جدة: على امتداد عقود طويلة، كان المصدر الرئيسي للثروة السعودية يأتي من إنتاج النفط المخزون في المنطقة الشرقية من البلاد. وفي ظل وجود احتياطات نفطية مثبتة، تقدر بنحو 267 مليار برميل، فإن المملكة يمكنها مواصلها الإنتاج بوتيرتها الحالية لمدة 80 عاماً إضافياً، لكن العالم يتحول إلى الطاقة المتجددة لمحاربة الاحتباس الحراري. وصحيح أن العالم لن يتخلى عن النفط بين عشية وضحاها، إلا أن الأمر قد يستغرق عقوداً ليسير العالم على أشعة الشمس أو الرياح. ورغم ذلك، يعتقد صناع القرار السعودي أن الوقت ناضج للتحول الاقتصادي، حيث تتضاءل حصة النفط في الناتج الإجمالي المحلي إلى حدودها الدنيا. ويعني ذلك بالضرورة إيجاد مصادر جديدة للدخل لتغطية نفقات تسيير أمور البلاد.
تمتلك المملكة ثروة خفية في منطقة جيولوجية تسمي «الدرع العربية»الواقعة في الجزء الغربي من الجزيرة العربية، المحاذية للبحر الأحمر، مع امتدادات في اليمن وجنوب الأردن. وهناك مناطق أخرى تحتوي على الثروة غير النفطية في جميع مناطق المملكة بكميات متفاوتة. وتتضمن الثروة الموجودة في باطن الأرض أكثر من 80 نوعاً من المعادن.
دعونا نلقي نظرة سريعة على الثروة المعدنية الواعدة لأكبر اقتصاد عربي.
وقت طويل قبل اكتشاف النفط
تعد السعودية موطناً لأقدم المناجم في التاريخ. على سبيل المثال، فإن منجم الأمار، الذي يقع على بعد 160 كيلومتراً، غربي الرياض، كان قد اكتشف عام 800 قبل الميلاد. كما أن الأمويين والعباسيين استغلوا ثروته بفضل احتوائه على كميات وفيرة من الذهب. وتظهر بعض الآثار الموجودة في ذلك المنجم التقنيات المستخدمة للاستخراج قديماً، والتي نجحت في جعل المنطقة مركزاً صناعياً بمعايير تلك الأيام، حيث تشير الفتحات إلى استخراج الذهب والفضة منه بكميات تجارية. ولا يزال المنجم في حالة تشغيلية حتى يومنا الحاضر، حيث تدير العمليات فيه شركة حكومية سعودية ولا يزال المنجم يحتوي على المزيد من الموارد رغم مرور آلاف السنين على اكتشافه.
وهناك أيضاً منجم مهد الذهب، وهو أكبر منجم في منطقة الشرق الأوسط، يبعد عن المدينة المنورة نحو 170 كيلومتراً. وهناك دلائل تشير إلى استخراج الذهب ومعادن أخرى من المنجم قبل 3000 عام. وقد كان المنجم في وضع تشغيلي في القرنين السابع والثامن الميلاديين أيام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين. ولكن تضاءلت أهميته لاحقاً. وأعيد افتتاح المنجم بعد تأسيس المملكة أوائل ثلاثينات القرن الماضي، لكن إنتاجه توقف في الخمسينات. ومنذ عام 1988، يعمل المنجم بلا توقف حتى الآن. ليس ذلك فحسب، بل إنه لا يزال منجماً واعداً بمزيد من ثروة المعدن الأصفر، وبخاصة مع تطور تقنيات التنقيب والاستخراج والإنتاج؛ رغم مرور آلاف السنين على اكتشافه!
لقد كان الاقتصاد السعودي في عصر ما قبل النفط يعتمد جزئياً على التعدين. وبعد اكتشاف النفط عام 1938، تراجع دور التعدين بسبب تركيز الاهتمام على النفط، إضافة إلى تدهور أسعار المعادن مع ارتفاع تكاليف الاستخراج وكان ذلك في الخمسينات. ذلك العقد، شهد هبوط صناعة التعدين السعودية، التي لم تكن متطورة أصلاً، مما أضعفها أكثر وأكثر، وأدى إلى إغلاقها كما حصل مع منجم مهد الذهب وغيره. لم تكن السعودية وقتئذ، تملك إمكانيات الإنتاج، إذ اعتمدت على منح امتيازات لشركات تنقيب غربية، مقابل نسبة من الأرباح، متفق عليها. فقد كانت المخاطرة وتكاليف التنقيب وغيرها، تقع على عاتق الشركة المستكشفة، وهو بالضبط ما كان يحصل مع النفط.
