
وفقا للنتائج لم ينجح مشروع دمج الميليشيات، بدليل ما حصل في الموصل وتكريت، حيث إن من بين أهم أسباب سقوط هاتين المحافظتين بيد «داعش» هي سياسات رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. فالرجل من وجهة نظر خصومه حاول - لا سيما في حكومته الثانية - الاستعانة بميليشيات معروفة وقفت إلى جانبه. فهناك ميليشيات حتى وإن ظهر فيما بعد أنها أقرب إلى الوجود الإعلامي أكثر من الحقيقي اعتبرته «مختار العصر» ورفعت صوره بهذا الاتجاه بينما ينظر الشارع العراقي إلى جماعة «عصائب أهل الحق» على أنها ميليشيا تابعة للمالكي.
سلاح الميليشيات أفتك من أسلحة الدولة
لا أحد في العراق يحب الميليشيات لكن الجميع يخشاها. مفردة ميليشيا هي الأكثر رعبا وتداولا بين العراقيين. تنتعش في الأزمات. لذلك لا تحب الاستقرار وفرض القانون. قانونها الفوضى وضحاياها الأبرياء. تكررت تسمياتها وتعددت أساليب هيمنتها على الشارع حتى تغلغلت في الدوائر والمؤسسات وصارت هي القانون والقاعدة وكل ما عداها شواذ. سلاحها أفتك من أسلحة الدولة بينما كل المسؤولين يضعون في أولويات برامجهم حصر السلاح بيد الدولة دون أن يكلف أحد منهم نفسه طرح السؤال المخيف.. أين هي الدولة أولا؟. بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 ظهرت على السطح بين ما ظهرت مشكلة الميليشيات في العراق لا سيما تلك التي تشكلت في الخارج وكانت جزءا من المعارضة العراقية التي تحالفت مع الولايات المتحدة الأميركية لإسقاط النظام العراقي السابق. فكان أن أصدر الحاكم المدني الأميركي بول بريمر قرارا دمج فيه الميليشيات بالمؤسسة الأمنية والعسكرية. كان قرار دمج الميليشيات بمثابة دق آخر مسمار في نعش المؤسسة العسكرية العراقية ببعدها العقائدي والاحترافي والمهني. فالقرار الذي حمل الرقم 91 لعام 2003 القاضي بانخراط الميليشيات التي ساعدت الأميركان باحتلال العراق وتم من خلالها تشكيل ما أطلق عليه الجيش الجديد. ولكون غالبية الميليشيات التي تشكلت في الخارج أو كانت بمثابة أجنحة عسكرية لأحزاب سياسية تولت السلطة بعد عام 2003 فقد اهتزت التركيبة الاجتماعية والقومية والمذهبية التي يتكون منها الجيش العراقي في مجتمع تعددي مثل المجتمع العراقي وهو ما أدى إلى الإخلال بمبدأ التوازن الذي نص عليه الدستور العراقي في المادة التاسعة منه التي تنص «تتكون القوات المسلحة والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي بما يراعي توازنها وتماثلها».
[inset_right]حامد المطلك : المشكلة الأساسية هي أن الحكومة بكل ما لديها من أجهزة عسكرية وأمنية غير قادرة على حماية المواطنين[/inset_right]
وعلى الرغم من أن القرار الخاص بدمج الميليشيات لم يجعلها تنصهر في بوتقة الجيش الجديد بسبب فقدان عامل أساسي وهو تسريح الغالبية العظمى من عناصره المهنية والكفؤة لأسباب تتعلق بالطائفية أو الاجتثاث، فإن الذي حصل فيما بعد هو ظهور ميليشيات جديدة بعد قرار الدمج. وإذا كانت قوات البيشمركة الكردية ومنظمة بدر وفصائل أخرى أقل أهمية هي التي شملت بالدمج فإن أبرز الميليشيات والفصائل التي تشكلت فيما بعد هي جيش المهدي بزعامة مقتدى الصدر وعصائب أهل الحق التي انشقت عنه بزعامة قيس الخزعلي وكتائب حزب الله فضلا عن لواء أبو الفضل العباس. ولعل المفارقة اللافتة على صعيد تكوين وتركيب الجيش العراقي السابق أنه في الوقت الذي يتشكل فيه من غالبية سنية من كبار الضباط فإن الغالبية العظمى من منتسبيه من صغار الضباط والمراتب والجنود هم من الشيعة. مركزية الأنظمة السابقة ملكية كانت أم جمهورية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 انسحبت على المؤسسة العسكرية التي بقيت محافظة على طابعها الوطني. لكن بعد الاحتلال وعلى الرغم من أنه حتى في البرنامج الحكومي الذي قدمه رئيس الوزراء العراقي الجديد حيدر العبادي ونال ثقة البرلمان فإن من بين أهم ما ورد فيه هو «حصر السلاح بيد الدولة» بينما الجهات الأكثر قوة وفتكا بالشارع هي الميليشيات لا سيما تلك التي تعد محسوبة على الدولة بشكل آو بآخر.
