اليوم، يعود الاهتزاز الاقتصادي ليضرب تركيا، بالتزامن مع الاهتزاز السياسي الذي تشهده علاقات تركيا بالدول المحيطة بها، وتحديدا مع الدول العربية التي كانت تشكل سوقا استراتيجية للبضائع التركية، وملاذا واعدا للاستثمارات العربية. فقد فقدت تركيا 30 في المائة من قيمة عملتها في أقل من سنتين، فيما ارتفع سعر صرف الدولار من 1.4 ليرة تركية عام 2009الى نحو 2.7 حاليا.
وقد فرض الوضع الاقتصادي نفسه، نجما في الحملة الانتخابية، التي انطلقت في البلاد استعداد للانتخابات التشريعية في يونيو (حزيران) المقبل، حيث تركزت معظم الوعود على الوضع الاقتصادي الذي تأمل المعارضة التركية على الوصول من خلاله إلى السلطة، تماما كما بقي فيه الحزب الحاكم طوال السنوات الماضية.
وقد بدأ بازار الوعود الانتخابية مع إعلان زعيم أكبر أحزاب المعارضة التركية كمال كليتشدار أوغلو أن حزب الشعب الجمهوري سوف يرفع الحد الأدنى إلى الأجور إلى 1600 ليرة تركية (نحو 600 دولار) وأنه سوف يلغي الديون المستحقة على صغار المقترضين، فيما ذهب زعيم حزب ديمقراطية الشعوب الكردي إلى حد الوعد برفع الحد الأدنى إلى 1800 ليرة. أما رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو فقد وعد بإجراء «تحولات شاملة وواسعة في 25 مجالاً مختلفًا». وقال: «هدفنا هو إيصال إجمالي الناتج المحلي خلال السنوات الأربع المقبلة، أي حتى نهاية عام 2018، إلى 1.3 تريليون دولار أميركي، وخفض العجز الحالي إلى 5.2، وخفض نسبة البطالة إلى نحو 7 في المائة». وأشار داود أوغلو إلى أن «خطط العمل وبرامج التحول القطاعية ليست عبارة عن أمنيات. وأن حكومته لم تتعهد بأي عمل ثم تركته على قائمة الأمنيات»، قائلاً: «إن هدفنا رفع نسبة مساهمة الصادرات مقارنة مع الواردات؛ إلى أكثر من 70 في المائة عام 2018».
البنك الدولي يترقب زيادة نمو الاقتصاد التركي
وبعيدا عن السجال الداخلي، لا تبدو الأرقام التركية مشجعة، فقد حذر البنك الدولي من حالة الغموض بسبب الانتخابات البرلمانية. وأوضح البنك الدولي أنه يترقب زيادة نمو الاقتصاد التركي بمعدل 3 في المائة مع نهاية عام 2015. كما أعلن عن توقعاته بشأن عام 2016. وقال إن معدل النمو قد يبلغ 3.9 في المائة، فيما يتوقع أن يبلغ 3.7 في المائة عام 2017. ورأى أن «السرعة في تنفيذ الإصلاحات الهيكليّة من أجل إعادة تأسيس الثقة أمر بالغ الأهمية». وكانت هذه الأرقام مخيبة للآمال التركية، بعد أن كانت نسبة النمو وصلت إلى 9 في المائة في السنوات الماضية. وبدورها ارتفعت معدلات البطالة التي وصلت إلى 10.7 في المائة في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وهي أعلى نسبة منذ أربع سنوات، أما معدل البطالة بين الشباب فوصل إلى 20 في المائة.
وتعود بعض أسباب تراجع الاقتصاد التركي إلى الوضع الاقتصادي الدولي، حيث قرر البنك المركزي الأميركي وقف العمل بشراء السندات. وقد دفع هذا الإجراء المستثمرين إلى سحب الذهب من تركيا ووضعه في الولايات المتحدة آملين في رفع نسبة الفائدة عليه هناك. ويقول أستاذ الاقتصاد في جامعة مرمرة التركية البروفسور إبراهيم أوزترك لـ«المجلة»، إنه من الممكن تقييم الوضع الاقتصادي التركي من خلال المؤشرات الاقتصادية، حيث إن الاقتصاد التركي يتراجع بسبب تراجعها، حيث وصل النمو الاقتصادي عام 2014 إلى مستوى 3 في المائة، بالإضافة إلى عدم تفاؤل حول نسبة النمو التي ننتظرها عام 2023، أي في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية.
