باكو: في زيارة أميركية ثانية منذ القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو (تموز) الماضي (2021)، استقبلت الجمهورية التونسية في الرابع والخامس من سبتمبر (أيلول) الجاري، وفدا من الكونغرس الأميركي برئاسة كل من السيناتور كريس ميرفي، والسيناتور جون أوسوف عن الحزب الديمقراطي. وقد أثارت هذه الزيارة جدلا واسعا بين الأوساط السياسية التونسية حول الموقف الأميركي من الأحداث التي شهدتها البلاد في ظل الأزمة التي تشابكت خيوطها وتعقدت مساراتها وصولا إلى الوضع الذي حاول فيه الرئيس قيس سعيد بدء الانطلاق لحل هذه الأزمة من خلال حزمة القرارات الرئاسية التي أوقفت النزيف الاقتصادي والصدام الاجتماعي الذي كاد أن يعصف بالدولة التونسية ويُدخلها في نفق مظلم من التمترس بين مؤسسات الدولة السياسية (الرئاسة والحكومة والبرلمان)، فكانت قراراته بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وإقالة الحكومة كخطوة أولى لمدة ثلاثين يوما وذلك وفقا لأحكام الفصل الثمانين من الدستور، ثم تم مدها إلى أجل غير محدد بعد مرور فترة الثلاثين يوما.
والحقيقة أن الجدل الذي صاحب هذه الزيارة أثار بعض التساؤلات حول أسبابه ودوافع أطرافه، ومآلات الموقف الأميركي من الأزمة التونسية، ذلك الموقف الذي عبر عنه توقيت هذه الزيارة، حيث جاءت بعد أيام من قرار الرئيس التونسي بتمديد القرارات التي سبق اتخاذها دون تحديد سقف زمني محدد لما يمكن أن تسفر عنه الأزمة في نهايتها، وهو ما يمكن معه القول إن من بين الأهداف الرئيسية لهذه الزيارة الوقوف على المستجدات في رؤية الرئيس قيس سعيد لمستقبل الأوضاع التونسية من ناحية، والاستماع إلى مرئيات الأطراف التونسية الأخرى، وذلك لمعاونة الإدارة الأميركية في تحديد طبيعة سياستها تجاه المسارات المتوقعة للأزمة في قادم الأيام، يدلل على ذلك ثلاثة مؤشرات:
الأول: المكانة التي تحظى بها تونس في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة بصفة عامة وفي الشمال الأفريقي على وجه الخصوص، إذ يمكن القول إن تونس أضحت محل اهتمام واسع النطاق من جانب الولايات المتحدة منذ أحداث 2011، وقد تزايدت هذه الأهمية منذ عام 2015 حينما صنفت واشنطن تونس على أنها حليفة رئيسية للولايات المتحدة من خارج الناتو، ما سمح بتعزيز التعاون العسكري بين البلدين اللذين يجريان مناورات مشتركة بانتظام، كان آخرها الاتفاق الذي وقعه البلدان في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2020، وتصل مدته 10 سنوات يغطي تدريب القوات التونسية وخدمات صيانة الأسلحة الأميركية. ولا شك أن التطورات التي تشهدها تونس اليوم من شأنها أن تؤثر على المصالح الأميركية في القارة الأفريقية والمنطقة، وذلك من ناحيتين:
- الجوار الجغرافي للدولة الليبية التي تمثل ساحة مهمة للمصالح الأميركية المتنافسة مع الأطراف المنغمسة في الأزمة وعلى وجه الخصوص الطرف الروسي.
- مستقبل دور حركات الإسلام السياسي التي تعتبرها الولايات المتحدة معتدلة من وجهة نظرها في المنطقة العربية، حيث مثلت حركة النهضة التونسية نموذجا من وجهة النظر الأميركية لكيفية دمج الإسلام السياسي في بنية الدولة.
المؤشر الثاني: الإسراع الأميركي بالتجاوب مع تطورات الأزمة عقب القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد الذي تلقى مكالمتين هاتفيتين من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، فى 26 يوليو 2021 أي في اليوم التالي لقراراته، وبعدها بأيام قليلة تلقى اتصالا آخر من جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي. وذلك بالرغم من عدم التدخل الأميركي طوال فترة الأزمة السياسية التي واجهتها تونس قبل تلك القرارات.