ما قبل «القاعدة» ما بعد «داعش»
مرت الميليشيات بثلاث مراحل بعد عام 2003 وهي مرحلة الدمج التي استمرت منذ عام 2003 إلى عام 2006 وهي المرحلة التي سبقت بروز تنظيم القاعدة الذي اتخذ من المناطق الغربية أو ما سمي بـ«المثلث السني» حاضنة له. ومرحلة ما بعد عام 2006 حيث تفجرت الحرب الطائفية بعد تدمير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء خلال شهر فبراير (شباط) عام 2006 ومرحلة ما بعد يونيو (حزيران) عام 2014 حيث احتل تنظيم داعش في غضون يومين كلا من محافظتي نينوى «الموصل» وصلاح الدين «تكريت» وأجزاء من محافظة ديالى فضلا عن مناطق واسعة من الأنبار. «القاعدة» أو «داعش» هو النظير السني للميليشيات الشيعية لكن الفرق أن ذلك مصنف إرهابيا وهذه أقصى ما يمكن تصنيفها به أنها خارجة عن القانون. وإذا كانت البيئة السنية تبدو حاضنة لـ«القاعدة» سابقا ولـ«داعش» حاليا فإن الميليشيات الشيعية تنتشر في المناطق الشيعية من باب حمايتها من تلك المجاميع الإرهابية. وبين ما هو إرهابي وما هو خارج عن القانون فإن إشكالية الميليشيات تبقى تكمن في مفهوم الدمج. فالقرار وإن لم يبق ساري المفعول إلا أن معظم هذه الميليشيات وبناء على الظروف المتغيرة تجد دائما نفسها قادرة على أن تكون جزءا من المنظومة الأمنية لكن تعمل لحساب جهات أخرى. فالتحدي الذي مثلته القاعدة منح جيش المهدي امتدادا واسعا داخل المناطق الشيعية طوال أعوام 2006 - 2008. وظروف الوضع في سوريا ومحاولات داعش هدم قبور ومراقد الأئمة الشيعة هناك أدت إلى بروز مجاميع مسلحة أخرى مثل أبو الفضل العباس والعصائب كما أن تحدي داعش في العراق بعد احتلاله الموصل وتمدده باتجاه بغداد أدى إلى تطور في غاية الأهمية في وضع الميليشيات هو بروز العصائب وكتائب حزب الله ومن ثم بدر «خصوصا في معركة آمرلي» في وضع أهم بكثير من الجيش الذي لا يزال يعاني «نكسة الموصل».
