تملك السعودية جميع المقومات التي تحتاجها السياحة الثقافية من تراث كبير للعادات والتقاليد السائدة بين فئاتها المجتمعية، والتي تجذب قطاعا عريضا من السائحين المتعلقين في الفعاليات الأدبية والمعارض والمتاحف الأثرية لمشاهدة ما فيها من آثار والمشاركة في الفنون الشعبية وزيارة الأماكن الدينية المقدسة.
من ذلك المنطلق، دشنت هيئة المتاحف في السعودية، استراتيجية لتطوير قطاع المتاحف بجميع مكوناته ومساراته التنظيمية والتشغيلية، ودعم وتمكين الممارسين والمستثمرين فيه، وذلك لتحقيق أهداف وزارة الثقافة، ومستهدفات رؤية السعودية 2030، في جوانبها الثقافية.
تتواكب خطة هيئة المتاحف مع الاستراتيجية الوطنية للثقافة، ورؤية السعودية 2030، بتحديدها أربعة محاور رئيسية مرتبكة بالناتج الاجتماعي والاقتصادي لقطاع المتاحف، وزيادة مساهمته في مجال الثقافة، وتعزيز الأنشطة التي سيقدمها، مع تطوير الأدوات التي تمكنه من تحقيق مستهدفاته التي تشمل: تنمية المواهب، وتوفير أطر تمويلية، وعقد الشراكات الداعمة، وتيسير التراخيص واللوائح التنظيمية.
تتضمن الخطط إضافة تصنيفات جديدة ومتنوعة للمتاحف السعودية وتأسيس أخرى جديدة تعمل كوجهات ملهمة ومحفزات للمشاركة الثقافية والمجتمعية للمواطنين والمقيمين والزوار بما يحمي التراث الوطني ويعيد تقديمه للأغراض كافة، سواء الدراسة والتعليم والترفيه، مما يعطي المملكة المكانة التي تستحقها على ساحة الثقافة العالمية.
تمتلك السعودية جميع أنواع السياحة الثقافية بداية من السياحة التراثية المرتبطة بالتراث المبني، أو المواقع المعمارية، أو مواقع التراث العالمي، أو النصب التذكارية، أو مواقع التراث الثقافي، والتي تشمل المتاحف، والمكتبات، أو للتعرف على الأدب، والفنون، والتراث الشعبي لمنطقة معينة، وكذلك سياحة المدن المرتبطة بمشاهدة معالم المدن، وسياحة التقاليد مثل التعرف على تقاليد الثقافات المحلية، والتنوع العرقي.
يجمع خبراء السياحة في العالم أن المملكة مؤهلة لسياحة المهرجانات بتنظيم فعاليات ثقافية، أو فعاليات موسيقية، أو الفنون الجميلة، والسياحة الدينية، وطرق الحج، كما أن لديها آفاقا واسعة أيضاً في مجال السياحة الإبداعية المتعلقة بالصناعات الثقافية أو المنتجات السمعية والبصرية لإحدى المناطق، كما يحدث في استعادة حيوانات قديمة مرتبطة بالبيئة وإعادة تقديمها في صورة روبوتات متحركة.
خطط واعدة
تتضمن الخطط السعودية حالياً تطوير المتاحف الموجودة مثل: المتحف الوطني ومتحف قصر المصمك، كما ستعمل على استحداث عددٍ كبير من المتاحف حول مناطق المملكة بحلول عام 2024، بالإضافة إلى عدة متاحف متنوعة الحجم والمعروضات حتى عام 2030.
ويأخذ المتحف الوطني زائريه في رحلة لاستكشاف فنون الصخور من العصر الحجري وحتى الحديث مروراً بتصميمات مباني جدة القديمة من خلال رحلةٍ تفاعلية ساحرة عبر العصور، بجانب حيوانات شبه الجزيرة العربية في عصور ما قبل التاريخ وأهمها الماستودون (حيوان ضخم يشبه الفيل)، بينما يقوم متحف قصر المصمك بعرض مراحل تأسيس المملكة العربية السعودية، وتم افتتاحه عام 1995 في الحي القديم في قلب مدينة الرياض.
وتشمل أولى المتاحف الجديدة التي سيتم إنشاؤها متحف طارق عبد الحكيم في جدة، ومتحف الذهب الأسود في الرياض، كما سيتم تخصيص مكان مؤقت للمتحف السعودي للفن المعاصر في الدرعية، لحين افتتاح المتحف الكبير خلال السنوات المقبلة، ويظهر ذلك الاختيار عمومية الأنشطة الثقافية التي تتضمنها الخطة باختيار قامة موسيقية مثل «عبد الحكيم»، أو حكي تاريخ النفط في المملكة في ظل توجهها حاليًا لتنويع اقتصادها بعيدًا عنه.
