أربيل: لم يعد الكثير من الأطفال في العراق قادرين على مواجهة قسوة هذه البلاد، حرها وبردها؛ غبارها ودخانها؛ وروائح دمائها؛ فما عاد هناك سقف يحميهم، لا في مخيمات النزوح، ولا في العشوائيات التي تتكاثر يوما بعد يوم، لتنجب جيلا تائها، تلفظه النفوس الجشعة إلى المجهول. وما أكثرهم هذه الأيام، فهم لا يشبعون! هذا ما شعرت به وأنا أحاول أن ألتقط أي تعبير يشي عن حال (محمد)، هذا الطفل المتماهي مع لامبالاته والمحترق في تعاسته. ابن الـ14 ربيعا، الذي ينقل حكاية عائلته على لسانه، بلكنته الموصلية؛ وهو يواصل ضاحكاً وكأنه يضحك اشمئزازا، خلال سرديته المأساوية. تلاحظ ذلك من خلال تعابير وجهه وملابسه فيما علبة العلكة بيده.
محمد وأخوة ثلاثة له فرت بهم أمهم، من المدينة القديمة في الموصل إبان سيطرة تنظيم داعش على المدينة عام 2014، وعانوا على مدار أسابيع من القتال. لا ماء ولا طعام، إلى أن وصلوا إلى مخيم السلامية، وهو أحد المخيمات التي أقيمت للنازحين من الموصل.
عادت أم محمد مجددا إلى الموصل بعد تحريرها من داعش، لكنها وبسبب سوء الأحوال المعيشية في مدينة ترزح تحت الدمار، لجأت إلى بغداد العاصمة لتستقر في آخر المطاف في إحدى العشوائيات، وهي لن تكون استثاءً بالتأكيد. فالوضع المادي للعائلات هناك مترد جداً ما يجعلهم يدفعون أولادهم، وبناتهم للعمل في الشوارع. ومحمد بائع العلكة على الإشارات الضوئية، طفل من بين آلاف الأطفال ضمن خارطة ينفصل الأطفال فيها عن أحلامهم، في بلد يمثل فيه فئة صغار السن بعمر (صفر- 14 سنة) نسبة (40.4 في المائة) من مجموع سكان العراق، بحسب إحصائية وزارة التخطيط لعام 2021، أيضا في بلد يشكل فيه الأطفال الأغلبية من بين حوالي 4.5 مليونا من العراقيين المهددين بالفقر والحرمان.
أطفال تحت خط الفقر
كشف تقييم صدر في عام 2020 عن وزارة التخطيط العراقية، بدعم من اليونيسيف، والبنك الدولي، ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية، أن الأطفال واليافعين في العراق يواجهون أعلى زيادة في معدلات الفقر، حيث إن واحدا من بين كل خمسة أطفال ويافعين في عداد الفقراء، قبل تفشي جائحة كورونا، لكن هذا قد تضاعف إلى أكثر من 2 من بين كل 5، أو ما يمثل 37.9 في المائة من العدد الكلي للأطفال.
الكهرباء والحر يشعلان الغضب الشعبي في العراق
وأصبح انقطاع التعليم، وارتفاع معدلات سوء التغذية، والعنف، واقعا يواجهه أطفال الفقراء في العراق حاليا، فهناك طفل من بين كل اثنين (أي 48.8 في المائة) أكثر عرضة للمعاناة من الحرمان من الالتحاق بالمدارس، والحصول على مصادر المياه المحسنة.
كما أن الأطفال واليافعين، الذين يشكلون أكثر من نصف السكان في العراق، هم الذين يرجح أن يتحملوا ثمن الفقر المتزايد، وانقطاع الخدمات، والضغوط الأسرية المتزايدة. فالحرمان، والعمالة، والتعنيف، والإتجار، والتسرب المدرسي، والتشرد، والجفاف، والألغام، كلها أخطار محدقة بالطفولة في العراق، بحسب هشام الذهبي.