واختلطت الأوراق
حتى عشية احتلال الموصل في العاشر من يونيو عام 2014 من قبل تنظيم «داعش» لم يكن السجال السياسي السني - الشيعي يرتفع إلى مستوى تحد مشترك يتمثل في احتلال أرض وإعلان دولة (دولة الخلافة الإسلامية بزعامة أبو بكر البغدادي). مظاهر الاحتجاج التي عبرّ عنها العرب السنة في العراق طوال عام 2013 في عموم المحافظات السنية الخمس (الأنبار، صلاح الدين، ديالى، كركوك، الموصل) كانت تتمحور بالدرجة الأساس بعدم وجود جيش عراقي مهني ممثل لكل الطوائف مع اتهامات واضحة للكثير من قطعات هذا الجيش بالقيام باستفزازات ذات طبيعة طائفية لا سيما في المناطق المختلطة مذهبيا. في مقابل ذلك فإن الانهيار السريع للجيش العراقي وتهديد المراقد الشيعية المقدسة في سامراء وبغداد وكربلاء والنجف أدى إلى إصدار المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني فتوى «الجهاد الكفائي» لمواجهة داعش. وبينما بدت هذه الفتوى نوعا من الحل الاضطراري لمواجهة داعش فإنها وفي ظل الإنهاك الذي تعانيه المؤسسة العسكرية العراقية مثلّت حاضنة مثالية للميليشيات الشيعية التي وجدت من وجهة نظر المجتمع السني ذريعة لمزيد من الممارسات السلبية تحت باب محاربة الإرهاب.
بينما بدت لعقلاء الشيعة أمرا آخر أدى إلى تجنب حرب طائفية طاحنة. الأكاديمي ورجل الدين الشيعي المقرب من الحوزة العلمية عبد الحسين الساعدي أكد في حديث لـ«المجلة» أن «هناك خطأ في فهم طبيعة ما صدر عن السيد السيستاني حيث إن ما صدر ليس فتوى بالمعنى الفقهي للفتوى بل هو أمر وتوجيه يهدف لحماية المراقد المقدسة بعد أن أعلن تنظيم داعش أنه بصدد تهديمها وبالفعل هو بدأ في الموصل بتهديم مراقد وأضرحة الأنبياء والأولياء وبالتالي فإن تهديد الأماكن المقدسة عند الشيعة يمكن أن يشعل فتيل حرب طائفية لا تبقي ولا تذر».
[inset_left]فائق الشيخ : فكرة حصر السلاح بيد الدولة التي وردت في البرنامج السياسي لحكومة العبادي تناقض معها مشروع تشكيل حرس وطني في كل محافظة[/inset_left]
وأضاف أن «المرجع الأعلى كان يدرك تماما حقيقة ما يمكن أن يصدر عن جهات غير منضبطة (في إشارة إلى الميليشيات) ولذلك فإنه حرص سواء على مستوى الأمر أو حتى الفتوى إذا تعاملنا معها على هذا المستوى على تقنين الأمر على مستويين الأول هو التطوع حسب الكفاية وليس بالمطلق وهو أمر تحدده الجهات الرسمية والثاني يرتبط المتطوعون بالقوات المسلحة وليس بالجهات أو القوى أو الأحزاب التي ينتمون إليها». لكن عضو البرلمان العراقي عن محافظة الأنبار السنية غربي العراق وعضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية حامد المطلك يرى في حديث لـ«المجلة» أن «المشكلة الأساسية هي أن الحكومة بكل ما لديها من أجهزة عسكرية وأمنية غير قادرة على حماية الناس وهو الهدف الأول لأي حكومة ومنظومة أمنية في العالم». ويضيف «ويبدو من باب المفارقة أن تحل الميليشيات محل الدولة في فرض قانونها الخاص الأمر الذي أدى إلى تراجع قدرة الدولة حتى أصبح ذلك حقيقة واضحة بعد سقوط الموصل حيث تحررت الميليشيات تماما بل باتت في الصدارة عبر مسميات جديدة وأصبح ينسب لها بطولات وهي من حررت البلدة الفلانية والمكان الفلاني»، مشيرا إلى أنه «وعلى الرغم من أن التحول في ميزان القوى حصل بسبب التدخل الأميركي فإن أجهزة الإعلام التي يخضع الكثير منها لسيطرة الميليشيات أو الجهات الساندة لها يغض النظر عن ذلك بل إنه يهاجم أميركا بوصفها قوة احتلال». ويوضح المطلك أن «الفشل هنا مركب فهناك فشل سياسي ينعكس بالضرورة على الأداء الأمني وفشل أمني بسبب عدم بناء المنظومة الأمنية على أسس مهنية صحيحة وهو ما يجعل الأمور دائما في وضع بالغ الحراجة». ويدعو المطلك إلى «إعادة النظر بكل شيء من السياسة إلى الأمن وإعادة بنائه بطريقة مهنية حرفية وليست عرقية طائفية لم نجن منها طوال السنوات العشر الماضية سوى الخراب والدمار».
