لم يصل السيد مصطفى الكاظمي لرئاسة الحكومة في العراق نتيجة تحالفات حزبية ومناورات سياسية بين مختلف مكونات المجتمع العراقي، أو بسبب تسويات دبلوماسية جرت في الكواليس بين القوى الدولية والإقليمية المؤثرة داخل البلاد. لقد عبدت الطريق أمامه احتجاجات شعبية ذات مطالب معيشية وسياسية كانت واسعة النطاق، استطاعت الإطاحة بسلفه عادل عبد المهدي رغم حظوته لدى المرجعيات الدينية في النجف وقم.
إن الكاظمي، الذي وعد غداة حصوله على ثقة البرلمان بالعمل على تحقيق كافة المطالب المشروعة للحراك الشعبي، كان، وهو القادم من سراديب المخابرات، على دراية تامة باستحالة تنفيذ كافة وعوده في ضوء الانقسامات السياسية العميقة في البلاد، ومدى تأثر الفصائل السياسية المختلفة بتدخلات القوى الدولية والإقليمية المهتمة بالساحة العراقية، بل وانصياع بعض هذه الفصائل لتلك القوى، التي وجدت العراق ساحة مناسبة لصراعاتها غير المباشرة.
وبالفعل، فإن حكومة الكاظمي اصطدمت منذ الوهلة الأولى بعراقيل عديدة في طريق تنفيذ تعهداتها التي يمكن تصنيفها إلى نوعين:
- تعهدات سياسية تتمثل أساسا في إجراء إصلاح سياسي عميق يطال نظام المحاصصة الطائفي النفس، وتأمين تنظيم انتخابات نزيهة وعادلة، ناهيك عن توفير الأمن وتقديم المتورطين باستخدام القوة المفرطة لتفريق المظاهرات الشعبية إلى العدالة.
- تعهدات اقتصادية واجتماعية تتلخص أهم محاورها في معالجة الأزمة المالية ومكافحة الفساد والتهريب عبر الحدود، إضافة إلى توفير وتعميم الاستفادة من خدمات الكهرباء والماء، فضلا عن تحسين مستوى التعليم العام والخدمات الصحية.
لم تكن العراقيل التي كان على الحكومة العراقية مواجهتها داخلية صرفة، ولكن معظمها ناجم عن ارتهان القرار السياسي لمختلف التنظيمات السياسية العراقية المشكلة على أسس دينية مذهبية أو إثنية وعرقية إلى قوى دولية وإقليمية توفر الدعم والحماية لهذا التنظيم أو ذاك.
ورغم كافة الصعاب، فإن هذه الحكومة تمكنت من تحقيق إنجازات هامة قياسا إلى حجم التحديات، التي تتناسل أمامها، إذ تمكنت من بسط سيطرتها على عدد من المعابر الحدودية؛ ما جعلها تراقب وتمنع عمليات كثيرة غير شرعية لنقل السلاح إلى ميليشيات إيران وتلك الدائرة في فلكها في سوريا، ومكنها أن تسترجع لخزينة الدولة رسوما جمركية قدرت بأزيد من 70 مليون دولار سنويا.
ومع ذلك، فإنها كانت تدرك أنها وحدها واستنادا إلى بعض الدعم الداخلي فقط لن يكون بمقدورها كبح جماح كافة التدخلات الأجنبية في شؤون العراق، وخاصة تدخلات إيران التي ترى بغداد ملحقة إقليمية بفضل ما تؤمنه من تسليح وتمويل لميليشيات حزبية شيعية تدين بالولاء للولي الفقيه، وتأتمر بأوامر قيادة الحرس الثوري.
ولهذا عملت جاهدة من أجل خلق نوع من التوازن النسبي للنفوذ داخل العراق، وهو توازن بحثت عنه في عمقها العربي، آملة في حث الدول العربية الفاعلة على العودة للاهتمام بأرض الرافدين. وقد تسنى لها ذلك باستئناف التواصل مع كافة دول الخليج وبصفة خاصة مع السعودية التي أسس العراق معها مجلسا أعلى للتنسيق يتولى رعاية وتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين، التي استطاع انتشالها من ركودها.
وفي بحثها عن المزيد من الثقل العربي لموازنة الكفة الراجحة للمعسكر الإيراني، سعت بغداد إلى تمتين أواصر الأخوة والتعاون مع اثنين من شركائها السابقين فيما كان يسمى «مجلس التعاون العربي»، الأردن ومصر، اللتين استوعبتا أبعاد التوجه العراقي، فتجاوبتا معه بشكل يمثل إضافة نوعية لعملية التحرر التدريجي من الثقل الإيراني بغية إغلاق اعتبار التراب العراقي كصندوق بريد لتبادل الرسائل التحذيرية بين القوى الدولية والإقليمية المتصارعة على النفوذ في المنطقة.
لم يقتصر الدعم الذي وجده العراق لدى مصر والأردن على المستوى السياسي والأمني فحسب، وإنما تمثل جوهريا في حاجيات أساسية احتكرتها إيران من قبل وكبلت بها العراق ليظل جزءا من هلالها الشيعي. ويتعلق الأمر بالتجارة والاستثمار، وبشكل خاص في الطاقة وإنجاز الربط الكهربائي. وقد توج هذا العمل الثلاثي، الذي صاغته ثلاث قمم بين القادة بتشكيل سكرتارية دائمة تتولى متابعة التنسيق وتنفيذ الاتفاقيات المبرمة. صحيح أنها غير قارة لحد الآن، ولكنها تحمل بارقة أمل لعودة مجلس تعاون جهوي عربي كفيل بإحداث نوع من التوازن المفقود في الشرق الأوسط الراجحة كفته حاليا لفائدة قوى إقليمية غير عربية.
وبالدعوة إلى «مؤتمر التعاون والشراكة»الذي استضافته بغداد يومي 27 و28 أغسطس (آب) 2021 بحضور السعودية، والكويت، والإمارات، وقطر، ومصر، وتركيا، وإيران، إضافة إلى فرنسا، يكون العراق رغم كل الانتقادات الموجهة للمؤتمر قد نجح، ومن على منصة مؤتمر دولي مصغر حظي بمتابعة دولية كبيرة، في ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد:
1- أكد، وبحضور الدول المعنية مباشرة، رفضه المطلق لاستخدام أراضيه ساحة لصراعات الآخرين، ومنطلقا لتوجيه تهديدات لدول المنطقة.
2- أظهر جديته في استعادة مكانته على الساحة العربية، ورغبته في تبوأ وضعه الطبيعي كقوة إيجابية في المنطقة يمكنها أن تكون صلة وصل بين العرب من جهة، وبين القوى الإقليمية غير العربية المجاورة له من جهة أخرى.
3- انتزع التزام المشاركين ودعمهم لجهود الحكومة في تعزيز مؤسسات الدولة واستقلاليتها بعيدا عن التجاذبات الحزبية وضغوط الميليشيات.
4- جذب أنظار المانحين والمستثمرين إلى الفرص الاقتصادية والتجارية والاستثمارية التي يتوفر عليها.
لقد شكل مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة فرصة إقليمية للتأسيس للمزيد من الثقة ولبحث مضاعفة عوامل التقارب بين دول المنطقة. فهل استوعب كل الحاضرين الغاية المثلى من المؤتمر؟ وهل سيلتزمون فعلا بما وافقوا عليه؟
إن غدا لناظره قريب. وهذا الغد هو الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.