هشام الذهبي الذي يطلق عليه المواطنون في العراق لقب كافل اليتيم، عمل من منزله مدرسة نموذجية متكاملة، مختلفة التخصصات في العلم والثقافة والفن؛ أطلق عليها البيت العراقي للإبداع، خَرّجت مجموعة من المبدعين والمتميزين في مختلف المجالات. بعد 18 عاما في مساعيه لحماية الطفولة يؤكد أن التحديات كبيرة جدا أمام توفير بيئة كريمة لأطفال العراق، وأن مئات المنظمات المدنية المهتمة بحقوق الأطفال ورعايتهم لن تستطيع أن تفي بالغرض في ظل غياب خطة حكومية وقانون يحمي الطفل في العراق.
ويقول الذهبي لـ«المجلة»إن «الحكومة غير مستقرة، وتعاني من ظروف اقتصادية صعبة، وخلل أمني؛ كل هذا يشكل بيئة غير صالحة للأطفال»، موضحا: «لقد عانى العراق عقودا من العنف والحروب والعقوبات وحالة عدم الاستقرار. وفي السنوات الماضية، أدى العنف إلى تهجير ونزوح ملايين العراقيين، وتحولت أجزاء كثيرة من البلاد إلى ميادين حرب فضلاً عن إلحاق الضرر أو تدمير البنى التحتية، والمدارس، فالعراق اليوم بحاجة إلى خدمات إصلاح وصيانة».
ويضيف: «مئات المنظات المدنية لن تستطيع أن تفي بالحاجة لاستيعاب الأعداد الهائلة من الأطفال المحتاجين ويسد حاجاتهم. ما نراهن عليه هو إقرار قانون حماية الطفولة، وإنشاء وزارة للطفولة، أو مؤسسة راعية للطفولة في العراق، وبالتالي تكون هذه خطوة أولى لخطوات أخرى، إذ من الممكن أن تخدم الطفولة بصورة عامة في العراق»؛ مشددا: «يجب أن تكون الدولة هي الراعية الرئيسية لهذا المشروع ومنظمات المجتمع المدني تكون مساندة للمؤسسات الحكومية وليس العكس».
ويلفت إلى أن «المنظمات المحلية تعمل بجد، وهي دائما سباقة في تقديم يد العون لكل الفئات بصورة عامة وللطفولة بصورة خاصة. ولكن تبقى هي مبادرات لا ترتقي لحجم المشكلة التي يعانيها الأطفال في العراق».
أما عن سبب تأخر إقرار قانون حماية الطفولة، فيرى أن السبب يكمن في عدم تبني «أي كتلة سياسية هذا القانون لأن الأطفال ليسوا أرقاما انتخابية، هم يتوجهون للشرائح التي تضمن لهم أصواتا انتخابية»، مضيفا: «نحن محبطون، وأطفالنا يعانون. ليس هناك أي مرشح يتحدث عن الطفولة في العراق خلال الحملات الانتخابية وعرض برامجهم الانتخابية، والطامة الكبرى أني لم أجد أيضا مواطنا يطالب البرلمان بتشريع قوانين تحمي الطفولة، أو يطالب المرشحين بتضمين حماية الطفولة في برامجهم الانتخابية».
المحلل الاقتصادي حسن الأسدي: الاقتصاد العراقي يفتقر لسياسة اقتصادية واضحة
طفولة بلا حماية
يشهد العراق منذ عدة سنوات نقاشات مستفيضة في مختلف المؤسسات الحكومية وغير الحكومية وممثليات المجتمع عامة لإعداد قانون لحماية الطفل العراقي، يتضمن تشريع حقوق اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وتربوية وتعليمية ووسائل منع استغلاله بمختلف أشكال الاستغلال، امتثالا للاتفاقيات الدولية التي التزم بها العراق، وتطبيقا للمادة (29) من الدستور التي نصت على حماية الطفولة.
استلهاماً للتغيرات والتطورات التي طرأت على المجتمع في العقود الأخيرة، ومن بعض ثمار هذا الحراك، أعدت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية مشروع قانون لحماية الطفل العراقي أقره مجلس الوزراء وأرسل إلى مجلس النواب لتشريعه، بغية دراسة مشروع القانون دراسة وافية لضمان ترصينه وتحقيق أهدافه وتطبيقه بشكل مناسب.