طارق عبد الحكيم لحن السلام الوطني السعودي، وغنى له رموز الغناء العربي مثل نجاة الصغيرة وفايزة أحمد وصباح وسميرة توفيق ووديع الصافي وكارم محمود، وحصل على جائزة اليونسكو الدولية للموسيقى من المنظمة العالمية للمجلس الدولي للموسيقى؛ كسادس موسيقي عالمي عام 1981م، وغنى لهيئة الأمم المتحدة في قاعة همرشولد عام 1986م، وأسس فرق الإذاعة والتلفزيون وله أكثر من 300 أغنية وله أكثر من 10 سيمفونيات، سيرته جاذبة لقطاع من المعنيين بالسياحة الثقافية.
و«الذهب الأسود» يمثل أول متحف إبداعي دائم عن النفط، أعلنت عنه وزارة الثقافة السعودية في سبتمبر (أيلول) 2020 ضمن برنامج جودة الحياة أحد برامج رؤية السعودية 2030، ويقام في يوليو (تموز) 2022 بالشراكة مع مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية.
ومن المزمع أن يحتوي متحف «الذهب الأسود» على أكثر من 200 عمل فني معاصر، لفنانين من جميع أقطار العالم، يروون فيها قصة الذهب الأسود ويعكسون من خلالها جميع النواحي التاريخية، والاقتصادية، والجيوسياسية، والمجتمعية، والثقافية التي أسهم بها النفط في حياة الإنسان، وذلك عبر قوالب إبداعية تُعيد تعريف مفهوم المتاحف، بأجوائها غير المألوفة، وعوالمها الغنية بمسارات فنية مختلفة تشمل الرسم، والأزياء، والتصميم، والرسم البياني، والتصوير الفوتوغرافي، والنحت، والأفلام، ونماذج تكشف مهارات ومواهب استثنائية، تمنح الزائر معرفة شاملة بموضوع النفط.
تأتي تلك التطورات في سياق أكبر، فعلى المدى الزمني المتوسط من المقرر افتتاح متاحف رائدة مثل متحف المجمع الملكي للفنون، ومتحف الفنون الرقمية، ومتحف مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي، والأخير بارقة أمل في ظل تدني المستوى الجمالي للخط العربي بكثير من البلدان العربية مع سطوة التعليم الأجنبي، مما أدى إلى تراجع قيمته الفنية كأحد أهم أشكال الفنون، وانعكس سلبًا على فهم وإدراك الأفكار والانتماء الحسي لهوية قطاع من العرب يعيشونها ولا يتقنون التعامل بها.
أطلقت وزارة الثقافة ومديرية الجوازات ختم «عام الخط العربي»، على جوازات سفر القادمين إلى السعودية، بهدف رفع وعي المسافرين بأهمية هذا الخط، وترسيخ الاعتزاز بالهوية والثقافة العربية، ويحمل الختم شعار «عام الخط العربي» مكتوباً بخط الثلث غير المنقوط مترجماً إلى اللغة الإنجليزية لتعريف الزائرين غير الناطقين بالعربية بهذه المبادرة.
تنوع كبير
وإذ كانت المملكة تذخر بآثار تعود لحقبات متباينة، لكنها تسعي لتأطير العصر الحالي عبر متحف الفنون الرقمية وهو عبارة عن متحف للفنون الرقمية يستخدم أحدث التقنيات لإنشاء مساحات تفاعلية، ويضاهي المتاحف الشبيهة في اليابان والولايات المتحدة الأميركية، ووفقاً للمجلس الدولي للمتاحف فإن تلك النوعية من المتاحف هي مؤسسات خدمية للمجتمع، تكتسب وتحافظ وتبحث وتتواصل وتعرض تراث الإنسانية الملموس وغير الملموس وبيئته لأغراض التعليم والدراسة.