ومع تدهور أسعار النفط في الثمانينات، بدأت المملكة في البحث عن مصادر جديدة للدخل من أجل الحد من العجز المتفاقم للميزانية. وهذا ما يفسر إعادة تأهيل واستئناف استخراج الذهب في منجم مهد الذهب أواخر الثمانينات.
وفي كل مرة تتدهور فيها أسعار النفط أو توجد خطة لتقليص اعتماد الاقتصاد على النفط، تنتعش أعمال التعدين. وهذا ما يفسر قصة إنشاء الشركة العربية السعودية للتعدين (معادن) أواخر التسعينات.
تأسيس شركة معادن
خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، كان أداء أسواق النفط في أسوأ حالاته بسبب انهيار معظم الاقتصادات الآسيوية، وبخاصة دول جنوب شرقي آسيا. وقد زاد عجز الميزانية واضطرت الحكومة لتنويع اقتصادها والبحث عن مصادر دخل جديدة مع فرض بعض الرسوم والضرائب.
وفي ظل هذا السياق الاقتصادي المعقد، أسست الحكومة الشركة العربية السعودية للتعدين (معادن)، التي ولدت عام 1997 للاستفادة من الثروة المعدنية غير المستغلة. فيما يمتلك صندوق الاستثمارات العامة نحو ثلثي الشركة، ويتم تداول الحصة الباقية في سوق الأسهم السعودية.
وتحتوي محفظة معادن الاستثمارية على 6 مناجم في مختلف مناطق المملكة، فيما يشكل الذهب نحو 20 في المائة من دخل الشركة. وفي يونيو (حزيران) الماضي، منحت الشركة عقداً تطويرياً لمناجم الذهب المعروفة باسم منصورة ومسرةفي منطقة مكة المكرمة غربي المملكة؛ لتعزيز إنتاج الذهب. ومن المثير للاهتمام معرفة أن هدف «معادن»هو إنتاج مليون أونصة (أوقية) من الذهب سنوياً بحلول عام 2025.
ولا يعتبر الذهب منطقة التركيز الرئيسية في أعمال «معادن»، فالشركة تستثمر ما يزيد على 15 مليار دولار لاستخراج الفوسفات من مناجمها شمالي المملكة، وبالتحديد في قرية حزم الجلاميد. ويشكل احتياطي الفوسفات في منطقة الحدود الشمالية نحو 75 في المائة من الاحتياطي العالمي، وهي نسبة هامة لإقامة صناعة تعدينية متقدمة.
وتحتفظ «معادن»بشراكات عديدة بنسب مختلفة، وبخاصة في قطاع التصنيع، إذ لا تكتفي الشركة بالتنقيب واستخراج المعادن الخام وترشيحها وتنقيتها. كما أن لديها عدداً من وحدات الأعمال، تخصصها على 5 اختصاصات، تشمل الاستكشاف والذهب ومعادن الأساس والفوسفات والمعادن الصناعية والألومنيوم. وبذلك، تخطو المملكة خطوة إضافية في تحقيق قيمة مضافة للمواد الخام وتعزيز سوق العمل بمزيد من الفرص وبناء القدرات الصناعية الوطنية، بدلاً من سلوك الطريق الأسهل، والمتمثل في بيع المادة الخام وجني الأرباح السريعة ومراكمة الأموال؛ دون تحقيق أعظم استفادة ممكنة للاقتصاد.
مسوح واستثمارات وتراخيص جديدة
استناداً إلى إحصائيات وزارة الصناعة والثروة المعدنية، تقدر الاستثمارات في قطاع التعدين بين 45-48 مليار دولار. ومن المتوقع زيادة حجم الاستثمارات بنسبة 150 في المائة في العقد المقبل، وذلك وفقاً لتصريحات صحافية أدلى بها مؤخراً نائب وزير الصناعة والثروة المعدنية المهندس خالد المديفر، مضيفاً توقعه بزيادة عدد فرص العمل في قطاع التعدين إلى ربع مليون فرصة. وتشمل الموارد المعدنية في البلاد الفسفور والذهب والنحاس والألومنيوم والزنك والنيكل. وهناك احتمالية كبيرة جداً لتوفر المعادن الأرضية النادرة مثل اليورانيوم والليثيوم بكميات تجارية، وفقاً لدراسات متعددة.
وقد تلقت وزارة الصناعة والثروة المعدنية أكثر من 1500 طلب ترخيص محلي وعالمي عقب إقرار قانون التعدين الجديد العام الجاري. وجرى إصدار نحو 250 رخصة بنهاية أغسطس (آب) الماضي. وتقدر الحكومة السعودية قيمة احتياطات المعادن غير المستغلة حتى الآن بنحو 1.3 تريليون دولار، وهي تقديرات غير نهائية، حيث بدأت خطة تستمر لست سنوات لإجراء مسح جوي جيوفيزيائي لمنطقة الدرع العربية غربي المملكة. كما يتوقع أن المناطق الأخرى تحتوي على كميات أكبر من المتوقع من المعادن، حيث جرى استخراج 7 – 8 في المائة فقط من إجمالي الثروة المعدنية السعودية.
