شهدت الساحة السياسية الليبية في الأيام الأخيرة ارتباكا حقيقيا على وقع أحداث مغايرة للتوقعات التي بنت عليها عدة أطراف رؤيتها، حيث إن المشهد أصبح ضبابيا أكثر وأكثر، وذلك على وقع تصريحات رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح والتي دعا فيها إلى ضرورة إنجاز الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد سلفا في ديسمبر (كانون الأول) القادم، لأنها السبيل الوحيد لإنهاء حالة الانقسام الحاد في ليبيا، متهما بعض النواب بمحاولة تعطيل هذا الاستحقاق لمصالح جهات أخرى (لم يسمها)، وذلك بعد إقرار قانون انتخاب الرئيس بالإجماع ودون اعتراضات.
ولم تتوقف اتهامات صالح عند هذا الحد، ولكنها طالت مجلس الدولة عندما وجه له اتهامات بأنه وجد أساسا للعمل على استمرار الفوضى في ليبيا، وأن مجلس النواب هو السلطة الوحيدة المختصة بإصدار التشريعات، ومشيرا، إلى أن المحاكم ألغت قرارات حكومة السراج.
وما زاد من ارتباك المشهد الليبي إعلان سيف الإسلام القذافي ترشحه للرئاسة، خلال ذكرى «الفاتح من سبتمبر»، خاصة بعد إصدار عدة تصريحات من عدة جهات، منها المتحدث باسم البرلمان، وحكومة الدبيبة حول أحقية القذافي في الترشح للانتخابات إذا انطبقت عليه الشروط.
كما أن المشهد اعترته حالة أخرى من التساؤلات حول مصير الساعدي القذافي بعد الإفراج عنه، ومغادرته إلى الأراضي التركية، ودلالت هذه الخطوة في مثل هذا التوقيت وهل خروج الساعدي القذافي هو مؤشر على وجود تفاهمات سياسية، بين اللاعبين الإقليميين، والدوليين، والولايات المتحدة الأميركية وروسيا، مع بعض الأطراف الداخلية؟ أم إن هناك خططا لم تتضح معالمها بعد، يكون خروج الساعدي القذافي مؤشرا لها، خاصة وأن أحكام البراءة بحقه تم تجاهلها منذ زمن بعيد ولم يتم تنفيذها سوى الآن؟ وهل سيؤثر ذلك على حظوظ وفرص سيف الإسلام في الانتخابات القادمة حال إتمامها؟ وهل تصريحات رئيس البرلمان عقيلة صالح جاءت في صالح العملية السياسية واستقرار البلاد؟ أم إنها جاءت لإرباك المشهد أكثر فأكثر، وتعطيل العملية الانتخابية برمتها؟
توقيت طبيعي.. ومساومات محتملة
توقيت إعلان سيف الإسلام القذافي الترشح رسميا للانتخابت الرئاسية في ليبيا هو توقيت طبيعي جدا، حسب المحلل السياسي الليبي عثمان بن بركة، عضو التيار الوطني للمهندس سيف الإسلام القذافي؛ لأنه «جاء استجابه للمطلب الشعبي ليلة الفاتح من سبتمبر (أيلول)، وهذا التوقيت منطقي جدا، وهو يمثل امتدادا للنضال وعدم الفصل التاريخي، فعندما تطلب منه الجماهير أمرا، لا يكون أمامه إلا الاستجابه لمطالبهم، لأن ما يهمنا هو ما تريده الجماهير الليبية»، مضيفا: «الناس تريد المهندس سيف الإسلام، رئيسا للبلاد في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ ليبيا، وأعتقد أن فرصه قوية لأن الخصوم جميعهم ليسوا في مستوى المنافسة، وإن كان لدى هؤلاء الخصوم المال، فالمهندس لديه الجماهير وهذه الإرادة الحقيقية».
وفي معارضة لهذا الطرح، قال الكاتب والمحلل السياسي الليبي عز الدين عقيل، لـ«المجلة»: «الحديث ما يزال دائرا عن نية سيف الإسلام القذافي فقط إعلان ترشحه رسميا، بيد أن هذا لم يقع بعد حتى الآن. والحقيقة أنه من غير المعقول أن يعلن شخص عن ترشحه لانتخابات رئاسية وهو مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية بطلب من مجلس الأمن نفسه بتهمة ارتكاب جرائم حرب. غير أن الحديث عن هذه النية التي أعلنها مقربون من سيف الإسلام في الوقت الذي تأخرت فيه عمليا قد تكون له علاقة بأنباء عن وجود مفاوضات سرية تجري بين سيف والولايات المتحدة الأميركية بشأن إلغاء قرار محكمة الجنايات الدولية وتسهيل ترشحه مقابل تمكين الولايات المتحدة الأميركية من استعادة جل مصالحها في ليبيا التي انتزعتها منها ثورة سبتمبر، ولو حدث ونجحت هذه المفاوضات فإن تنازلات كبيرة عن حقوق ليبية لصالح أميركا ستكون ثمنا لهذه الصفقة... وتجدر الإشارة هنا إلى أننا ما نزال أمام نموذج شبيه طازج، وهو قيام الولايات المتحدة الأميركية بإخراج الأفغاني (الملا عبد الغني برادر) الذي كان معتقلا في السجون الباكستانية بتهم خطيرة متعددة وتنصيبه على رأس أفغانستان اليوم، مكافأة له على جهوده بدفع طالبان إلى القبول بالشروط الأميركية التي انتهت إلى انسحاب الجيش الأميركي وقوات التحالف من أفغانستان ومراعاة المصالح الأميركية في المنطقة والتعهد بعدم الاعتداء عليها والقبول بالتنسيق الاستخباري بين الجانبين».
