فجرت احتجاجات الربيع العربي معظم التناقضات الكامنة في أحشاء المجتمعات العربية، والتي كانت الأطراف المتضررة منها غير قادرة على التعبير صراحة عما تشعر به من غبن، وعن مواقفها مما كانت تتعرض له من تهميش وإقصاء؛ وذلك لأسباب عديدة، أهمها:
* الخشية من آلة القمع التي كانت بعض الأنظمة الاستبدادية لا تتردد في ممارستها ضد من يعارضها.
* الخوف من مغبة رميها بتهمة المساس بـ«الوحدة الوطنية»، وأحيانا بالعمالة لقوى أجنبية.
إن التناقضات الاقتصادية والاجتماعية رغم تأثيراتها السلبية، وتحدياتها الأمنية لم تمثل أبدا خطرا وجوديا على أي دولة. فهي ظاهرة مشتركة بين جميع بلدان العالم، ومعظم أشكال التعبير عنها تكون بوسائل سلمية كالإضرابات العمالية، والوقفات التضامنية وغيرها؛ فيما التناقضات الإثنية رغم حدتها أثبتت تجارب عالمية عديدة بما فيها تجارب عربية إمكانية تسويتها من خلال منح المناطق المعنية استقلالا إداريا موسعا، أو حكما ذاتيا يلبي طموحات الساكنة في الحفاظ على هويتها العرقية واللغوية إن وجدت.
لهذا فإن التناقضات الدينية ولا سيما المذهبية بين السنة والشيعة في العالم العربي كانت وما تزال أخطر التناقضات التي طفت بحدة على السطح في الصراعات المحتدمة على السلطة بعد الربيع العربي، لأنها أصلا صراعات دموية وثأرية عبر التاريخ، موغلة في الحقد والكراهية؛ الأمر الذي يجعلها دوما سهلة الاختراق من القوى الدولية والإقليمية الراغبة في توظيفها لتحقيق مصالحها وتعظيم مكاسبها في المنطقة.
بدا هذا التوظيف الخارجي جليا عند إطاحة أميركا بنظام صدام حسين في العراق، وذلك عندما صاغ بول بريمر الحاكم الذي عينته واشنطن رئيسا للسلطة المؤقتة في بغداد دستورا يحابي الطائفة الشيعية بشكل أجج غضب ونقمة الطائفة السنية، التي وجدت نفسها بين عشية وضحاها مهمشة، متهمة في وطنيتها، ومعرضة لكل أنواع الحيف والتعسف.
وإذا كانت السياسة الأميركية قد استهدفت بث عوامل الفرقة وتغذية الصراع المذهبي بين مختلف مكونات المجتمع العراقي، فإن السياسة الإيرانية منذ نجاح ثورة الخميني في استلام السلطة بطهران عملت على استغلال العامل المذهبي لتوسيع نفوذها في المنطقة، وخلق متاعب للدول المجاورة من خلال تأليب سكانها الذين ينتمون للمذهب الشيعي عليها.
إن تسلل نظام الملالي في طهران إلى الأقليات الشيعية جعفرية وزيدية ونصيرية وغيرها في المنطقة العربية تم من خلال تسويق صورة له كمدافع عن القيم والمقدسات الإسلامية وعن الفئات «المستضعفة»، ناهيك عن دغدغة المشاعر بادعاء العداء السافر للدول التي ينعتها بقوى الاستكبار العالمي، وخاصة أميركا وإسرائيل، فضلا عن استخدام أسماء رموز دينية لتسمية الوحدات العسكرية، وللتعريف بالعمليات التي تنفذها تلك الوحدات.
وبالفعل فمن خلال سياسة خارجية نشطة مستندة على فتاوى مذهبية متزمتة وتوفير دعم مالي وعسكري سخي تمكنت طهران من تقوية جماعات شيعية موالية لها في عدة دول عربية وإيصالها إما إلى الاستيلاء على السلطة مثلما هو حاصل في اليمن وإلى حد كبير في العراق، وإما إلى التحول إلى رقم صعب في معادلة الحكم كما هو الشأن مع حزب الله اللبناني، الذي لا يمكن اتخاذ قرارات دون موافقته أو على الأقل مباركته. كما استطاعت عبر وضع كل إمكانياتها العسكرية وميليشياتها المتعددة رهن إشارة النظام السوري في مواجهة الثورة الشعبية ضده ليس فقط ترسيخ سطوتها في دمشق، وإنما إتمام هلالها الشيعي في المنطقة وتأجيج صراعاتها المذهبية لتقدم نفسها فيما بعد كحامية للأقليات وسط أغلبية سنية تمت شيطنتها.
ولم يكن بالإمكان استقطاب أكثرية أتباع المذهب الشيعي للأطروحات الإيرانية لو لم يتمكن الخميني من تطوير الفكر السياسي الشيعي وإقناع أبناء الطائفة بأهمية اعتناق نظرية ولاية الفقيه القاضية باعتبار المرشد الأعلى نائبا عن المعصوم إلى حين ظهور هذا الأخير، بدلا من البقاء متقوقعين على أنفسهم أسرى انتظار عودة الإمام الغائب، وهو الانتظار الذي يحرم الممارسة السياسية على الشيعة ويمنع تأسيس أي تنظيم سياسي في عصر الغيبة نظرا لافتقاد من يقوده لشرطي العصمة والنص حسب أصول الفقه الشيعي.
لهذا، فإضافة إلى المواجهة السياسية والدبلوماسية وأحيانا الأمنية والعسكرية لأطماع التوسع الإيرانية ينبغي فتح المواجهة الفقهية داخل المذهب الشيعي نفسه، وضرورة استرجاع هيبة عروبة مراجع التقليد. فالمذهب الشيعي عربي المنشأ والأصول تمحور حول فكرة أحقية الإمام علي بن أبي طالب في خلافة الرسول الكريم باعتباره ابن عمه وزوج ابنته وأول من آمن برسالته. وقد استمرت الإمامة بعده عربية خالصة ممثلة في ذريته.
وكما يلاحظ، فإن التشيع بدأ كموقف سياسي مؤقت. ولم يبدأ في التبلور تنظيميا إلا بعد تمرد الوالي معاوية بن أبي سفيان على خلافة علي متهما إياه بالتحريض على اغتيال الخليفة عثمان بن عفان. وقد واكبت هذا الموقف السياسي حركة فكرية وفقهية قادها أئمة عرب من آل البيت بدأت مع الإمام علي زين العابدين، وتطورت مع الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق. فالإرث الشيعي هو جزء لا يتجزأ من تاريخ العروبة أخطأ نظام صدام حسين في حقه حين حارب مرجعية النجف لينتقل الثقل الفقهي للمذهب إلى قم الإيرانية.
إن المواجهة لن تكون سهلة، ولكن إرهاصات جديرة بالتتبع والدعم إن أمكن من شأنها وضع اللبنة الأولى لاسترداد عروبة المذهب. إرهاصات تجسدها مراجع تقليد عربية بدأت تظهر على الساحة فقهيا وسياسيا مثل آية الله محمود الحسني الصرخي، الذي سبق وأن جاهر برفض الغزو الأميركي للعراق، وبتمدد النفوذ الإيراني فيه، ولم يتردد في الدعوة إلى إقامة دولة مدنية في البلاد احتراما لتنوعها العرقي والديني.