النائبة ريزان شيخ دلير، عضوة لجنة المرأة والأسرة والطفولة في مجلس النواب العراقي، تقول في حوار مطول لـ«المجلة»: «الحكومة صادقت على قانون حماية الطفولة والبروتوكولين الملحقين بها، وهذه الاتفاقية تلزم الحكومة بأن تشرع قانونا لحماية الطفل. وهذه الحماية تلزم الحكومة بتوفير التعليم والصحة والبيئة الآمنة لحياة الطفل»، مشيرة إلى مشروع عمل بين اليونيسيف وهيئة الطفولة ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية «لإعداد مسودة قانون حماية الطفولة، وأُرسل القانون إلى مجلس الدولة وتأخر هناك، من ثم أرسل إلى مجلس الوزراء الذي صادق عليه بدوره، وأرسل إلى مجلس النواب، لجنة المرأة والأسرة والطفل. وبسبب عدم انعقاد جلسات مجلس النواب، تأخرت القراءة الأولى لهذا القانون، وتم رفعه إلى هيئة الرئاسة من قبل اللجنة، ليكون على جدول الأعمال، لكن لم تنعقد الجلسات بسبب انشغال النواب بحملاتهم الانتخابية وعدم حضور الجلسات وعدم اكتمال النصاب، ولم يسمح لهيئة الرئاسة بإدراجها ضمن برنامج الجلسات».
وتلفت شيخ دلير قائلة: «كان يجب أن تتم قراءة أولى للقانون خاصة أن لدينا العديد من الملاحظات على القانون وجزء كبير منه يتعلق بالتفاصيل. وهذا يستدعي عقد جلسات وورش عمل لإنضاج القانون، لا سيما أن القانون لحد الآن لم يطلع عليه أعضاء مجلس النواب؛ لذلك ارتأت لجنتنا أن تتم مناقشته في أروقة مجلس النواب بالتعاون مع منظمات مجتمع مدني ومع اليونيسيف لكن للأسف القانون سوف يرحل إلى الدورة النيابية المقبلة».
وتؤكد على أن «الأرقام والإحصائيات تشير إلى أن الطفل العراقي في وضع سيئ جدا، لأن العائلة لا تستطيع أن تحمي الأطفال بسبب الظروف الاقتصادية والأطفال يحتاجون إلى ظروف آمنة. ومن الناحية القانونية، لحد هذه اللحظة ليس للأطفال قانون خاص لحمايتهم. وعليه تتحمل الحكومة مسؤولياتها تجاه الطفولة وتوفير حياة آمنة وكريمة له من التعليم وغيرها. العراق أصبح بلا طفولة بسبب الإهمال الحكومي، فيما على الحكومة أن تتحمل عواقب النشأة غير الصحيحة لأطفال العراق».
أطفال ضحايا العنف الأسري
تشير شيخ دلير من جانب آخر إلى أن «العراق لا يتضمن قانوناً يحد من ظاهرة العنف الأسري بحق الأطفال، ويفتقر إلى وجود برامج جدية تصب في مصلحة الأطفال للمنظمات الأممية والحكومة». وتضيف أن «2 من كل 5 أطفال عراقيين يتعرضون إلى عنف سواء عنف أسري أو داخل المدرسة. وحاول البرلمان العراقي خلال العشر سنوات الأخيرة تشريع قانون مناهضة العنف الأسري لكنه لم ينجح،وفي هذه الدورة لم يعرض حتى للقراءة الأولى. فكثير من الأصوات عارضت تشريع هذا القانون، علما أنه قانون مهم جدا يحمي الطفل. فهناك من اعتبره قانونا لاستقواء المرأة على الرجل وفي الحقيقة هو حماية لكل أفراد العائلة بما فيهم الطفل».
العراق: تحميل الجوار مسؤولية الاستقرار والإعمار
وجدت دراسة لليونيسيف أن 81 في المائة من الأطفال في العراق تعرضوا للتعنيف الجسدي أو النفسي.
لعنة النسب المجهول
من ناحية أخرى، نسأل شيخ دلير عن حملة أطلقتها مع مجموعة من البرلمانيات في برلمان إقليم كردستان ومجلس النواب العراقي تحت عنوان «اسمي اسم أمي»، وكيفة إيجاد حل مناسب للأطفال «مجهولي النسب»، والتي تعتبر من القضايا التي خرجت تعقيداتها بعد تحرير المدن التي استباحها تنظيم داعش الإرهابي.
