يبدو الأمر غير مفهوم لكثير من السياسيين الذين تحدثوا مع دبلوماسيين غربيين، بعد أن تبين أن كثيرا من الفاعلين في الغرب مع إجراء مفاوضات بين طلاب الدولة المدنية والمتطرفين المدججين بالأسلحة الذين يشبهون في كثير من تصرفاتهم تصرف عناصر ما يسمى (داعش).
ويقول أحد الدبلوماسيين الغربيين ممن تركوا ليبيا بسبب الحرب الشعواء بين الفرق المختلفة، إن مصالح العديد من الشركات الكبرى العاملة في مجال النفط والسلاح، تضررت بشدة، خاصة بعد تراجع تصدير النفط الليبي وتعثر برامج لتسليح الجيش الليبي الرسمي الذي لم يتمكن الليبيون من تأسيسه حتى اليوم، رغم وجود وزارة للدفاع. وتتخوف العديد من الدول الأوروبية الواقعة على الضفة الشمالية من المتوسط قبالة ليبيا من أن تتحول هذه الدولة مترامية الأطراف إلى «صومال جديد» تعمه الفوضى أكثر مما يجري في دولة الصومال منذ نحو عقدين، بينما بدأت دول الجوار الليبي مثل مصر والجزائر وتشاد، وغيرها، تتخوف من تهريب الأسلحة المنهوبة من مخازن جيش القذافي، ومن تنقل المتطرفين بسهولة عبر الحدود، خاصة وأن الجانب الليبي لا توجد لديه سيطرة فعلية على حدوده، في مقابل تزايد لنفوذ الميليشيات التي تعمل على تمرير صفقات السلاح والنفط.
تنظيم القاعدة
وكان الاقتتال الداخلي في البلاد يجري من وراء ستار، وحتى شهرين ماضيين لم يكن أحد يستطيع أن يشير بإصبعه ويحدد بشكل قاطع أن هذا الفريق يقاتل ذلك الفريق. بيد أن الأمور أصبحت أكثر وضوحا بعد أن خسرت جماعة الإخوان المسلمين التي تعرف في ليبيا تاريخيا باسم «التجمع الإسلامي» انتخابات البرلمان الجديد أخيرا. ويقول العقيد صابر حوسين الذي فقد عمله في الجيش بسقوط نظام القذافي، إن كثيرا من الناس ربما يختلط عليهم الأمر بسبب كثرة أسماء المجموعات المتقاتلة، لكن الحقيقية تتلخص في أنه أصبحت توجد جبهتان تتحاربان في البلاد.. الجبهة الأولى تضم كل أطياف المتطرفين ويهيمن على القيادة فيها عناصر من جماعة الإخوان ومما كان يعرف بالجماعة الليبية المقاتلة، بالإضافة إلى أنصار الشريعة التي تشبه في تكوينها تنظيم «داعش»، ومجموعات أخرى موالية لتنظيم القاعدة. وتتكون هذه الجبهة المدعومة بالأموال والأسلحة من أطراف داخلية وإقليمية ودولية، على ما يبدو، من جنسيات ليبية وغير ليبية، خاصة من الجزائريين والتونسيين والمصريين، وأخيرا خليط من الأوروبيين والسوريين الذين وصل منهم إلى ميناء درنة البحري نحو 500 أواخر شهر يوليو (تموز) الماضي يعتقد أنهم كانوا يقاتلون في صفوف «داعش».
ويضيف العقيد حوسين أن الجبهة الثانية تشكلت وظهرت ملامحها على عجل في أعقاب إعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر عن تأسيس «الجيش الوطني» والبدء في عملية الكرامة التي تستهدف اجتثاث الإخوان والمتطرفين من البلاد، منذ مطلع هذا الصيف.
وتتكون قوات حفتر من آلاف الليبيين، من بينهم ضباط بجنودهم وأسلحتهم كانوا يعملون أساسا في معسكرات الجيش الليبي خلال فترة حكم معمر القذافي التي استمرت لمدة 42 عاما وانتهت في خريف عام 2011. وانضم إلى حفتر ألوف آخرون من الشبان المتطوعين ممن جرى تدريب بعضهم في الداخل والبعض الآخر في الخارج، أي في أحد بلدان ما كان يعرف بالكتلة الشرقية.