وتتضمن الأهداف الاستراتيجية لتطوير المتاحف 12 هدفاً أهمها المؤسسات ومجموعات المقتنيات وتعزيز قيمة المحتوى التراثي القائم، وتوسيع نطاق انتشار المتاحف بالاستعانة بمؤسسات عالية الجودة، وزيادة معدلات زيارة المتاحف بين السكان والسياح، وزيادة الميزانية العامة للقطاع وتحسين كفاءة الإنفاق، لكن لا يمكن عزلها عن النهضة التي تشهدها الثقافة السعودية منذ إطلاق وزارة الثقافة قبل ثلاث سنوات، والتي حددت 16 قطاعًا فرعيًا تتركز عليها جهودها وأنشطتها، وفي مقدمتها: التراث، والمتاحف، والمواقع الثقافية والأثرية.
تعتزم المملكة تأسيس أكبر متحف إسلامي في العالم يُبنى وفق أرقى المعايير العالمية في الجمع والحفظ والعرض والتوثيق، والأنشطة الثقافية المختلفة ليأخذ المتحف زواره في رحلة متكاملة عبر عهود الحضارة الإسلامية المختلفة التي انتشرت في جميع أنحاء العالم، بشكل عصري وتفاعلي وباستخدام التقنيات المتقدمة، وسيضم أقساما للعلوم والعلماء المسلمين، والفكر والثقافة الإسلامية، ومكتبة ومركز أبحاث على مستوى عالمي.
ويتكامل المتحف السعودي الكبير مع المصري الكبير الذي يتم تدشينه بحي الجيزة جنوب القاهرة حاليًا، فكلاهما يتسمان بالضخامة والتنظيم الجيد، لكن مع التركيز على قطاع من السياحة، فالمملكة تركز على السياحة الدينية، بينما مصر مهتمة بمتحفها الضخم للحضارة الفرعونية، ويحقق المتحفان معا للزائر المعلومات الكاملة حول نطاق تخصصهما.
وتشهد مصر أيًضا اهتماماً كبيراً بالمتاحف، وافتتحت قبل شهور 3 متاحف جديدة في 3 محافظات مختلفة، هي متاحف شرم الشيخ وكفر الشيخ والمركبات الملكية بالقاهرة، لإبراز معالم الحضارة عبر العصور التاريخية المختلفة، كما تولت تطوير عدة متاحف في الوقت ذاته، بينها المتحف القومي للحضارة المصرية الذي يضم كل مظاهر الثراء والتنوع التي تمتعت بها الحضارة المصرية خلال مختلف العصور بدءاً من عصور ما قبل التاريخ وحتى الوقت الحاضر.
ويمكن للبلدين، اللذين اتفقا أخيرًا على التعاون بينهما في المجال السياحي، تنظيم رحلات مشتركة بينهما، بحيث يستكشف السائح جزءا من الحضارة المصرية القديمة، قبل أن ينتقل إلى المملكة ليتمتع بروحها الدينية والمعالم الأثرية التي تحكم رحلة الإسلام منذ ظهوره وحتى انتشاره في جميع أنحاء العالم.
مبادرات متنوعة
ودشنت وزارة الثقافة السعودية 27 مبادرة أهمها مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، والآداب والفنون، والمتاحف المتخصصة، والأرشيف الوطني للأفلام، وتوثيق التراث الشفاهي وغير المادي، والمهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، بجانب إنشاء 11 هيئة ثقافية جديدة تتولى مسؤولية إدارة القطاع الثقافي السعودي بمختلف تخصّصاته واتجاهاته، وتكون كل هيئة مسؤولة عن تطوير قطاع محدد وتتمتع بالشخصية الاعتبارية العامة والاستقلال المالي والإداري وترتبط تنظيميًا بوزير الثقافة، قي مقدمتها هيئة المتاحف.
واعتمدت هيئة التراث تسجيل 624 موقعًا أثريًا جديدًا في السجل الوطني للآثار، خلال الربع الأول من العام 2021، ليصل مجموع المواقع الأثرية التي تم تسجيلها في السجل منذ إنشائه 8176 موقعًا بمختلف مناطق المملكة. وعمدت هيئة التراث إلى ابتكار مفهوم «سجل الآثار» لتوثيق الآثار الثابتة والمنقولة والمواقع التاريخية وقطع التراث الشعبي.
وقد ابتكرت الهيئة مفهوم «سجل الآثار»، وهو عملية تقنية لتوثيق الآثار الثابتة والمنقولة والمواقع التاريخية وقطع التراث الشعبي بالاعتماد على استمارة جمع المعلومات، مكونًا بذلك سجلًا رقميًا للآثار الوطنية، ومرتبطًا بخريطة أثرية رقمية، حيث يشتمل السجل على معلومات تفصيلية وخرائط وصور وتقارير عن المواقع الأثرية والتاريخية المسجلة.