وتقول شيخ دلير: «في 2018، أطلقت الحملة من قبل عدد من منظمات المجتمع المدني ومختصي القانون، إلى جانب العديد من عضوات برلمان إقليم كردستان ومجلس النواب العراقي وتتمثل الحملة في إعداد مسودة تعديل خاص لقانون البطاقة الوطنية العراقية رقم (3) لسنة (2016)»، مشيرة إلى أن «نساء وأطفال العراق محرومون من حق تثبيت نسب المولود إلى الأم في وقت السلام والحرب، في وقت يجب أن تكون فيه الأمهات والأطفال مستفيدين من هذا الحق البدائي»، لافتة إلى أن «رئيس الوزراء العراقي أقر في مدينة جنيف خلال مؤتمر دولي في العام 2016، بوجود أكثر من 4 آلاف طفل في العراق، ولدوا نتاج عمليات اغتصاب ارتكبها إرهابيو داعش بحق عراقيات. وهذا رقم كبير حيث لا يعقل ترك كل هؤلاء الأطفال الأبرياء هكذا بلا حقوق مدنية، وتحميلهم وزر جرائم لم يرتكبوها».
وتقترح الحملة تعديل فقرتين من قانون البطاقة الوطنية، حيث تنص المادة 19 من قانون البطاقة الوطنية العراقية على أنّه: «يعد الاسم كاملا إذا تضمن اسم الشخص المجرد واسم أبيه، واسم الجد الصحيح، واللقب إن وجد». لكن التعديل يقترح:«يعد الاسم كاملا إذا تضمن اسم الشخص المجرد واسم أبيه أو أمه واسم الجد الصحيح من الطرفين واللقب إن وجد».
وتنص المادة 20 من القانون: «يعد اللقيط أو مجهول النسب مسلما عراقيا ما لم يثبت خلاف ذلك»، والتعديل المقترح هو كالتالي: «يعد المولود أو الطفل الذي تم العثور عليه مسلما عراقيا أو معتنقا دين أحد الوالدين الذي نسب إليه ما لم يثبت خلاف ذلك».
وتكشف شيخ دلير قائلة: «تم جمع التواقيع النيابية لتعديل قانون البطاقة الوطنية العراقية، وأنهى البرلمان العراقي القراءة الأولى للتعديلات المقترحة في مشروع القانون». وتضيف: «سوف نستمر في ممارسة الضغوط لتعديل القانون وتشريع نصوص تنقذ هؤلاء الأطفال من لعنة مجهولية النسب». وتؤكد: «نحن أساسا لسنا مع مصطلحي اللقيط ومجهول النسب، الواردين في قانون البطاقة الوطنية العراقية، حيث يطالب مشروع التعديل باستبدال كلمة اللقيط بالمولود حديثا، والمجهول النسب بالمولود المعثور عليه».
هذا، وشاركت مجموعة من الشخصيات العامة الفنية والثقافية العراقية، وخاصة في إقليم كردستان، في دعم حملة «اسمي اسم أمي»عبر نشر أسمائهم في صفحاتهم على مواقع السوشيال ميديا، مقرونة بأسماء أمهاتهم.
ناقوس خطر ينذر بتصاعد عمليات الخطف والإتجار
يبدو أن معاناة أطفال العراق لن تقف عند كل ما ذكر، إذ مؤخرا تم دق ناقوس الخطر، بعدما تكررت على نحو لافت ومقلق، حوادث خطف الأطفال، من بينهم رضع، والإتجار بهم عبر بيعهم من قبل عصابات وشبكات متخصصة في مثل هذه الجرائم.
فعلى مدى أيام قليلة، تم الإعلان من قبل الجهات الأمنية العراقية، عن إلقاء القبض على عدد من خاطفي الأطفال في مختلف المحافظات العراقية.
وبحسب مراقبين، أن يتم ضبط وكشف شبكات لخطف الأطفال خلال أيام، هو أمر مفزع، حيث ثمة ولا ريب شبكات أخرى تعمل وتبيع وتشتري صغارا لا حول لهم ولا قوة.