* تونس أضحت محل اهتمام واسع النطاق من جانب الولايات المتحدة منذ أحداث 2011، وتزايدت هذه الأهمية منذ عام 2015 حينما صنفت واشنطن تونس على أنها حليفة رئيسية
المؤشر الثالث: على العكس من الزيارة الأولى التي قام بها النائب الأول لمستشار الأمن القومي الأميركي بتاريخ 13 أغسطس (آب) 2021 والتي اقتصر اللقاء فيها على الرئيس التونسي قيس سعيد، جاءت الزيارة الثانية برؤية أوسع نطاقا تجسدت في عقد لقاءات مع أحزاب سياسية ومؤسسات المجتمع المدني، إذ عقد وفد الكونغرس لقاء مع ممثلي حزب النهضة التونسي، بما يعطي دلالة على أن مهمة الوفد هي محاولة قراءة رؤية الأطراف التونسية حيال ما يمكن أن تؤول إليه الأزمة في المستقبل، حيث كشف النائب المستقل حاتم المليكي أن «وفد الكونغرس الأميركي الذي زار تونس أجرى مجموعة من اللقاءات، من بينها مع ممثلين عن البرلمان التونسي وعن المجتمع المدني... حيث حضرت النائبة سيدة الونيسي ممثلة عن حركة النهضة، والنائب الأول لرئيس البرلمان سميرة الشواشي ممثلة عن حزب قلب تونس، ومروان فلفال ممثلاً عن حزب تحيا تونس، فيما حضرت بصفتي نائباً مستقلا»، موضحا في الوقت ذاته ما جرى في هذا اللقاء، حيث ذكر أن: «الحوار دار حول مقاربتين؛ واحدة من جهة حركة النهضة وقلب تونس اللذين اعتبرا ما حدث في 25 يوليو انقلاباً واعتداء على الدستور والحقوق والحريات، وأن الوضع غير دستوري ووضع انقلابي. وفي مقابل ذلك كان هناك رأي مخالف، اعتبرنا فيه أن لقرارات 25 يوليو مبرر موضوعي بانسداد الآفاق الاقتصادية والاجتماعية، والمطروح اليوم هو إيجاد صيغة جديدة للحياة السياسية ومحاربة الفساد، وانتخابات سابقة لأوانها وللخروج من الأزمة التي تعيشها تونس».
وفي هذا الخصوص تجدر الإشارة إلى أن هناك بعض المنظمات والأحزاب الأخرى التي رفضت دعوة السفارة الأميركية لمناقشة الأزمة السياسية مع وفد الكونغرس، تأكيدا على موقفها الرفض لأية تدخلات خارجية في الشأن التونسي الداخل، ومن بينها اتحاد الشغل ورابطة حقوق الإنسان وحركة الشعب وحزب العمال والدستوري الحر.
وفي ضوء هذه المؤشرات الثلاثة التي كشفت عن التوجه الأميركي في التعاطي مع الأزمة التونسية، ذلك التوجه الذي لا يزال يبحث عن مقاربة جديدة تحافظ على المصالح الأميركية في المنطقة دونما فقد الحليف الجديد الذي كسبته الولايات خلال الخمس سنوات الأخيرة. ولذا كان الحرص الأميركي على أن يكون ثمة تواصل مباشر مع الأطراف التونسية المختلفة. صحيح أن التواصل تركز منذ بداية الأزمة مع الرئيس التونسي قيس سعيد كما سبقت الإشارة، إلا أن التطورات التي شهدتها الأزمة مع التمديد غير محدد المدة الذي أقدم عليه الرئيس قيس سعيد بشأن الإجراءات التي اتخذها، دفعت الولايات المتحدة إلى توسيع دائرة حواراتها مع مختلف الأطراف الأخرى كما سبق الذكر، مع الاستمرار في التواصل المباشر مع الرئيس التونسي كونه الفاعل الأكثر تأثيرا في إدارة الأزمة وتوجيه دفة تحركاتها. وقد كشفت جولات التواصل المباشر التي جمعت الرئيس التونسي قيس سعيد وكبار المسؤولين الأميركيين عن موقفين يحملان في مضمونهما دلالات غير متطابقة بشأن رؤية كل طرف للأزمة ومسارها المستقبلي، وهو ما يمكن رصده فيما يأتي:
أولا: الموقف الأميركي، إذ إنه من غير المبالغة القول إن الموقف الأميركي لم يتبلور بشكل نهائي فيما يتعلق بكيفية التعاطي مع الأزمة التونسية بشكل حاسم ودقيق. صحيح أنه ظل يتمحور حول المطالبة باستعادة المسار الديمقراطي، كما غرد بذلك السيناتور الأميركي كريس ميرفي على حسابه في «تويتر» مباشرة بعد مغادرته قصر قرطاج، حيث جاء في تغريدته: «انتهيت لتوي من لقاء الرئيس التونسي قيس سعيد في قصر قرطاج، ها هي قراءتي السريعة: الحث على العودة السريعة إلى المسار الديمقراطي والإنهاء السريع لحالة الطوارئ. لقد أوضحت أن مصلحة الولايات المتحدة الوحيدة هي حماية وتعزيز ديمقراطية واقتصاد سليمين للتونسيين». ولكن رغم هذه المطالبة بالعودة إلى المسار الديمقراطي، إلا أنها لم تفرض سيناريو أو تصورا محددا لما يمكن أن تسير فيه تطورات الأزمة، كما أكد على ذلك أيضا السيناتور الأميركي ميرفي في ذات التغريدة السابق الإشارة إليها، حيث جاء فيها: «نحن لا نفضل أي طرف على آخر وليس لدينا أي مصلحة في دفع أجندة إصلاحية على أخرى، على التونسيين أن يقرروا في هذه المسائل... وأن الولايات المتحدة ستستمر في دعم ديمقراطية تونسية تستجيب لاحتياجات الشعب التونسي وتحمي الحريات المدنية وحقوق الإنسان».
* تخشى أميركا من ممارسة ضغوط على الرئيس التونسي لعودة البرلمان المجمد والذي تهيمن عليه جماعة الإخوان، بما قد يدفعه إلى الابتعاد كلية عن الولايات المتحدة والبحث عن شركاء آخرين
ويمكن قراءة الموقف الأميركي غير المتبلور والذي لا يزال يبحث عن رؤية محددة، في ضوء عاملين: الأول، إعادة الولايات المتحدة لرؤيتها في الارتكان إلى جماعات الإسلام السياسي في المنطقة والذي يعبر عنها حزب النهضة التونسي، فالإخفاق الذي أصاب هذه الجماعات في كل دول المنطقة ما بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013 في مصر، دفع واشنطن إلى إعادة ترتيب أوراقها والبحث عن بدائل قادرة على التفاعل والاندماج مع الشركاء السياسيين بعيدا عن إثارة الأزمات التي يعاد تصديرها في المنطقة التي تسعى واشنطن للانسحاب منها، مع خلق وكلاء قادرين على ضبط الإيقاع، ولعل النظرة الأميركية الجديدة لما تحاول تطبيقه في أفغانستان بعودة حركة طالبان بخطاب تصالحي جديد يمكن أن يمثل النموذج الذي تحاول الولايات المتحدة تعميمه في دول المنطقة بعد إخفاق نموذج جماعة الإخوان. أما العامل الثاني، فيتمثل في خشية الولايات المتحدة من ممارسة ضغوط على الرئيس التونسي قيس سعيد لعودة البرلمان المجمد والمهيمن عليه من جماعة الإخوان، بما قد يدفعه إلى الابتعاد كلية عن الولايات المتحدة والبحث عن شركاء دوليين آخرين يساندونه في استكمال مسيرته السياسية في تشكيل حكومة جديدة وبرلمان جديد، بما يعنى خسارة حليف إقليمى مهم.
