القاهرة: طغى الدور المصري على المشهد السياسي الليبي، لا سيّما بعد إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي دعم بلاده للجيش الليبي، عقب لقاء جمعه مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عبد الحميد الدبيبة في القاهرة. وفتح ذلك المجال للتساؤلات حول مدى تأثير الدور المصري إيجابيا، في تهيئة الأوضاع للوصول إلى حلول للأزمة الليبية، خاصة في ظل انتهاج مصر لسياسة جديدة مفادها التواصل الجدي مع جميع أطراف الأزمة. وقد جرت لقاءات لمسؤولين مصريين متواصلة مع قيادات الداخل الليبي، سواء القيادات المحسوبة على الشرق الليبي (خليفة حفتر، وعقيلة صالح )، أو قيادات من الغرب الليبي ممثلة في رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة. كما حصل تنسيق مصري ليبي، من خلال أعمال اللجنة المصرية الليبية المشتركة، والتي أسفرت مؤخرا عن توقيع 13 مذكرة تفاهم وعقود تنفيذية.
هذا ما أثار تساؤلات حول الدور المصري في توفيق الأوضاع داخل ليبيا، وحول وضع مصر لخطوط حمراء أمام أحد أهم اللاعبين الإقليميين في ليبيا، الجانب التركي؛ لا سيما أن الخط الأحمر «السابق»الذي وضعته مصر ممثلا في خط «سرت- الجفرة» كان موضوعا في مواجهة الجانب التركي. فهل ستضع مصر خطوطا جديدة أمام تركيا؟ خاصة بعد حدوث تقارب مؤخرا بين الجانبين، والذي عبرت عنه الاجتماعات الاستكشافية التي تتم بواسطة مساعد وزير الخارجية المصري حمدي لوزا، ومساعد وزير الخارجية التركي، والتي يسعى الطرفان من خلالها، إلى إحداث نقطة التقاء بينهما تحقق مصالح الطرفين سواء في الأزمة الليبية، أو في منطقة شرق المتوسط، وبقية المساحات والقضايا المشتركة بينهما. وما هي إمكانية وصول حكومة الدبيبة والأطراف الليبية في الغرب الليبي إلى حالة من التفاهمات مع قيادات الشرق الليبي التي تسيطر على أكبر مساحة من الأراضي الليبية الممثلة في الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح؟ لا سيّما أن هذا يمكّن جميع الأطراف من الوصول إلى الاستحقاق الآني الأهم وهو إجراء الانتخابات الرئاسية الليبية المزمع إجراؤها في الرابع والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، في ظل رفض المجلس الأعلى للدولة الليبية لقانون الانتخابات الصادر عن مجلس النواب، والذي يعطي الحق في ترشح العسكريين للانتخابات؛ وهو ما اعتبره المجلس بمثابة «فيزا»لترشح المشير خليفة حفتر للرئاسة، وهو ما دفع المجلس للمطالبة بتأجيل إجراء الانتخابات، ما قد ينعكس سلبا على جميع الجهود الراغبة في إحداث انفراجه تتيح حل الأزمة الليبية.
خطوات مهمة لبناء الثقة
غيّرت مصر تموضعها بصورة كبيرة بين طرفي الصراع، كما غيرت نظرتها إليه جذريا؛ لكنها ما تزال تظهر اهتماما كبيرا من خلال دعم وتأييد الجيش الليبي باعتباره مؤسسة فنية مختصة بتحقيق الأمن القومي الليبي وشريك أساسي بتحقيق الأمن القومي الإقليمي الذي تعد مصر جزءا لا يتجزأ منه، خاصه أن مؤسسة الجيش الليبية ما تزال تحتاج إلى رعايه صديقة من جانب مصر حتى لا تتعرض لمواجهة جديدة مع الغريمين المتربصين ( الحكومات الغربية، وعلى رأسهم حكومتا الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا)، وكذلك الإرهاب الذي يطلب رأسها بشده؛ بحسب الكاتب والمحلل السياسي الليبي عز الدين عقيل الذي أكد في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، أن مصر ترى أن فرصة النظام السياسي الذي صنعته المبعوثة الأممية إلى ليبيا ستيفاني ويليامز يمكنها أن تثمر سلاما ولو تمهيديا مناسبا في ليبيا شرط تعاون كافة الأطراف الأجنبية المتدخلة في الشأن الليبي وعلى رأسها مصر نفسها. و«لهذا قامت مصر بالانفتاح على الطرف المسيطر على غرب البلاد. واتخذت عدة خطوات مهمة في هذا الخصوص لبناء الثقة وتبادل الزيارات مع هذا الطرف، والتى كان أهمها إعادة فتح السفارة المصرية بطرابلس... كما بدأت مصر بالسعي لتوثيق تعاونها مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، حيث تعرف أجهزتها المختصة جيدا بأنه ليس من الإخوان المسلمين، وأن كل علاقاته بهم هي مجرد علاقات انتهازية أثمرت فعلا بإيصاله إلى الحكم. كما أن تطور العلاقات بين مصر والدبيبة يمكنها أن تفيد كلا الطرفين بإعادة صياغة علاقاته مع تركيا ضمن ظروف أفضل وعلاقات أكثر توازنا».