لا شك أن العصابات التي تتاجر بالأطفال، سواء عبر عرضهم للتبني غير القانوني أو الاستغلال في أنشطة غير قانونية مثل التسول والسرقة، أو تجارة الأعضاء البشرية وغيرها، منتشرة في العديد من الدول عبر العالم، لكن النائبة ريزان شيخ دلير تؤكد أن الإتجار بالأطفال موجود في العراق وبشكل علني، مطالبة الحكومة بتفعيل قوانين الإتجار بالبشر.
وتقول: «رفعنا كتاباً للحكومة بهذا الصدد، ولدينا معلومات أن الأطفال الذين يتسولون أو الذين يقفون عند إشارات المرور يتم الإتجار بهم». وتوضح: «هناك شبكات إتجار بالأطفال والنساء ولديها قوة أكبر من قوة الدولة، ولهم أيادٍ داخل الأجهزة الأمنية وهناك تواطؤ مع هذه العصابات، والدولة بالتالي عاجزة عن السيطرة عليها».
من جهته، يعتبر هشام الذهبي أن «التقارير التي تتحدث عن حالات بيع للأطفال في العراق مبالغاً بها، و«لا تمثل 10 في المائة من العمليات التي تحدث في مصر والمغرب واليمن وسوريا ولبنان والعديد من الدول العربية. ولكن هناك منظمات أجنبية تعطي إحصائيات مغلوطة، الغرض منها الحصول على دعم وتمويل من خلال تسليط الضوء على هذه المشاكل». ويعتبر الذهبي أن حوادث عمالة الأطفال والإتجار بهم «طبيعية في مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية والعراقية التي تعاني من كثير من المشاكل السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية. فهي تحدث في معظم الدول وحتى بعض الدول المستقرة».
عمالة مبكرة ونبش في النفايات
يعتبر الذهبي أن زجّ عائلات عراقية لأبنائها في سوق العمل ظاهرة قديمة، لكنها شهدت اتساعاً في الفترة الأخيرة، حيث ينتشر أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 أعوام و15 عاماً في مجالات مختلفة، تاركين خلفهم مقاعد الدراسة.
وتقدر مفوضية حقوق الإنسان نسبة عمالة الأطفال في العراق بـ2 في المائة، أي ما يبلغ نحو 800 ألف طفل، وهو ما يعتبر مخالفاً لقانون العمل.
وتعتبر المفوضية أن ممارسة الأطفال للعمل يشكل خطورة عليهم بحكم طبيعة وظروف العمل الصعبة، محذرة من تعرضهم للتحرش بكل الأنواع، واستغلالهم من قبل عصابات التسول والإتجار بالبشر والمخدرات وغير ذلك.
ويبقى أن ما تسجله التقارير الرسمية وغير الرسمية عن عمالة الأطفال لا يتناسب مع حجم الكارثة التي يتعرضون لها، بحسب مختصين.
المفوضية سلطت الضوء أيضا مؤخرا على صورة معتمة لأطفال يعتاشون على النفايات الموجودة في مواقع الطمر الصحي، وسط بيئة ملوثة.
وجاء على لسان عضو مجلس أمناء المفوضية زيدان العطواني أن «فرق المفوضية باشرت بإجراء زيارات ميدانية لمواقع الطمر الصحي للتقصي عن الواقع الإنساني للقاطنين فيها من الذين هم دون مستوى خط الفقر، حيث يتواجد كثير من الأطفال وكبار السن يعتاشون على نبش هذه المواقع من نفايات ومواد بلاستيكية ومخلفات».
هذا، ويذكر العراقيون حادثة وفاة طفلة جراء انهيار نفايات عليها في موقع للطمر الصحي جنوبي بغداد، حيث كانت تنبش داخله مع أطفال آخرين، خلال نهاية شهر فبراير (شباط) الماضي.
الطفولة في مواجهة الجفاف والألغام
لا ينتهي مسلسل معاناة أطفال العراق عند ما سبق، إذ تستمر التحذيرات حول الأخطار المحدقة بهم، آخرها أرقام وإحصائيات مقلقة أعلنتها منظمة اليونيسيف، عن الواقع الذين يعيشون فيه، من خلال تقريرين تحذيريين لم يفصل بينهما أسبوع واحد.
إذ أعلنت اليونيسيف عن ارتفاع ضحايا المخلفات الحربية من الأطفال، وحذرت أيضا من خطر الجفاف الداهم على أطفال العراق.