سيف الإسلام القذافي كما عرفته
تصريح مساعد وزير الخارجية الأميركية قبل أيام عن عدم مناسبة سيف الإسلام القذافي للترشح، والذي أدلى به دون مناسبة منطقية، حسب عقيل: «يزكي الأنباء التي تقول بوجود مفاوضات بين الطرفين. ويبدو أن تصريحات المسؤول الأميركي لها علاقة بممارسة ضغوط على سيف الإسلام بسبب صعوبات تشهدها المفاوضات لجهة تردد سيف الإسلام بتقديم تنازلات بعينها لأميركا في ليبيا، وعلى رأسها منح أميركا حق نقل مركز قيادة قوات أفريكوم من شتوتغارت إلى ليبيا ، إلى جانب حصولها على قاعدة عسكرية في الجنوب، وهما أداتان تخطط الاستراتيجية الأميركية متوسطة وبعيدة المدى لجعلهما شرطا لدعمها أي مرشح للرئاسة في الانتخابات الليبية وذلك لاستخدامهما في مواجهة التغلغل الصيني بالقارة الأفريقية وقطع أوصال طريق الحرير إليها، كما أنه لا يمكن الجزم بأي تقديرات موضوعية حول إمكانية فوز سيف الإسلام بالانتخابات».
بيد أن مشكلة سيف الإسلام الحقيقية ليست في حجم فرصته في الفوز، بل بمدى نجاحه في إقناع الأطراف المعنية في مجلس الأمن بفك قيود محكمة الجنايات الدولية من معصميه، حسب رأي عقيل، الذي أضاف: «وهنا يمكن القول وبوضوح بأنه لو نجح سيف بإزالة هذا القيد بمساعدة أميركا وغالبا بمشاركة بريطانيا، فإن حظوظ نجاحه في الانتخابات تصبح تحصيل حاصل من وجهة نظري، لأن هاتين الدولتين ستكونان على استعداد لاستغلال ظروف ليبيا لتخريب الانتخابات لألف مرة.. حتى يفوز مرشحهما، إلى جانب ما عرف عنهما من أساليب ملتوية بالتدخل في نتائج انتخابات الدول التي يهيمنان عليها».
مخطط أميركي وراء نقل الساعدي إلى تركيا
«لا مساومات إقليمية أو مصالح حول خروج اللواء الساعدي القذافي والإفراج عنه ومغادرته إلى تركيا»، حسب عثمان بن بركة.. «فالإفراج عنه أمر طبيعي بل هو إحقاق للحق فالرجل مظلوم والقضاء حكم له بالبراءة وكان يستوجب الإفراج عنه منذ زمن بعيد، وذهابه إلى تركيا هو محاولة للخروج بعيدا عن مناخ الفوضى والصراع، ولا علاقة لخروجه بالانتخابات الرئاسية إطلاقا، والصراع داخل ليبيا تقوده صراعات إقليمية وحسابات ومصالح دولية والذي يهمنا من الأمر هو إطلاق سراح الساعدي ورفع الظلم عنه، والأمر لا يحتاج للذهاب أبعد من ذلك، وتركيا تحاول أن ترجع لمربع تركيا (صفر مشاكل) محليا ودوليا، ولكن الواقعية السياسية تقول ليس من السهل تحقيق ذلك»...
كما أن «خروج الساعدي القذافي لن يغير من قواعد اللعبة السياسية في ليبيا، ولن يكون مربكا لها، لأن الساعدي لا يتمتع بهذه الأهمية أبدا»، وذلك في رأي المحلل والكاتب السياسي عز الدين عقيل، الذي أضاف أن «نقل الساعدي إلى تركيا وراءه مخطط أميركي ما. لأن أميركا وبريطانيا يتحكمان في كافة السجناء الاسثنائيين بليبيا سواء من رجالات النظام السابق أو من الإرهابيين. وإمكانية وجود صفقات بين الأطراف الإقليمية والدولية، والمحلية في عملية خروج الساعدي القذافي ونقله إلى تركيا، واردة، فالصفقات والمؤامرات الإقليمية والمحلية موجودة، فليبيا منذ العام 2011 وهي تنام وتصحو وتفطر وتتغذى وتتعشى على المؤامرات والصفقات القذرة».