وأكد أنّ مصر بحاجه لإعادة توازن خطوطها الحمراء في ليبيا، و«هي ليست بحاجة لخطوط حمراء أصلا بليبيا»،لافتاً إلى أنّ مصر تحتاج إلى خطوط بيضاء تساعد بواسطتها طرفي الصراع على تجاوز خلافاتهما، ومساعدتهما على الوصول إلى بناء الثقة بينهما وتحقيق اتفاق سلام حقيقي يهتم بالأزمة الأمنية، التى تشكل جوهر التحدي الذي يواجهه السلام في ليبيا ببلوغ مشروع حقيقي وفاعل وعملي لنزع السلاح وتفكيك الميليشيات وإعادة هيكلة وتنظيم مؤسستي الجيش والشرطة.
وقال عقيل إنّ الدبيبة يدرك جيدا أن الجيش الليبي لاعب رئيسي بالصراع، يستحيل تجاوز دوره ومشاركته في صناعة سلام حقيقي في ليبيا. وعليه، فإن الدبيبة لا يستطيع أن يمضي بطموحاته في صناعة السلام في ليبيا (إن كان ينوي هذا فعلا) دون وضع يده بيد المشير خليفة حفتر مع أياد أخرى، ولا يمكن للدبيبة أن يتعامل مع مصر على أساس منعها من الانفتاح على الطرفين، أو إظهاره (أي الدبيبة) لأي غضب أو عداء تجاه مصر بسبب انتهاجها لنهج الانفتاح على جميع أطراف الصراع، أو على دعم مصر للجيش الليبي باعتباره مقوما من مقومات صناعة الأمن الإقليمي الذي تحتاجه كل دول المنطقة. وعليه، يضيف عز الدين عقيل: «أعتقد أن الدبيبة لا بد وأنه يتطلع الآن لدور مصري حقيقي وفاعل يستهدف تذويب الجليد بينه وبين قائد الجيش الليبي، بل ومساهمة مصر بتقديم ورقة متوازنة يمكنها مساعدة الرجلين على المضي قدما بإعادة هيكلة وتنظيم المؤسسة العسكرية ضمن جملة من الضمانات العملية التي تساعد كلا منهما على تجاوز مخاوفه من الآخر وتركها خلف ظهره».
لا حاجة مصرية لخطوط حمراء في مواجهة تركيا
وشدد المحلل السياسي الليبي عز الدين عقيل على أنّ مصر لم تعد بحاجة لخطوط حمراء بوجه تركيا، حتى بعلاقاتها مع أنقرة نفسها، «فما بالك داخل ليبيا؟».وأضاف: «المواظبة على تحسين العلاقات المصرية التركية هي حاجة جوهرية لتحقيق الأمن والاستقرار والرفاه الإقليمي الذي يجب أن يعمل عليه البلدان لأنه في صالحهما، بل وفي صالح المنطقة برمتها، كما أن العلاقات بين البلدين تشهد تحسنا وتطورا إيجابيا يوما بعد آخر. ويفترض بمصر الآن أن تسعى إلى تطوير التعاون مع تركيا لجعل خطوط كليهما بليييا خطوطا بيضاء ناصعة، لا هدف لها إلا بلوغ إقرار السلام بين الليبيين، خاصة مع وجود دبيبة الذي له علاقات سابقة كبيرة مع تركيا، وهو الآن بصدد خلق مثلها مع مصر. بمعنى أنه يمكن لهذا الرجل أن يساعد البلدين على مساعدة تجاوز الكثير من خلافاتهما بشأن مصالحهما في ليبيا».
