كجزء من عملية برخان للوصول إلى شمال مالي».
وأكد بيان لاحق للرئاسة الجزائرية «رفض الجزائر القاطع لأي تدخل في شؤونها الداخلية»، معتبرة أن «تصريحات الرئيس الفرنسي حملت مساسًا غير مقبول بذاكرة 5 ملايين و630 ألف شهيد منذ المقاومات الشجاعة للاستعمار الفرنسي وخلال الثورة التحريرية المظفّرة».
وفي المقابل رد الوزير الأول وزير المالية أيمن بن عبد الرحمن، على تصريحات ماكرون على هامش زيارته لولاية وهران قبل يومين، بالقول إن «الجزائر أكبر من كل التصريحات غير المقبولة التي تحاول المساس بتاريخها والمساس بعمق تاريخها وجذوره». وأضاف: «الجزائر أكبر من كل من يصرح بهكذا تصريحات، وهي مردودة على قائلها، ولن نرضى بهكذا تصريحات، الجزائر ضاربة أطنابها في التاريخ؛ اسألوا ماسينيسا والأمير عبد القادر عن عمق الجزائر».
كما رد البرلمان الجزائري على تصريحات ماكرون، بالقول إن «التصريحات لا تُخفي سوى نية لتدخل سافر في شؤون دولة مستقلة كاملة السيادة لها كلمتها ووزنها في المحافل الدولية». واستنكر البرلمان في بيان له «استمرار مستعمر الأمس بالتهجم على تاريخ الجزائر، التي كانت عرضة لمشروع استيطاني وغزو همجي مهول قادته ونفذته قوة إجرامية كادت تظفر بمرادها الآثم، لولا أن أرغمتها عزيمة رجال صادقين على الهزيمة صاغرة مدحورة». واعتبر أن «الحملة ضد الجزائر ليست أكثر من حملة انتخابية استوقدت خطابها الهزيل من مغالطات تعمل على توجيه الرأي العام الفرنسي والتستر على الأزمات الحقيقية التي يعيشها هذا البلد داخليا وخارجيا».
التصريحات الفرنسية أثارت موجة غضب في الشارع السياسي، كما خلفت ردود فعل واسعة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وطالب البعض بضرورة إحياء مشروع تجريم الاستعمار الفرنسي، وهو المشروع الذي تم تجميده على مستوى البرلمان الجزائري.
وفي مساهمة له نشرها عبر صفحته الرسمية في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، وتحت عنوان «تصريحات ماكرون بشأن الجزائر: انتهازية انتخابية ومغالطات تاريخية» يقدم الدبلوماسي الجزائري الأسبق عبد العزيز رحابي تصوراً وتفسيراً لأسباب التهجم الفرنسي الرسمي ضد الجزائر بقوله «من المؤسف أن تكون التصريحات غير المكذبة من قبل سلطة فرنسية بهذا المستوى، حيث تتبنى خطابًا عن الجزائر يتكيف مع كل موعد انتخابي، مما يجعل بلدنا موضوع نقاش متكرر ليصبح مشكلة سياسية داخلية لفرنسا. إذ لا يزال يُنظر إلى الجزائر على أنها زبون وشريك أمني خلال السنوات الأربع الأولى من العهدات الرئاسية، في حين ينظر إليها كفزّاعة خلال السنة الأخيرة، بعدما تم هذه المرة استنفاد روافع أسلمة التطرف من قبل النخب السياسية والإعلامية، بنفس التّوجه، يطرح السّؤال عن الحركي نفسه، إذ يعتبرهم الضمير الوطني الجماعي الجزائري خونة للوطن، كما هو حال الآراء العامة في فرنسا ودول أوروبية أخرى، أين يعتبر المتعاونين مع المحتل النازي أُناساً فقدوا الولاء لأوطانهم».
ويخاطب رحابي الطرفان بقوله «من الواضح بمكان أننا ورثة ذاكرات متناقضة حول هذه المسألة، التي يجب على كل طرف أن يتحمل تاريخه الخاص ومسؤوليته فيما يتعلق بها. لأن المساواة في السيادة بين الدول تتأسس على هذا الشرط الواحد وتبقى أفضل ضمان للعلاقات السلمية التي بحث الرئيسان عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون عليها، بشجاعة وتصميم. يجب إذن أن يظل مسار التحول الديمقراطي في الجزائر مطلبًا داخليًا لأن تدخل القوى الأجنبية، هنا كما في أي مكان آخر، هو عامل تباطؤ وانحراف المسار ذاته أكثر من كونه عنصرًا للتسريع في تجربة التحول الديمقراطي».
مغالطات ماكرون
في هذا السّياق، وبالعودة إلى التاريخ، رد رحابي على مغالطات ماكرون بشأن عدم وجود الأمة الجزائرية تاريخيا بالقول إن «عملية بناء الأمة تشكلت في الوعي الجماعي مع نوميديا العظيمة التي تتزاوج حدودها الغربية مع نهر ملوية بحدودنا الغربية الحالية. لم تبنِ الجزائر هويتها حول المعاناة أو صدمات ما بعد الاستعمار لتظل رهينة ماضٍ استعماريٍ دائمٍ، ولكن بنيت على تاريخ منذ عدة آلاف السنين حول فكرة معينة عن الجزائر، الرخاء المشترك والمصير المشترك. لا يمكن للأمة الجزائرية أن تكون نتاجًا ثانويًا للحقيقة الاستعمارية بل هي نتاج مقاومة نظام الهيمنة بالقوة، بفضل تراث تاريخي مثمر وحركة وطنية ذات حداثة سياسية غير مسبوقة. لقد توحدنا دون أن نكون موحدين في تنوعنا وفي اتساع مساحة الجزائر. هذه هي علامات أمة عظيمة، مهما قيل عنها».