نفاق سياسي
تصريحات عقيلة صالح بضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها لأنها السبيل الوحيد لإنهاء الانقسام في ليبيا، دفعت عز الدين عقيل للقول بأن «عقيلة صالح يعاني من انفصام خطير في شخصيته السياسية، وإن كان عقيلة صالح قد نجح بعدم اعتبار نفسه جزءا من نظام الصخيرات الذي قاده السراج باحتفاظه بنظام سياسي غير نظام السراج عبر إبقائه على حكومة الثني إلا أن هذا الموقف اليوم يعد نفاقاً بواحاً من عقيلة، فعقيلة نفسه هو الذي رسم النظام السياسي الحالي الذي صنعته نائبة المبعوث الأممي في ليبيا ستيفاني ويليامز، وذلك بخضوعه واستسلامه الكاملين للسفير الأميركي والذي جاء (أي خضوع عقيله هذا) تنازلا لأميركا مقابل صفقة همشت فيها أميركا المشير حفتر لحساب تقديم عقيلة نفسه ليحل محل المشير خليفة حفتر بتمثيل أحد طرفي الصراع. ولن يقبل أحد من عقيلة ممارسة هذا النفاق أبدا، ليس لأن عقيلة شارك وبقوة مع سفير أميركا، وستيفاني، في صناعة النظام السياسي الحالي الذي صار هو نفسه جزءا منه، بل لأن عقيلة لم يكتف فقط بالمنافسة على منصب رئيس المجلس الرئاسي لهذا النظام بقائمة ضمت أربعة من أخطر عرابي نظام ستيفاني، بل لأنه منح أيضا الثقة بنفسه لدبيبة وحكومة هذا النظام. فكيف يأتي اليوم ويقول إنه يعترف بمجلس المنفي الرئاسي الذي هو جزء من نظام ستيفاني الذي يعترف بمجلس الدولة، ويعترف بحكومة نظام ستيفاني المعترفة أيضا بمجلس الدولة، لا بل ويمنحها الثقة بنفسه ثم يقول إنه لا يعترف بمجلس الدولة الذي التقى هو نفسه برئيسه خالد المشري عدة مرات، لا بل ونسق جلسات في بوزنيقة المغربية، والغردقة المصرية بين وفدين من البرلمان ومجلس الدولة معا للتنسيق بشأن المناصب السياسية والقاعدة الدستورية».
ناصر سعيد لـ«المجلة»: النفط الليبي مهدّد بالسرقة
ويضيف عقيل: «والحقيقة أنه لئن كان هناك شخص (غير مشروع) في نظام ستيفاني الحالي فهو عقيلة نفسه، لأنه وفقا لطرحه والصراخ الذي صرخه حول ضرورة المساواة بين ما كان يسميه أقاليم ليبيا التاريخية في المناصب الرئيسية بالبلاد فإن كرسي رئاسة البرلمان قد صار فعليا من حق فزان طالما تحصلت برقة على كرسي رئيس المجلس الرئاسي وتحصلت طرابلس على كرسي رئيس الحكومة. غير أن عقيلة تلاعب بالأمر بصورة مشبوهة انتهت إلى استمرار اغتصابه لكرسي لم يعد من حقه وفقا لطروحاته هو نفسه التي صدّع بها رؤوس الليبيين والعالم، أفيؤمن هذا الشخص ببعض الكتاب ويكفر ببعض، أي موقف أرعن هذا؟ ثم ألا يعلم أن مجلس الدولة هو جزء لا يتجزأ من نظام ستيفاني الذي هو نفسه صار رئيس برلمان هذا النظام ولا يمكن بهذا لمجلس الدولة أن ينفصل عن نظام ستيفاني أبدا وإلا تحول هذا النظام إلى مسخ حقيقي، واحتاج إلى إعادة تركيبه من جديد لإزالة التشوه المرعب الذي يدعو له عقيلة ليعيد الليبيين إلى مربع جنيف الأول. بيد أن هدف عقيلة من كل هذا واضح وجلي وهو تعطيل الانتخابات بقدر ما يستطيع».
فيما قال بن بركة: «تصريحات عقيلة صالح التي أشار فيها إلى أن إنقاذ ليبيا يأتي عن طريق إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها هي كلمة حق، وكي ننقذ ليبيا من الفوضى علينا أن نذهب للانتخابات، ولكن الانتخابات ليست غاية، فهي وسيلة لا أكثر والأزمة الليبية معقدة جدا والصراع القائم محليا نتاج الخلاف الدولي على الواقع الليبي الذي يكون ضحيته المواطن الليبي».