نحن نشهد على نهاية تجربة الدولة في المشرق بالمعنى السياسي والعلمي، بما تمثله الدولة من استمرار عمل المؤسسات، وحصرية استعمال العنف بيدها بالإضافة إلى تطبيق العدالة ووحدة معايير القانون الذي يسري على الجميع.
منذ ما بعد مرحلة الانتداب لم يعرف لبنان استقرارا سياسيا، كذلك الأمر ينطبق على سوريا هي الأخرى. فكل أزمة كانت تولد كان يقابلها توقف مؤسسات الدولة عن العمل على كل المستويات وانتشار العنف الأهلي بين مختلف مكونات المجتمع في بعض الحالات، وسيادة قانون الغاب. في الجانب السوري انقلابات ومن ثم ديكتاتورية مجرمة ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.
للحقيقة لم يكن هناك يوما مشروع للدولة يقف خلفه اللبنانيون أو أغلبهم إنما كانت هناك مشاريع سلطوية لطائفة تمكنها من السيطرة على البلد وقيادته. مشروع الدولة الذي فرضه الغرب على المشرق كان يحمل في طياته متناقضات في الصيغة والشكل الذي فرض به. فالديمقراطية- أحد أركان أنظمة الغرب التي كان من المفترض أن تنقله للمشرق- لم يكن من الممكن أن تتماشى مع مبدأ التسويات والتفاهمات من أصغر التفاصيل حتى أكبرها في عمل الدولة وهذا نهج مارسه المشرق على مدى قرون كان آخرها طوال الـ400 سنة من حكم العثمانيين.
فمفهوم الدولة الديمقراطية العادلة من المفترض أن تبحث عن كيفية تأمين كل الفرص المتاحة من أجل تفعيل اقتصاد منتج، وتأمين خدمات صحية وأمنية وبيئية لجميع أبنائها من دون تفرقة. وإلا فمصيرها الفشل.
الدولة في لبنان هي دولة محاصصة طائفية، بمعنى أنه يتم تقاسم مغانم الدولة من قبل الطوائف من دون أخذ بعين الاعتبار مردود هذا النهج على الدولة وماليتها وانتظام عمل مؤسساتها. فمثلا لبنان يعاني من فائض توظيفي في القطاع العام بشكل كبير ولافت يكبد خزينة الدولة أعباء كبيرة ولكنه في عقل مديريها يحفظ التوازن الطائفي، وهذا نهج يرفضه علم الاقتصاد ولكن يقبل فيه عقل التسويات ولو أدى إلى إفلاس الدولة كما اليوم. طبعا الأمر يسري على كل القطاعات العامة للدولة وهو أحد أسباب الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعرفها لبنان. إذن المزج بين التسويات والتفاهمات عند كل منعطف وقرار مع العمل الاقتصادي والسياسي لا يستوي. وفي نفس الوقت الزعامات اللبنانية تتكل أساسا في عملها على قدرتها في خدمة أبنائها وذلك لضمان ديمومتها وتوريث هذا العمل لأبنائها. فكم من أمثلة على زعيم أخرج سارقا أو مجرما ينتمي لطائفته لكنه يستحوذ على عدد مهم من الأصوات تجير له في الانتخابات؟ كم من مشاريع من غير نفع وفائدة على خزينة الدولة تم إنشاؤها إرضاء للتوازنات الطائفية؟ ألم يعترف رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري بأن معمل الكهرباء الذي كان منويا إنشاؤه في سلعتا هو لزوم ما لا يلزم وهدر للمال العام ولا يفيد سياسة الطاقة في لبنان إنما يدخل في إطار التوازنات الطائفية إرضاء للطائفة المسيحية؟ بالإضافة إلى كل الأعطال التي تنخر جسم إدارة الدولة اللبنانية. وهناك ازدواجية السلاح بيد الجيش وحزب الله الذي ينزع عن الدولة حصرية استعمالها للعنف.
هذه الأسباب وغيرها هي مثال واضح في استحالة تزاوج منطق الدولة مع المنطق الطائفي ومنطق القانون مع منطق التسويات ومنطق الدستور مع منطق التفاهمات.
هذا يحصل منذ عقود في لبنان وهو بشكل أو بآخر أدى إلى فشل تجربة الدولة بمفهومها الغربي.
ما هو البديل؟
اليوم البديل كما يبدو واضحا هو بروز المنظمات المسلحة غير الشرعية الموجودة في أكثر من بلد في المنطقة والتي تملك مقومات مالية وعسكرية وترتبط بقوة إقليمية تمدها بالدعم، تستطيع أن تدير المقاطعات التي تشرف عليها. لبنان حزب الله، سوريا ميليشيات تابعة لإيران بالإضافة إلى حزب الله، العراق الحشد الشعبي، وصولا إلى اليمن مع الحوثيين.
في المضمون هي استعادة للتجربة العثمانية من حيث تقسيم المنطقة إلى ولايات تخضع لحاكم عسكري يسهر على استقرار المناطق التي يشرف عليها كما يحصل الضريبة لصالح الباب العالي.
اليوم أمين عام حزب الله استقدم من إيران بواخر نفط من أجل مواجهة الأزمة في لبنان.
هل هذا العمل قانوني؟
لا.
هل يدفع صاحب الشحنات ضريبة للدولة؟
أكيد لا.
هل أخذ إذنا من الدولة لاستقدام تلك البواخر؟
قطعا لا.
هل من أحد يستطيع منعه من إدخالها؟
لا.
هل يستطيع أي طرف آخر أن يحذو حذوه؟
لا.
تنطبق استقلالية عمله أيضا على الجانب العسكري؛ حيث ينخرط في العمل الحربي في سوريا دعما للأسد، يطلق الصواريخ باتجاه إسرائيل ردعا وردا على عمل عسكري قام به الجيش الإسرائيلي ضده من دون أن يعود إلى الدولة. ولكن مع إمكانية تحميلها ثمن هذا العمل.
هل تستطيع الدولة أن تعترض على أعماله العسكرية؟
لا.
هل يمكن للدولة أن تمنع عناصره من الدخول إلى سوريا ونقل معداته العسكرية إليها؟
لا أيضاً.
إذن هناك هيكل للدولة اللبنانية يتحكم فيه حزب الله، وإيران كمرجعية له. كذلك الأمر ينطبق في سوريا.
نحن أمام مشرق جديد أعلن منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري موت الدول فيه.