إن فتح المناجم والأراضي السعودية لأعمال التنقيب والاستكشاف من شأنه أن يعزز مكانة السعودية في صناعة التعدين على مستوى العالم وأن تكتسب سمعة عالمية، توازي سمعتها المرموقة في قطاع النفط، وأن تصبح رقماً صعباً في هذا المجال الغني بالفرص. ويدعم ذلك وجود مساحات شاسعة للتنقيب، فالدرع العربية الواقعة تحت أعمال المسح حالياً، تحتل مساحة تبلغ أكثر بقليل من 600 ألف كيلومتر مربع، أي أكثر من مساحات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مجتمعة. ومع ذلك، فإن تلك المساحة الهائلة لا تغطي إلا أكثر بقليل من ربع مساحة المملكة البالغة 2.15 مليون كيلو متر مربع، آخذين في الاعتبار أنه مع كل اكتشاف جديد للمعادن، ستقل النسبة التي تحدثت وزارة الصناعة والثروة المعدنية عنها، مما يجعلها ثروة بكراً.
ولن تكون شركات التعدين القادمة للبلاد دون بنية تحتية تخدمها، إذ تتمتع المملكة بشبكة طرق ضخمة، يصل مجمل أطوالها إلى نحو 71 ألف كيلومتر، منها 5 آلاف كيلو متر من الطرق السريعة، تربط أجزاء المملكة، بعضها مع البعض الآخر، في جميع الاتجاهات، شاملة المدن الصناعية والموانئ والحدود مع الدول المجاورة. ويدعم تلك الطرق البرية، شبكة قطارات عملاقة، يصل مجمل أطوالها إلى 5500 كيلومتر. أما قطارات الشحن، فإنها تعزز القطاع اللوجيستي، إذ تربط شبكة قطار الشمال الجنوب البالغ طوله 2400 كيلومتر بين مناجم الفوسفات في حزم الجلاميد ومناجم البوكسايت شمال المملكة وبين مناطق التصنيع في رأس الخير والجبيل والدمام، شرقي المملكة. كما يربط هذا القطار بين مدينة الحديثة على الحدود الأردنية شمالاً، مروراً بمدن الجوف وحائل والقصيم وسدير ويصل إلى الميناء الجاف بالرياض. ويتصل القطار بامتدادات أخرى في اتجاهات مختلفة، مما يجعل قطارات الشحن، وسيلة لوجيستية منخفضة التكاليف للاستخدام من أجل التصدير أو النقل إلى المدن الصناعية أو حتى التجميع والتخزين.
المعادن والطاقة المتجددة
يقول الخبير الاقتصادي السعودي، فهد الشيخ: «مع أفول عصر النفط، ستكون المعادن ذات أهمية متصاعدة بالنسبة لإنتاج الطاقة المتجددة. فطواحين الرياح والقباب الشمسية والمركبات الكهربائية وبطارياتها، تحتاج إلى مليارات الأطنان من المعادن. وحتى المفاعلات النووية السليمة المخصصة لتوليد الطاقة الكهربائية، تحتاج إلى اليورانيوم لإمدادها بالطاقة التشغيلية».
وبحسب رؤية المملكة 2030، فإن المملكة ستركز على القطاع الصناعي مع توفير المزيد من التسهيلات الائتمانية وإعفاء المستثمرين من الرسوم والضرائب. ولذا، فإن الطلب سيزيد على المعادن بشكل هائل، وعليه ينبغي أن ينمو إنتاجها لمواكبة الطلب. ورغم الإنتاج الهائل للنفط في السعودية، إلا أن البلاد ماضية بقوة في تنويع موارد الطاقة. ومن المقرر أن يعتمد مشروع نيوم، الذي يطوره صندوق الاستثمارات العامة السعودي بقيمة 500 مليار دولار، على الطاقة المتجددة بنسبة 100 في المائة. كما أن السعودية تتابع الاتجاه العالمي في تعزيز عمليات التنقيب والاستكشاف وتوليد الطاقة النظيفة عبر أساليب صديقة للبيئة، مما يعزز تلك الممارسات المساهمة في خفض آثار الاحتباس الحراري.
ويختتم الشيخ بقوله: «سيكون قطاع التعدين أحد أركان الاقتصاد الوطني لمرحلة ما بعد النفط؛ إذ إن الطلب المتزايد على المعادن سيكون عنوان المرحلة الجديدة. وسيكون للدول التي تتمتع بثروة معدنية وزن أكبر في المشهد الاقتصادي العالمي المقبل».