وفي سياق تحليله للخطاب الرسمي الفرنسي يؤكد الكاتب حمزة حدادي لـ«المجلة» بأن «حديث الرئيس الفرنسي الأخير أمام أبناء الحركى وشباب من أصول جزائرية حول العلاقة بين الجزائر وفرنسا هو حديث يعبر عن ألم مستحكم لدى بعض النخب الفرنسية عبّر عنه مرشح الرئاسيات الفرنسية القادمة من خلال الحديث عن ذاكرة الجزائريين بكثير من التبسيط والاختزالية تكرس القراءة الكولونيالية لتاريخ الجزائر وتمارس الدعاية والتضليل أكثر من تقديم الحقيقة أو الاقتراب منها».
لا يمكن برأي حمزة «فهم هذا الألم الفرنسي المستحكم ضد ذاكرة الجزائريين، تاريخهم ومصالحهم، إلا بمتابعة ما يجري لفرنسا في بلدان ما يعرف بأفريقيا الفرنسية، وبالتحديد في الساحل الأفريقي وفي دولة مالي كمثال أوضح، هذا الإخفاق المدوي للعسكر الفرنسي في عمليات برخان عبرت عنه بوضوح مداخلة الوزير الأول المالي في أروقة الأمم المتحدة قبل أيام بمناسبة انعقاد جمعيتها العامة، حينما هاجم فرنسا واتهمها بالتخلي عن التزاماتها تجاه مالي وتجاه محاربة الإرهاب في المنطقة». ويتابع: «كان الرئيس المترشح الذي بدأ عهدته الرئاسية وسط يسار ليتحول في الفترة الأخيرة مقاولا من الباطن لصالح اليمين واليمين المتطرف يراهن على دور جزائري يخدم مصالح فرنسا ويحميها خاصة في مالي. لكن يبدو أن هذا الأمر لم يحصل ولن يحصل، وهو ما جعل الإخفاق الفرنسي في أفريقيا يكون له طعم المرارة، بالإضافة إلى أن هذا الفشل جاء ضمن إخفاق أشمل لتراجع مركز فرنسا في العلاقات الدولية التي أصبحت تقدم كقوة متوسطة تراجع نفوذها في كثير من مناطق نفوذها التقليدية بل أصبحت عبئا حتى على حلفائها الغربيين الذين أضحوا يعقدون الاتفاقيات والمعاهدات دون علم ولا حضور فرنسي مثل ما حصل في صفقة الغواصات النووية الأخيرة، والتحالف المنعقد بين أميركا وبريطانيا وأستراليا».
المحدد الثاني، حسب الكاتب، لمثل هذه الخرجات الدعائية من قبل مرشح الرئاسيات الفرنسية القادمة أن «الرجل ليس له حصيلة اقتصادية وسياسية يقابل بها الناخبين الفرنسيين فاختار مداعبة جمهور اليمين وأن يمارس في خطابه السياسي المقاولة من الباطن لليمين واليمين المتطرف الفرنسي لكسب ود المتطرفين في الانتخابات القادمة».
وفق تقديره، فإن «التعامل ببرودة مع خطاب الألم الذي أعلنه ماكرون والاستمرار في إعادة تكييف علاقات الجزائر الإقليمية والدولية بما يحفظ مصالحها القومية والوطنية أهم من إبداء الغضب على ما قاله ماكرون، ثم إن فرنسا ليست ماكرون؛ قد يكون هو من يمثل الدولة اليوم.. لكنه قد لا يكون غدا والرئيس الفرنسي السابق ساركوزي مثال على ذلك، كما أن التوجهات التي أعلن عنها ماكرون لا تحقق بالضرورة الإجماع لدى النخب الفرنسية التي يمكن للجزائر أن تجد فيها من يدفع باتجاه علاقة جزائرية فرنسية هادئة ومستدامة تحقق الربح للطرفين».
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وبعد عاصفة الانتقادات الجزائرية له، عاد الثلاثاء، ليعبّر عن أمله في انتهاء التوتر الدبلوماسي القائم مع الجزائر قريباً. وقال ماكرون في مقابلة مع إذاعة «فرانس إنتر»: «نرجو أن نتمكن من تهدئة الأمور، لأنني أعتقد أن من الأفضل أن نتحدث بعضنا إلى بعض وأن نحرز تقدماً»، مؤكداً أنه تربطه علاقات «ودية جداً» مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون.
وأعرب ماكرون، وفق «فرانس برس»، عن ثقته بنظيره الجزائري بالقول: «أكن احتراماً كبيراً للشعب الجزائري، وأقيم علاقات ودية فعلاً مع الرئيس تبون»، عازياً التوترات الحالية إلى «الجهود المبذولة في فرنسا حول عمل الذاكرة بشأن حرب الجزائر».
وتمنى ماكرون حصول تهدئة بين فرنسا والجزائر بشأن مواضيع الذاكرة، داعياً إلى السير معاً، مضيفاً: «أتمنى حصول تهدئة لأنني أظن أنه من الأفضل التحاور والمضي قدماً»، داعياً إلى «الاعتراف بالذاكرات كلها والسماح لها بالتعايش» مؤكداً أن «هذه ليست مشكلة دبلوماسية بل هي في الأساس مشكلة فرنسية-فرنسية».