ثانيا: موقف الرئيس التونسي. في مقابل هذا الموقف الأميركي، جاء موقف الرئيس التونسي الذي ظل هو الآخر مؤكدا على أن تحركه يأتى اتساقا مع صحيح القانون والدستور الذي يمنحه صلاحية اتخاذ تدابير استثنائية في حالة وجود خطر داهم يهدد الأمن القومي، في وقت لم تتشكل بعد المحكمة الدستورية التونسية، المنوط بها الفصل في مثل هذه الأمور، وقد أكد على ذلك صراحة خلال لقائه مع الوفد الأميركي بقوله: «أرجو من أصدقائي الأميركيين أن يستمعوا إلى نبض الشارع التونسي... يتحدثون عن انقلاب ولا يعرفون القانون بل يشوهون القانون، وما وقع لا يمكن أن يكون انقلابا إلا إذا كان خارج الشرعية الدستورية لكنني استعملت الدستور ضد خطر داهم و جاثم»، وذلك في إشارة إلى ما جرى من جانب حزب النهضة الذي عطل مؤسسات الدولة عن عملها. رافضا في الوقت ذاته ما أقدم عليه الحزب وحلفاؤه في تعاطيهم مع قراراته التي هدفت إلى حماية الدولة والمواطن الذي واجه أزمة حياتية مع تفاقم تداعيات جائحة كوفيد-19، وذلك بقوله: «يذهبون إلى الخارج من أجل تشويه صورة بلدهم ويدفعون الأموال للدعاية... اعتبروا الدولة أداة لتشويه الشعب، وصارت أعداد الموتى بالمئات ولا يجدون حتى الأكسجين ولما رأيت التونسيين كيف عادوا إلى الشارع يطالبون بحقهم في الحياة والكرامة وحين بدأت الدولة تتهاوى التجأت إلى النص الدستوري الذي يتيح لي اتخاذ هذه التدابير الاستثنائية في ظل احترام الدستور و القيم الأخلاقية».
خلاصة القول إن ما خلصت إليه زيارة وفد الكونغرس الأميركي رغم ما أثير بشأنها من جدل ونقاشات عديدة بين مختلف أطياف العمل السياسي في تونس، تظل نتائجها محصورة في ذات النتائج التي خلصت إليها الزيارة الرسمية الأولى التي قام بها النائب الأول لمستشار الأمن القومى، وهي البحث عن مدخل مناسب يسمح للإدارة الأميركية بلعب دور فى حلحلة الأزمة التي تزداد وطأتها وشدتها على المواطن التونسي في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة مع عودة الموجة الرابعة لجائحة كوفيد-19 والتي تنذر بمزيد من الضحايا والمصابين ما لم تتخذ الرئاسة التونسية خطوات سريعة في حل الأزمات الخمس التي تنتظرها كما أشار إلى ذلك سليم اللغماني، أستاذ القانون الدستوري، بأن: «ثمة خمس أولويات دستورية وسياسية تحظى باهتمام الرئيس التونسي قيس سعيد، وتحتاج إلى الحسم الفوري، على رأسها تشكيل الحكومة الجديدة، واقتراح مخرج دستوري، إما بتغيير الدستور التونسي الحالي وإما بتعديله، وكذلك إرساء المحكمة الدستورية، والحسم في دور الهيئات الدستورية المستقلة، وتوضيح رؤيته في ما يتعلق بحقوق الإنسان والحريات الفردية، علاوة على تحديد الدور المستقبلي للأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية والجمعيات الأهلية». وذلك كله دون أن يغفل الملفات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تزداد حدتها كلما كان هناك تأخر في حسمها، وهو ما يجعل دعم الدولة التونسية وتقديم المساعدات لها واحدا من الاستحقاقات الواجبة على مختلف الأطراف على غرار ما قامت به المملكة العربية السعودية ومصر في تقديم المساعدات الطبية والعينية إلى الشعب التونسي، وذلك على العكس مما جاء في مطالبات بعض أعضاء الكونغرس الأميركي بوقف المساعدات الموجهة إلى تونس (في إشارة إلى النائبة إلهام عمر)، ذلك هو الفارق في المواقف التي جعلت الشعب التونسي يشيد بالدورين المصري والسعودي في مقابل رفضه حتى مقابلة ممثلي المؤسسات الأميركية كما كان موقف غالبية القوى السياسية التونسية باستثناء حزب النهضة الذي وجد في هذا الوجود دعما جديدا له على حساب مصلحة دولته كما عبر عن ذلك النائب المستقبل حاتم المليكي شارحا ما جرى في الحوار مع الوفد الأميركي كما سبقت الإشارة، إذ أكد على أن كلا من حزب النهضة وقلب تونس دافعا عن عودة البرلمان بتركيبته نفسها، سعيا لتحقيق مصالحهم، متناسين في الوقت ذاته إخفاقاتهم المتتالية وعرقلتهم المستمرة لمؤسسات الدولة لأدائها ومهامها.