وبتابع عقيل في حديثه قائلاً: «إن الخطوط الحمراء تعني استمرار التعويل على سياسة التوتر والاستقطاب والحرب بين الليبيين، كما أنها تمثل أيضا شكلا من أشكال إجرام التدخل الخارجي السلبي في شؤون ليبيا بنية إيذاء مصالح الليبيين بوطنهم، بعقلية هذه لك وهذه لي، وهؤلاء معك وهؤلاء معي، وهذا خطي الأحمر وهذا خطك الدموي.. وهي السياسة التي لن تؤدي (أي سياسة الخطوط الحمراء) بحال استمرارها إلا إلى زيادة العنف والفوضى بليبيا، وهما المقومان اللذان يشكلان أهم عناصر نشوء وتطور بيئة الإرهاب التي سيؤدي استقواؤها إلى دفع كل دول المنطقة ومن بينها مصر وتركيا إلى دفع أفدح الأثمان ومواجهة أوخم العواقب؛ بينما سيخلق العكس سلاما ونماء وازدهارا بين البلدين. وفي ليبيا سينعكس إيجابا على مصالح كافة دول المنطقة».
بالمقابل، يرى الباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية الدكتور عمرو الشوبكي، أنّه لا يستطيع أي طرف من الأطراف الداخلية، أو الأطراف الإقليمية المتداخلة في الأزمة الليبية إلغاء الطرف الآخر؛ «فبعد محاولات حفتر حصار طرابلس، وإعلان حكومة السراج نيتها اقتحام بنغازي، والوصول إلى مدينة مساعد على الحدود المصرية، ثبت أن كل ذلك كلام دعائي. والمؤكد أنه لا بديل عن التفاهمات، لأن الخطوط الحمراء كانت مصر قد وضعتها عندما حاول أحد الأطراف إلغاء الطرف الآخر، فتم وضع الخط الأحمر (سرت- الجفرة). أما اليوم، فقد أصبح الجميع يحترمون الخطوط الحمراء. فالمشير خليفة حفتر لن يحاول اقتحام طرابلس، ولن يلاقي هذ خطاً أحمر من جانب الغرب وتركيا. ومصر قالت (سرت- الجفرة) خط أحمر، ولا توجد أي محاولات لاقتحامهما، ومن غير الوارد ذلك».
واعتبر أنّ التحدي هو كيف نصل إلى تفاهم، وإلا سيبقى الوضع على ما هو عليه. ليبيا منقسمة، وكل طرف متمترس في مناطق نفوذه، وفي النهاية لا بد أن تخضع المسألة للمواءمات، والتفاهمات، ولا بد أن يكون هناك حل على موضوع استحقاق الانتخابات.
دور مصري أكبر رغم العقبات
ينظر إلى مصر على أنّها الدولة الإقليمية الوحيدة التي تتميز بعلاقات مع الأطراف الثلاثة الفاعلة على الساحة الليبية (الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة). وفي نفس الوقت، من المعروف أن دولة مثل تركيا هي حليف لطرف واحد، سواء كانت حكومة فايز السراج، أو الحكومة الحالية؛ وهناك صراع مفتوح وعدائي مع المؤسسة العسكرية (ورئيس البرلمان). هذا الوضع يعطي مصر فرصة للعب أدوار إقليمية مهمة، وأن تكون مؤهلة أكثر من غيرها للتواصل مع كل الأطراف الليبية، والمساهمة في حل الأزمة الموجودة.
