تونس:وردت عبارة «الثورة الثقافيّة» في خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيّد بعد أداء اليمين الدستورية، وقد كان «خطاب قِيَم» أتى في مرحلة تعرف فيها السياسة وإدارة الشأن العام تطبيعًا غير مسبوق مع الفساد، وقد بات سوسًا ينخر أهمّ دعامات التجربة الجديدة.
وإلى جانب التلقّي الإيجابي للعبارة لورودها في كلمة تستعيد مرجعيّة الثورة وأهدافها في أعلى مؤسسات الدولة وأقواها رمزيّة عند التوانسيين، انطرح سؤالٌ مهمٌّ كان يجب أن يطرح حول «الثورة الثقافيّة»:
ما هي رؤية الفنان والمثقف للواقع السياسي التونسي وكيف يسهم في إثراءه؟
السياسي هو عابر سبيل لكن الفنان هو من يبقى
هذا ما عبر عنه الفنان والمثقف العربي لطفي بوشناق في حواره الخاص مع «المجلة» معتبرا ان الفنان يجب أن يولي انتماءه فقط للفن، وان مفهومه للسياسة «في ان لا يكون لك عدوّا ابديا ولا صديقا أبديا».
الثورة الثقافيّة ليست حدثًا يتم الإعلان عن تحقّقه أو الإخبار عن انطلاقه، وإنّما هي حالة شاملة من الصعب تحديد بدايتها ويبلغها المجتمع عبر تحولات طويلة الأمد تمتدّ إلى منظومة التقاليد ونظام العلاقات الاجتماعيّة والفنون والآداب والمؤسسات وهويّة الانتظام السياسي. وغير هذا لا يعدو أن يكون قرارًا سياسيًا قد يكون إحدى المقدّمات المهمّة للثورة الثقافيّة. وهذا ما حاولنا تبيّنه من الشارع التونسي، غير ان البعض لديهم رأي آخر.
إذا ان بعض المثقفين يعتبر ان شعلة الثورة الثقافية أضرمت من مهرجان الياسمين- رادس،هذا ما عبرت عنه الشاعرة التونسية ليلى بالمكي معتبرة ان بن علي الرئيس السابق هو قائد هته الثورة.
كن صادقا، أحب الناس لي من أهداني عيوبي
مسرحية رؤوف بن يغلان «نعبّر ولا ما نعبرشي »، مسرحية مليئة بالنقد حسب تعبيرها، و تقول ليلى بالمكي ان النقد ليس بالأساس كرها موجها أو ضغائن يحملها الفنان تجاه السياسي، ولكنها أداة للتعبير عن رأي يمثل فئة من المجتمع، ذاكرة ان زميلها الفنان الناقد رؤوف بن يغلان هو من أشد الناس حبا لتونس وحبا للرئيس الراحل زين العابدين بن علي ولكنه كان صادقا في تعبيره عن فنه، وصادقا في حبه للرئيس الراحل لذلك اختار ان يوجه رسائله عبر فنه للمنظومة الحاكمة بصدق وتجرد وموضوعية، مستشهدة بالمقولة الفرنسية: "laisser nous parler دعونا نتكلّم او «نعبّر».
هنالك إجماع بأن شيئاً ضاع على طريق السنوات العشر هذه
تدفقٌّ عفويّ جرى إهداره في المعارك الجانبية والمتاهات الصغيرة والعنف المجّاني وتفخيخ الحلول الممكنة.
للتونسيين أن يتذكروا بينهم وبين أنفسهم - كما في صلاةٍ - زخَمَ الأيّام الثورية، حين تناثرت الأحلام على الطرقات والساحات، في نقاشات لم تكن تهدأ، أو الشعارات المرفوعة، والتي كُتبت بعُجالة وعفوية، حول العدل والحرية والكرامة. تحدّث بعضهم عن إعادة بناء الدولة من أساساتها، وراح بعضٌ آخر يحلم بالعودة إلى التاريخ، وفتح الطريق من جديد إلى الأمة العربية. ما الذي تغير بعد ذلك؟
حدث كلّ شيء بسرعة: احتجاجات، مطالب، انتخابات، اغتيالات... حالةٌ من الركض المتواصل مع الأحداث غلّفت الأيام. لم تستمرّ متعة الشعب بالحدث الثوري، فذوت نكهته تدريجياً، ولم تكن هناك بوصلة تهدي في المنعرجات.
مَسْكُ هذه البوصلة هو دور اجتماعي يُفترض أن تتهيّأ له فئة بعينها: جماعة المثقّفين. لم يذهب كثيرون للعب هذا الدور. يظهر اختلال سريع حين يتعطّل أحد الأدوار في الإيكولوجيا الاجتماعية التي لا تحتمل أن تتوقّف خدمات الأمن والغذاء والتربية وغيرها، لكن انعكاسات توقّف الخدمة الفكرية والرمزية تظهر بعد حين..
كثيرة هي الأسماء التي ظهرت واتّخذت لها مواقع في الخريطة الإبداعية، بل فتح بعضُها طرقاً غير معبّدة، واشتغل بعضٌ آخر في صمتٍ، لا يهمّه إن بقي غير مرئيّ. ذلك أنّ الجميع فهم، مع ضمور وهج الثورة ورمزيتها، أنّ أجهزة الدولة ستظلّ المحرّك الرئيسي للحياة الثقافية، ليذهب بعضٌ للاستفادة من الوضع القائم، ويوغلَ آخرون في مغامراتهم.
كانت الثورة كنقطةِ لا عودة في وعي الحريّة في تونس. هذا المعطى كافٍ لإخصاب الثقافة في انتظار عوامل أخرى، معظمها لم يأت. يبقى أن القليل أفضل من لا شيء. تجلّت ثمار الحريّة مثلاً في انفتاح الإعلام، بما هو ضمانة لجميع القيم الاجتماعية التي آمن بها الناس، فظهرت عشرات العناوين الصحافية منذ 2011، وعدد من الإذاعات والتلفزيونات، ولكنّها انهمكت في اليوميّ والصغائر ولم تقدّم خدمات ٍملموسةً لطموحات الشعب الأولى. وبعد سنتين، ستبدو الصحافة (المكتوبة خصوصاً) مثل مشهد الأسماك التي تطفو ميّتةً في بحر ملوّث بزيوت الباخرات والمصانع. لكن هل ماتت الأسماك بسبب تلوّث البحر أم لقلّة مناعتها؟