وفي بيان، كشفت اليونيسيف عن مقتل 35 طفلًا عراقيًا وإصابة 41 آخرين بتشوهات، إثر تعرضهم لانفجارات من مخلفات حربية خلال الأشهر الماضية من العام الحالي.
وقالت ممثلة اليونيسيف في العراق شيما سن جوبتا، في بيان نشر على موقع المنظمة: «بين يناير (كانون الثاني) الماضي، وأغسطس (آب) الجاري، سجلت الأمم المتحدة خسائر في أرواح 35 طفلًا من المتفجرات من مخلفات الحرب في أرجاء البلاد، وتشوه 41 آخرين». وأشار البيان إلى «زيادة مقلقة في عدد الضحايا من الأطفال مقارنة بعام 2020، إذ تحققت الأمم المتحدة من مقتل ستة أطفال وتشوه 12 طفلًا في الفترة ذاتها، جراء المتفجرات من مخلفات الحرب والألغام الأرضية». وأعربت ممثلة اليونيسيف عن انزعاجها إزاء «زيادة وفيات وإصابات الأطفال بسبب الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب في العراق في الأشهر الأخيرة».
وحثّت حكومة العراق ومجتمع المانحين على دعم توسيع نطاق أنشطة التوعية بمخاطر الذخائر المتفجرة وتوفيرها، بحيث يتلقى الأطفال وأفراد المجتمع الآخرون التوعية بمخاطر الذخائر المتفجرة في المدارس والمجتمعات المحلية في جميع المناطق المتأثرة سابقًا بالنزاع في العراق.
وذكرت المنظمة في بيان منفصل، أن «ثمة أكثر من مليوني طفل وأسرهم سيواجهون نقصا حادا في الماء بحلول عام 2030 ما لم يتم اتخاذ إجراء الآن»، كاشفة أن «قرابة 3 من بين كل 5 أطفال في العراق ليس لديهم وصول إلى خدمات الماء الآمن، كما أن أقل من نصف المدارس في عموم البلد لا تمتلك خدمات الماء الأساسية، مما يعرض صحة الأطفال للخطر، ويهدد تغذيتهم، ونموهم المعرفي، وسبل عيشهم المستقبلية».
وفي هذا الصدد، قالت ممثلة اليونيسيف في العراق شيما سين غوبتا، بحسب البيان، إن «مستوى شح المياه في العراق ينبئ بالخطر، فالأطفال لا يستطيعون النمو ليبلغوا كامل طاقاتهم دون الماء»، وأضافت قائلة: «آن الأوان للقيام ببعض الأعمال بشأن التغير المناخي، وضمان الوصول للماء الآمن لكل طفل».
وذكرت المنظمة أن «الطلب المتزايد على الغذاء، والنمو الحضري، والإدارة السيئة للمياه، فضلا عن التغير المناخي، تضافرت جميعها لتهدد الأطفال والفقراء والمهمشين».
وبحسب اليونيسيف، فإن نصف المدارس في عموم البلد لا تمتلك خدمات الماء الأساسية؛ فيما يؤكد العاملون في السلك التربوي أن سوء الخدمات والتجهيزات في المدارس كانت سببا في تسرب الأطفال المدرسي وبدل أن تجذب المدارس الأطفال إليها أصبح الأطفال ينفرون منها، مما يشي بكارثة حلّت بالتعليم في العراق.
المدرسة بيئة طاردة
إذن لماذا تراجع دور المدرسة في حياة الطفل في العراق؟
يوضح عادل عبد الزهرة شبيب لـ«المجلة»وبالتفصيل، واقع التربية والتعليم اليوم في العراق. ويقول: «كان العراق يمتلك نظاما تعليميا يعتبر من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة حسب تقرير منظمة اليونسكو، كما كانت نسبة القادرين على القراءة والكتابة في فترة السبعينات والثمانينات من القرن العشرين عالية، وكادت الحكومة آنذاك أن تقضي على الأمية تماما من خلال حملات مكافحة الأمية؛ غير أن التعليم عانى كثيرا بسبب الحروب التي خاضها النظام الدكتاتوري، والحصار الذي فرض على العراق والتدهور الأمني، مما أثر على تدهور التعليم وارتفاع نسبة الأمية إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ التعليم الحديث في العراق».