ويرى أوزترك أنه كان يجب على تركيا في ظل انخفاض نسبة النمو ألا يكون لديها عجز في التجارة الخارجية، أي بين الصادرات والواردات، ولكن حسب المعطيات الاقتصادية لعام 2014 فإن العجز في الميزانية وصل إلى نسبة 5.7 في المائة من مجموع الدخل القومي، مشيرا في المقابل إلى أن نسبة التضخم في دولة انخفض بها النمو مثل تركيا مرتفعة جدا، حيث وصل إلى أكثر من 8 في المائة، فيما أن متوسط التضخم في الدول التي يشبه اقتصادها ونموها اقتصاد تركيا هو 4 في المائة، وهذا يعني أن تركيا يوجد بها تضخم ضعف الدول الشبيهة، وهذه ظاهرة لم نرها في الماضي وتعتبر الأولى في تركيا.
ويشير أوزترك إلى أن تركيا لم تستفد من انخفاض أسعار الطاقة في العالم. ويقول: «كان يجب على الاقتصاد التركي أن يشهد ازدهارا، ولكن ما حصل هو العكس». ويوضح أنه إلى جانب تراجع النمو يوجد عجز كبير في الميزانية للدولة، ولهذا قامت الحكومة لتغطية هذا العجز باستصدار ضرائب ورفع نسب الضرائب التي تجنيها من المواطن، مما أدى إلى انخفاض القوة الشرائية.
تراجع العلاقات التركية العربية
ويقول أوزترك أنه رغم أن تركيا تتمتع بمميزات هائلة جدا لرفع الاقتصاد مثل القوى العاملة الشابة، فإن المستثمر الأجنبي لا يأتي، مشددا على أن الرأسمال الأجنبي لعب خلال السنوات العشر الماضية دورا مهما وكبيرا في ارتفاع نسبة النمو الاقتصادي. ويقسم أوزترك الرأسمال الأجنبي ينقم إلى ثلاثة أقسام: رأس المال المستثمر في السندات، ورأس المال الذي يستثمر لزمن طويل، وهذا توقف تماما، والجزء الثالث الأموال التي تبحث عن فوائد بنكية مرتفعة، وهي أيضا بدأت في الرحيل عن تركيا وتتوجه إلى دول أخرى». ويوضح أن تركيا تعتبر من أكثر الدول المستدينة في العالم، حيث إن نسبة الدين الخارجي لتركيا نحو نصف الدخل القومي، كما أن الليرة التركية فقدت في فترة قصيرة من الزمن 30 في المائة من قيمتها فإن المستثمرين رغم عدم تصديرهم لبضائعهم يفكرون كيف سيفون بديونهم للمؤسسات التي أقرضتهم بالدولار، متوقعا أن نرى في القريب العاجل موجة كبيرة من الشركات التي ستعلن إفلاسها فقط نتيجة ارتفاع أسعار الدولار.
ويحذر أوزترك من قيام المسؤولين بمحاولة إخفاء تراجع الوضع الاقتصادي في فترة ما قبل الانتخابات عبر تغطية العجز بالمزيد من الاستدانة، ما قد يؤدي إلى تدهور في الوضع الاقتصادي التركي بعد الانتخابات.
وفي مقابل العوامل الاقتصادية، تبدو العوامل السياسية أكثر حضورا، فتراجع العلاقات التركية العربية انعكس على الصادرات التركية، كما انعكس بشكل أكبر على الاستثمارات العربية في تركيا، بالتزامن مع رحيل رؤوس الأموال الغربية نتيجة الاضطراب السياسي الداخلي الذي عاشته البلاد خلال السنتين الماضيتين.
وبعد أن تعرض خط الترانزيت التركية لضربة أولى في العام 2011 مع اندلاع الحرب السورية، والاضطراب في العراق، ما منع الشاحنات التركية من الوصول إلى الخليج العربي، وأقفلت السوق السورية والعراقية بوجه بضائعها، أتت الأزمة مع مصر في عام 2013 لتزيد الأمور تعقيدا. ومع فسخ مصر للاتفاقية التجارية للخط الملاحي «الرورو» مع تركيا في نهاية الشهر الماضي، يضطر المصدِرون إلى عبور قناة السويس بدلا من استخدام الطريق البري لنقل البضائع إلى دول الخليج، ما سيؤدي إلى زيادة التكاليف بنسبة 40 في المائة.
ومن خلال استخدام خط الرورو مع مصر كانت البضائع تُحمَّل عبر الحاويات من ميناءي مرسين والإسكندرون وتنقل إلى مصر من خلال سفن «رورو» ومن ثم تنقل برا إلى البحر الأحمر لتصل بعد ذلك إلى موانئ الخليج.