وقد بدأت السعودية في الاستثمار السياحي والثقافي للمواقع الأثرية العريقة مثل «العلا» التي تحتضن إرثًا حضاريًا يمتد إلى 7000 عام، حيث أنشئت «الهيئة الملكية لمحافظة العلا» التي تتضمن مواقع الحِجر وجبل عِكمة ومملكة دادان، التي يجري فيها فريق من علماء الآثار عمليات تنقيب واسعة لاستكشاف المزيد عن هذه الفترة الزمنية الغامضة من التاريخ البشري فيها.
ويمكن للسائح خلال زيارة لموقع الحِجر التعرف على تجربة فريدة يكتشف خلالها أسلوب الحياة النبطية القديمة، وتسلط الزيارة الضوء على أهم المواقع الأثرية بالحِجر مثل مدفن لحيان بن كوزا، وجبل إثلب، والديوان، والجبل الأحمر والبئر، ومدينة دادان القديمة عاصمة إمبراطورية دادان ولحيان وأكثر المدن تقدمًا خلال الألفية الأولى ما قبل الميلاد.
ومن أهم إنجازات الوزارة تسجيل موقع «آبار حمى» التي تعد من أهم المواقع الأثرية في منطقة نجران التي تعد من أهم المواقع الأثرية في نجران، وهي طريق يمتد بين 6 آبار صخرية، كانت تمر من خلالها القوافل التجارية القادمة من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها، للتزود بالماء من الآبار خلال السفر، وهي من أهم مواقع الرسوم الصخرية، كما يوجد فيها أكثر من 13 موقعاً يحتوي على رسوم لمناظر رعي وصيد، ورسوم لأشكال آدمية رسمت بأكبر من الحجم الطبيعي، يلبسون فيها غطاء على الرأس، ويرتدون عقودا ويمسكون الأسلحة، وهناك رسوم لسكاكين وأنصال، ورسوم لرقصات مع آلات موسيقية وغيرها.
ويقول الدكتور رشاد عبده، أستاذ الاقتصاد بمصر، إن دمج الثقافة مع السياحة لها العديد من الآثار الإيجابية، من بينها تعزيز نمو الاقتصاد المحلي، وخلق فرص عمل جديدة، سواء بصفة مستمرة أو موسمية ما ينعكس على الحياة الاجتماعية للأفراد ويحل مشكلات معقدة كالبطالة.
وأضاف عبده أن اهتمام المملكة بمقوماتها السياحية أحد الجوانب الأساسية في اقتصاد ما بعد النفط، وضمن خطة طموحة وواعدة لرفع مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي من 3 إلى 10 في المائة والعمل على استقبال 100 مليون زيارة بحلول عام 2030، لتصبح السعودية من بين أكثر خمسة دول تستقبل السياح على مستوى العالم.
وتابع أن المملكة معنية حاليا بتطوير جميع مقوماتها في آن واحد؛ فبجانب السياحة الثقافية والدينية، تدشن مشروعات ضخمة في مجال السياحة الترفيهية في مقدمتها بناء منتجعات بنحو 50 جزيرة تقع قبالة سواحل المملكة على البحر الأحمر بدعم من صندوق الاستثمارات العامة الذي يتضمن أنشطة الغوص لاستكشاف الشعاب المرجانية ما يعني أن السعودية ستكون قادرة على اجتذاب جميع أنواع السائحين.
وقال عاطف عبد اللطيف، الخبير السياحي ورئيس جمعية «مسافرون»، إن السياحة الثقافية تتسم باستقبالها نوعيات من السائحين مرتفعي الإنفاق كما أنها الأقل ضررا للبيئة مما يجعلها أحد محاور التنمية الاقتصادية حاليا للدول التي تستقبل السياحة، لكنها تحتاج في الوقت ذاته لفرق عمل لديها القدرة على شرح التاريخ وإبراز التراث وتوضيحه للزائر بلغة أجنبية يفهمها.
وأوضح عاطف عبد اللطيف أن السياحة الثقافية تقوم في المقام الأول على جمع المعلومات واكتساب الثقافات والخبرات الجديدة، ولذا أصبحت المتاحف العالمية حاليا مهتمة بوجود وسائط متطورة ومواد تفاعلية تشرح تطورات التاريخ وتضع الآثار المعروضة ضمن سياق بيئتها الأصلية من أجل الوصول إلى سائح إيجابي لا يكتفي فقط بالمعرفة ولكن يتحول لوسيلة دعاية مستقبلية للمقصد السياحي المحلي.