ويتابع شبيب: «بعد عام 2003 برزت العديد من المشاكل والتحديات التي تواجه التعليم بشكل عام في العراق وهي:حوالي 70 في المائة من المدارس تفتقر إلى المياه النظيفة ودورات المياه الصحية، وحوالي 1000 مدرسة تم بناؤها من الطين والقش أو الخيام أو الكرفانات، بالإضافة إلى رداءة نوعية المدخلات أو عدم توفرها والمتمثلة في: مختبرات العلوم والمكتبات والمراسم ووسائل الإيضاح والمعدات، إضافة إلى المناهج التي عفى عليها الزمن وعدم تدريب المعلمين وظاهرة الانتشار الواسع للدروس الخصوصية التي تثقل كاهل الأسرة العراقية وخصوصا ذوي الدخل المحدود، وعدم الاستقرار الأمني واستهداف العاملين في مجال التعليم من خطف وقتل واغتيالات، تعرّض المعلمين والطلاب إلى التهجير».
ويشير إلى أن «سبب تراجع مستوى التعليم في العراق يعود إلى عدة أسباب أهمها:تسييس النظام التعليمي وتداعيات الحروب التي خاضها العراق منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى سقوط النظام السابق، والتدخلات السياسية التي تؤثر في تطوير البحوث الخاصة بالمناهج، وقلة التخصيصات المالية في موازنات العراق التريليونية التي أخذ الجانب الأمني والعسكري جزءًا كبيرا منها، وسوء الإدارة وانعدام الخطط الاستراتيجية لبناء وتطوير التعليم، إضافة إلى المحاصصة المقيتة وتأثيرها السلبي وتعرض الكثير من الطلبة والمعلمين والمدرسين إلى التهجير القسري، والأخطر هو التساهل في منح الشهادات العلمية».
ويلفت إلى أن أهم أسباب التسرب المدرسي:«تفشي ظاهرة الجامعات والمدارس الأهلية والتي من شعاراتها (ادفع تنجح)، والفروق الكبيرة بين المدارس الحكومية والأهلية من حيث التجهيزات، وافتقار العراق لأبسط معايير الجودة في التعليم نظرا لوجود أبنية مدرسية متهالكة تفتقر لأبسط الشروط الصحية، حيث يفترش التلاميذ الأرض في الصف الدراسي لعدم توفر التأثيث المدرسي وعدم مواكبتها الحداثة، وقلة وانعدام المكتبات والمختبرات العلمية، وإهمال النشاطات الرياضية والفنية، والنشاطات اللاصفية التي تحفز الأطفال على المجيء للمدرسة». ويضيف شبيب: «الكثير من المدارس العراقية تفتقر إلى أبسط شروط التعليم. فكثير منها بلا نوافذ وزجاجها مهشم والأبواب محطمة، في ظل غياب للنشاطات والرحلات المدرسية. إذ يجلس أربعة طلاب على مقعد مخصص لطالبين فقط، إضافة إلى عدم توفر الكتب والدفاتر (ولكنها متوفرة في المكتبات الخاصة) ووسائل الإيضاح والحاسبات وبقية المستلزمات الدراسية.
ويتابع أن«80 في المائة من نسبة المدارس العراقية بحاجة لإصلاحات وترميم، وبينها نسبة كبيرة تحتاج إلى فك الدوام المزدوج، ويلفت إلى نقص الأبنية المدرسية الذي لا يسمح بفك الازدواج المدرسي وفك ازدواج الشعب المدرسية، حيث تتميز كثير من الشعب المدرسية بازدحام الطلبة الشديد الذي قد يتجاوز 50 طالبا في الصف الواحد، مما يؤثر على سير العملية التعليمية والتربوية في الوقت الذي يصل فيه عدد الطلاب في الصف النموذجي إلى (18 - 25) طالبا».
