إن حجم البحار قياسا إلى اليابسة يبين أهميتها القصوى للحياة البشرية فوق الكرة الأرضية، فهي تمثل أزيد من 70 في المائة من مساحة هذه الأخيرة، كما أنها تمثل شريان التواصل الإنساني الأساسي عبر القارات للتجارة والسياحة وتنقل البشر أيضا، ناهيك عما تختزنه من ثروات سمكية ضرورية لطعام الإنسان، وما تزخر به من موارد للطاقة وأخرى معدنية بالغة الحيوية للتطورات الصناعية والتكنولوجية.
ومن خلال تجارب العديد من الشعوب والإمبراطوريات التي تعاقبت على الريادة العالمية يبدو أن الأمم التي ارتادت آفاق البحار مبكرا هي التي كانت الأكثر تحررا، والأكثر تأثيرا في التاريخ البشري لدرجة أن مفكرا مثل كارل شميدث عزا انهزام بلاده ألمانيا في الحرب العالمية الأولى إلى تمكن الحلفاء من إغلاق منافذها البحرية، ما جعلها تفتقد لعنصر الالتفاف والمباغتة بعد انكشاف قواتها البرية.
ومن نعم الله على العالم العربي أن منحه موقعا جغرافيا متميزا يطل على محيطين هما المحيط الأطلسي والمحيط الهندي الذي يضم بحرا باسم العرب، فيما تتقاسم ثماني دول عربية الإطلالة على الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط ومعظم الضفة الشرقية منه، وتمتد سبع دول أخرى على طول الضفة الغربية للخليج، ويكاد البحر الأحمر أن يكون عربيا خالصا باستثناء ميناء إيلات الإسرائيلي في خليج العقبة، وشواطئ إريتريا التي تقطن جزءا منها قبائل الرشايدة العربية الأصول.
لا شك أن هذه المعطيات هي التي دفعت إلى تواتر الحديث عن امتداد أرض العرب من الماء إلى الماء؛ وذلك للتأكيد على أهمية موقعها الجيواستراتيجي في قلب الكرة الأرضية، ووسط أكثر البحار استخداما في التجارة والاقتصاد العالميين، وأغناها من حيث الثروة السمكية والمواد المعدنية الأولية الكامنة في أعماق مياهها الإقليمية ومناطقها الاقتصادية الخالصة.
وغير خاف على أحد أن موقعا استراتيجيا بهذا الحجم تتوسطه لؤلؤة قناة السويس الشريان الحيوي للتجارة العالمية، وتزينه جوهرة البحر الميت بما يمثله هذا البحر المغلق من حمولة دينية وتاريخية، لا بد وأن يثير شهية كل القوى الدولية والإقليمية للحصول على أكثر من موطئ قدم فيه، خصوصا إذا أضيفت إلى ذلك ما تتوفر عليه يابسة العالم العربي من خيرات في باطن الأرض.
وقبل أن تنفتح شهية الآخرين للبحار العربية، كان العرب أنفسهم قد خبروا أهميتها في محطات تاريخية مفصلية، وروضوها بأفضل ما كان متاحا آنذاك من إمكانيات، إذ عن طريق البحر الأبيض المتوسط فتحوا الأندلس حيث أسسوا حضارة عريقة، وبركوب أمواج المحيط الهندي نشروا الإسلام في أجزاء واسعة من شرق أفريقيا، ومن جنوب آسيا، فضلا عن الوصول بدينهم إلى جنوب إيران الحالية، وباكستان عبر السواحل العمانية.
* ينبغي التنويه بالعمل المشترك المصري الإماراتي لإقامة قاعدة عسكرية بحرية (قاعدة 3 يوليو) على مقربة من الحدود الليبية، يمكن تطويرها لتكون نواة عمل عربي مشترك أكبر على صعيد استغلال كافة الإمكانيات العربية البحرية.
فالبحر تاريخيا غير غريب عن العرب، ووعيهم بأهميته بعد استقلال دولهم كان مبكرا، وقد ترجم في عمل جماعي جسده إنشاء الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري سنة 1972 تحت رعاية جامعة الدول العربية، ومقرها مدينة الإسكندرية المصرية.
لقد بدأت الأكاديمية كأي مؤسسة عمل عربي مشترك بآمال عريضة لتطوير سياسة عربية للبحار قادرة على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية، ولكنها انتهت إلى مجرد مؤسسة تعليمية تكاد لا تحمل من العروبة سوى الاسم، وحضور بعض الطلبة القادمين إليها من دول عربية محدودة، كما أن الأبحاث والأطروحات الجامعية التي نوقشت داخلها ظلت أسيرة أدراج مكتبتها.
في مقابل ذلك، تباينت سياسات تعامل الدول العربية مع سواحلها البحرية كل حسب طاقاتها ومنظورها وحجم امتداد تلك السواحل، ولكن تلك السياسات في مجملها لم ترق في البداية إلى ما كان مأمولا منها سواء من ناحية استثمار الثروات السمكية أو ما يختزن باطن تلك السواحل من معادن، فضلا عن أن القوات العسكرية البحرية في الجيوش العربية كانت هي الأقل عددا وعدة من نظيراتها البرية والجوية.
غير أن السنين الأخيرة سجلت انفتاحا متزايدا للدول العربية على إمكانياتها البحرية، بدأ مع الاستغلال السياحي الكبير للشواطئ، وخاصة في البحرين، والإمارات، وسلطنة عمان، ومصر، وتونس، والمغرب؛ ثم تواصل من خلال توسيع موانئ قائمة كما هو حال موانئ دبي في الإمارات، والإسكندرية في مصر، وينبع السعودي، أو إقامة موانئ كبرى كميناء الطويلة في أبوظبي، وميناء طنجة المتوسط، فضلا عن إقامة تفريعة جديدة لقناة السويس، وقيام معظم الدول بتعزيز أساطيلها التجارية.
وبديهي أن يواكب هذا الانفتاح اهتماما كبيرا بتطوير قدرات القوات البحرية لحماية الاستثمارات المقامة في البحار، ولمواجهة عدد من التحديات المستجدة على الساحة الدولية من قبيل تنامي الهجرة غير الشرعية عبر السواحل العربية نحو أوروبا، وبعض الأطماع التوسعية الراغبة في موطئ قدم في باب المندب أو الاستحواذ على ثروات الغاز والبترول المشتركة في شرق المتوسط.
في هذا السياق ينبغي التنويه بالعمل المشترك المصري الإماراتي لإقامة قاعدة عسكرية بحرية (قاعدة 3 يوليو) على مقربة من الحدود الليبية، يمكن تطويرها لتكون نواة عمل عربي مشترك أكبر على صعيد استغلال كافة الإمكانيات العربية البحرية.
لم يكن بمقدور الولايات المتحدة الأميركية ريادة العالم عسكريا وتجاريا دون سيطرتها منذ مطلع القرن الـ20 على المحيط الأطلسي، كأكبر شريان مائي واصل بين القارات، ولم يلتفت ساستها إلى أهميته لولا الدراسات الأكاديمية المعمقة التي قادها كل من ألفريد ماهان ونيكولاس سبيكمان، اللذين ظلا يحثان قادة أميركا على تطوير قوات المارينز البحرية كقوة نخبة في الجيش الأميركي. فهل سنشهد ميلاد قوات مارينز عربية ذات يوم؟
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.