ميليشيا حسب الطلب
لا نبتعد كثيرا عن الحقيقة عندما نقول إن الحكومة العراقية بنسختها الجديدة برئاسة حيدر العبادي استسلمت لفكرة بدت هي الأمر الواقع لا سيما بعد أن اختلطت الأوراق على الجميع. وبينما لم يعد ممكنا بعد اليوم إنهاء الميليشيات التي جرى تنظيم دورها عبر ما يسمى «الحشد الشعبي» وعودة أخرى بواجهات جديدة حتى لمن دخل منها العملية السياسية وأصبح لها نواب في البرلمان ووزراء في الحكومة (بدر لها 22 مقعدا وعدة وزارات، الصادقون التي هي الجناح السياسي لعصائب أهل الحق لها مقعدان في البرلمان في إطار ائتلاف دولة القانون، وسرايا السلام التابعة للتيار الصدري وهي البديل لجيش المهدي الذي جمده زعيمه ومؤسسه مقتدى الصدر) فإن المتغير الجديد وفي ضوء البرنامج السياسي الذي طرحه رئيس الوزراء حيدر العبادي هو تأسيس حرس وطني في كل محافظة يتشكل من أبناء المحافظة نفسها. بدا الأمر هنا وكأنه ليس فقط إعادة دمج لـ«الميليشيات» ثانية بل شرعنتها بطريقة بدت مقنعة للطرف السني هذه المرة.
وبينما أيد قادة سنة هذا التوجه بوصفه أهون الشرور في الخلاص من الميليشيات التي تحمل لونا طائفيا واحدا فإن قادة التيار المدني الليبرالي عدوا ذلك بمثابة نهاية لفكرة الدولة المؤسساتية في العراق التي يجب أن تستند إلى جيش مهني قوي ومحترف مثلما يرى السياسي العراقي والقيادي في التحالف المدني الديمقراطي فائق الشيخ علي في حديث لـ«المجلة» حيث يقول إن «فكرة حصر السلاح بيد الدولة التي وردت في البرنامج السياسي لحكومة الدكتور حيدر العبادي للسنوات الأربع المقبلة تناقضت معها تماما فكرة تشكيل حرس وطني في كل محافظة»، متسائلا «كيف نحصر السلاح بيد الدولة بينما سيكون لكل محافظة جيش محلي يمكن أن يخرج في أي وقت عن سيطرة الدولة خصوصا في ظل التناقضات والتناحرات السياسية والطائفية والعرقية». ويرى الشيخ علي أنه «مما يؤسف له أن الحكومات المتعاقبة بعد التغيير فشلت في التعامل بحزم مع الميليشيات بسبب ضعف القانون ولذلك وجدت الآن مخرجا يتمثل في إخراجها من الباب وعودتها من الشباك».
غير أن القيادي السني في كتلة متحدون محمد الخالدي يرى في حديث لـ«المجلة» أن «تشكيل الحرس الوطني المحلي يهدف بالدرجة الأولى إلى وضع حد لسلطة الميليشيات التي لم يعد بمقدورها التحرك خارج إطار محافظاتها أو المناطق التي تمثل بيئة اجتماعية أو مذهبية لها»، مؤكدا أن «العرب السنة سوف يتولون عبر هذه التشكيلات وفي إطار ما ينوون عمله وهو تشكيل إقليم سني إلى تحرير مناطقهم من التنظيمات الإرهابية بالإضافة إلى عدم دخول الميليشيات بحجة فرض الأمن أو الملاحقة أو غيرها لأن هذا سوف يتناقض مع وثيقة البرنامج السياسي التي اتفقت عليها الكتل السياسية ونالت ثقة البرلمان».