ويذكر شبيب أنه «بعد 2003 والغزو الأميركي للعراق واستلام القوى الطائفية لزمام الأمور في البلاد، لاحظنا هبوطا واضحا في مستوى التعليم إلى درجة تصنيف العراق من قبل المنظمات الدولية المتخصصة من أسوأ بلدان العالم في مستوى التعليم؛ ففي العراق نجد أن ميزانية الحشد الشعبي الذي يفترض انتهاء دوره بانتهاء داعش كما أعلنت الحكومة رسميا، هي أضعاف ميزانية وزارة التربية»؛ مضيفا: «إن السبب الرئيسي في تدهور التعليم في العراق وانخفاض مستواه يعود للسياسة الحكومية التي تدير المؤسسة التعليمية، والمحاصصة في الحكم وتوزيع المؤسسات بحسب حجم الكتل الفائزة في الانتخابات التي تعتمد على الطائفية، فيما العملية السياسية برمتها قائمة على المنفعة الفئوية وهذه المنفعة شملت القطاعات التي تعني بمستقبل البلد».
ويشير إلى أنه «على الرغم من غنى العراق بثرواته المختلفة إلا أننا نجد الكثير من مدارسه من الطين. وحسب إحصاء وزارة التربية، فإن عدد مدارس الطين في العراق أكثر من 1000 مدرسة لكنها في الواقع ضعف هذا الرقم، وتقع النسبة الأكبر منها في المحافظات الوسطى والجنوبية والتي تضم (15000) طالب ويعمل فيها (7000) معلم وموظف».
ويلفت إلى أن «الحكومة لم تكن جادة في تطبيق القوانين، إذ يفترض بالتعليم أن يكون إلزاميا في المرحلة الابتدائية ومجانيا. ولكن بسبب عدم المتابعة بلغ عدد الأميين والمتهربين من الدراسة بحدود (7) ملايين طالب. وتزداد هذه النسبة بسبب الفقر واضطرار الأطفال إلى العمل لإعالة ذويهم، إضافة إلى زيادة عدد المهجرين والنازحين وعدم توفر بيئة دراسية مناسبة للطالب من كل النواحي. فيما لا توجد أي نوايا عند الحكومة لمعالجة هذه الظاهرة». ولفت إلى أنه «بالنظر لافتقار العراق إلى معايير جودة التعليم العالمي، استبعد من تقييم مؤشر جودة التعليم العالمي». كما يكشف عن ظاهرة خطيرة وهي «انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات التي تتعاظم يوما بعد آخر».
إنقاذ الطفولة
يرى شبيب أن «إنقاذ الطفولة بحاجة إلى إصلاح تربوي يرتبط بالإصلاح السياسي. وقد يبدو من العبث الحديث عن إصلاح العملية التربوية والتعليمية في العراق دون أن تسبقه خطوات جدية في إصلاح المنظومة السياسية العامة (ونفسها الطائفي المحاصصي) والتي تنعكس بدورها على إصلاح العملية التربوية والتعليمية، عبر رسم ملامح فلسفة تربوية لقطاع التربية والتعليم، قوامها الاستجابة الأكيدة للمنجزات العلمية والتقنية».
ويضيف: «كما أن هناك ضرورة لوضع الخطط لمكافحة الأمية وضمان مجانية التعليم، وتفعيل إلزاميته في الدراسة الابتدائية، ومعالجة ظاهرة التوسع المتنامي للتعليم الأهلي، وآثاره على النظام التعليمي ككل، وكذلك شمول مرحلة رياض الأطفال بالسلم التعليمي وإلزامية التعليم وفقا لما جاء في الدستور. إلى جانب وضع الطالب في مركز العملية التربوية واحترام الهيئات التدريسية وممارسة الديمقراطية في الحياة الدراسية وتشجيع النشاطات اللاصفية والاهتمام بتدريب العاملين في هذا القطاع وتحويل مجالس الآباء والمدرسين إلى هيئات ساندة للعملية التربوية».
ويختم حواره معنا متسائلا: «لماذا توجد دائما أموال طائلة لتمويل الحرب والخراب وتمويل الرئاسات الثلاث دون استحقاق، ولا تتوفر الأموال لتمويل التعليم والصحة والإعمار؟ وأي مستقبل ينتظر أطفالنا والكثير منهم قد تسرب خارج المدرسة بهدف العمل على إعانة أسرهم ولأغراض التسول في ظل الصراعات الدائمة والنزاع على المناصب على حساب المصلحة العامة؟!