هذا، وتتحمل الأزمة الأطراف الداخلية في ليبيا. وتحيط بهذه الأزمة تشابكات إقليمية، بحسب الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الدكتور عمرو الشوبكي، الذي أشار في تصريحات خاصة لـ«المجلة»إلى وجود سجال في الوقت الحالي حول قرار مجلس النواب، الذي أصدر قانون انتخابات الرئاسة والذي أعطى الحق في ترشح العسكريين للانتخابات الرئاسية القادمة؛ «والمقصود هنا هو إعطاء هذا الحق للمشير خليفة حفتر. فيما أصدر مجلس الدولة قرارا بعدم إعطاء هذا الحق للعسكريين قبل عامين من التقاعد، حيث المستهدف في الحالتين هو المشير خليفة حفتر».
وتابع: «حاليا هناك سجال ثان وعنيف بين الشرق والغرب يتمثل في مجلس النواب، والمجلس الأعلى للدولة، وهناك خلاف لم يحل بين المشير حفتر، والحكومة في دعاوى لسحب الثقة من الحكومة من قبل عدد من أعضاء مجلس النواب. فالوضع على المستوى السياسي وضع صعب، لكن مصر لديها فرصة من خلال تواصلها مع جميع الأطراف أن تتقدم خطوات للأمام، وأتمنى أن تستثمر هذه الحالة».
وأضاف: «تتمثل إحدى العقبات في خلق حالة توازن بين الحكومة الليبية وتعاملاتها مع مصر في ظل تقارب مصري مع قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، ولكن كل المحاولات الدولية، وجهود المبعوث الأممي، وجميع الأطراف الدولية المتداخلة في الأزمة الليبية، واجتماعات برلين، كان من الضروري أن تتواصل مع جميع الأطراف؛ ومنها حفتر. فمصر لم تخرج عن هذا السياق، لأن الحديث عن حفتر ليس حديثا عن قائد عسكري من دولة أخرى، فهو قائد للجيش الوطني الليبي، وهو قطعا طرف من أطراف المعادلة.. صحيح أنه في علاقة صراع مع الحكومة، ولكن علاقة مصر بالطرفين تؤهلها للعب دور لإحداث تفاهمات، وإيجاد مخارج سياسية للوصول لحلول، وتحديدا لأزمة الانتخابات المزمع إجراؤها في 24 ديسمبر (كانون الأول) المقبل. وهذا يمثل تحدياً كبيراً لعدم وجود توافق على إجراء الانتخابات، وأيضا عدم وجود توافق حول القانون الذي سينظم العملية الانتخابية».
واعتبر الشوبكي أنّ هذه المهمة ثقيلة، حيث عجزت قوى دولية كثيرة على حلها؛ «فالمبعوث الأممي حتى هذه اللحظة برغم ملتقى الحوار الليبي، ووجود حوارات مع كل الأطراف، لا زال يواجه صعوبات لإيجاد حل؛ لكن الوضع الطبيعي أن يكون لمصر علاقات مع كل الأطراف. وحتى لو أعلنت مصر دعمها للجيش الوطني الليبي، فهذا لا يعني أن تقطع علاقتها بالأطراف الأخرى. ولكن على العكس هذا يعطيها ميزة في أن تتواصل مع الجميع حتى لو أيدت طرفا».
ولفت الشوبكي إلى «عقبات تحيط بالمسار الحالي؛ إذ لطالما ظل هناك خلاف حول قانون الانتخابات، ولكن بلا شك، فإن مجلس النواب هو الجهة الشرعية الوحيدة التي لها الحق في إصدار قانون ينظم إجراء الانتخابات. حتى إنه وفقا للوثيقة الدستورية في ليبيا، فإن المجلس الأعلى للدولة الليبية دوره استشاري، كما أنه اقترح عقد لقاءات بين الأطراف الليبية المختلفة للتوافق على القانون. وفي حال ما إذا نال القانون الذي خرج من مجلس النواب توافقا دوليا، فإنه سيتم حسم الموضوع، وسوف تجرى الانتخابات وفق القانون الذي أصدره مجلس النواب. بما يعني أن هناك إمكانية كبيرة أن يترشح خليفة حفتر لمنصب الرئيس. وفي حال العكس، فهذا يعني أن يتم تأجيل الانتخابات، لأن المجلس الأعلى للدولة يطالب بتأجيلها. ولكن حتى هذه اللحظة هناك إرادة دولية، وتوجه دولي لإجراء الانتخابات في موعدها».