وتبدو الجبهة الأولى؛ جبهة المتطرفين، كما يقول حوسين، هي الأسرع والأكثر حركة وإصرارا في محاولتها السيطرة على حكم البلاد بالقوة، وتسعى أيضا لإفشال عمل البرلمان الجديد وتريد أيضا إفشال جهود تشكيل حكومة، ويرتكب عناصرها فظائع بحق مدنيين وبحق كل من يثبت أنه ينتمي للجيش الوطني أو الشرطة أو من قيادات المؤسسات المدنية التي تصر على التزام الحياد في الصراع المستعر حاليا. كما يعمل على هامش جبهة المتطرفين، وفقا لمصادر قبلية في مدينة درنة، مجموعات من ميليشيات اللصوص المدججين بالأسلحة الثقيلة، ويساعدون على عرقلة محاولات حفتر في بناء الجيش أو بسط سلطان الدولة على الجميع. وأبرز موقع يوجد فيه هذا الخليط من المتطرفين ومحترفي النهب والخطف هو مدينة درنة نفسها ذات التضاريس الصعبة بما فيها من جبال تطل على البحر المتوسط ووديان تنساب وعرة وتطل على الصحراء من الجنوب. وتقع هذه المدينة إلى الشرق من بنغازي، وأشهر أمرائها سجين سابق في غوانتانامو، بدعة سفيان جومة.
[caption id="attachment_55252246" align="alignleft" width="300"] اللواء حفتر[/caption]
أما الجبهة الثانية، والتي اضطر العديد من الليبيين إلى تسميتها مجازا «جبهة حفتر»، فتعمل بشكل أكثر احترافية وبرهنت على قدرتها على امتصاص الهجمات المستعرة التي شنها المسلحون المتطرفون طوال شهر رمضان الماضي (يوليو/ تموز) رغم تمكنهم من دخول واحد من أكبر المعسكرات التابعة لحفتر، وهو معسكر الصاعقة في بنغازي. ويقول العقيد حوسين: «بينما كان المتطرفون يروجون الشائعات عن هروب اللواء حفتر بعد واقعة معسكر الصاعقة، من أجل تثبيط همم مقاتليه الذين يدافعون عن مطار بنغازي (مطار بنينة)، عاود الرجل الظهور حيث يقيم في مركز إدارة العمليات في منطقة الرجمة قرب بنغازي، وواصل قصف تجمعات المتطرفين، ليس في بنغازي فقط، ولكن هذه المرة في مواقع منتقاة في درنة وطرابلس التي يحاول فيها الإخوان ومن معهم من المتشددين السيطرة على مطار العاصمة».
أما السبب في أن قطاعا من الليبيين اضطر للوقوف في صف حفتر فيرجع إلى ملابسات تخص أمرين، كما يقول محمد العبيدي، أحد وجهاء قبيلة العبيدات ذات الثقل في شرق البلاد.. الأول أن هؤلاء الليبيين ينتمون لقبائل محسوبة على عهد القذافي، وفي الوقت نفسه يؤيدون وجود جيش قوي وفاعل في الدولة، بعد أن تعرضوا لعمليات انتقامية من ميليشيات المتطرفين طيلة السنوات الثلاث الماضية، والأمر الثاني، المعاكس، أن لديهم تحفظات على شخصية حفتر على أساس أن الرجل محسوب على ثورة 17 فبراير التي أطاحت بحكم القذافي وتسببت في تهميشهم وإقصائهم عن الساحة.
دور وزارة الداخلية
لكن ما هو دور وزارة الدفاع التابعة للحكومة.. وما هو دور وزارة الداخلية.. في الحقيقة أسهمت هذه الأسماء في التشويش على عقول من يريدون فهم ما يجري في ليبيا، كما يقول المحلل الليبي عادل الشيباني. ويضيف أن القصة بدأت بعد أن تشكل المؤتمر الوطني (البرلمان المؤقت) والحكومة الانتقالية قبل سنتين. ورغم تسمية وزيرين للدفاع وآخر للداخلية ضمن باقي وزارات الحكومة، فإن أيا من الوزارتين لم تتمكن من التخلص من هيمنة المتطرفين على مقاليد العمل فيهما.
ويضيف الشيباني أنه، وبدلا من أن تتجه هاتان الوزارتان إلى العمل على تشكيل جيش وشرطة وطنيين، اعتمدتا على ما كان يعرف بـ«كتائب الثوار»، أو الميليشيات المسلحة التي تتكون من ألوف الشبان ويقودها متطرفون كانوا في السجون بعد أن عادوا من الخارج، أو كانوا يمتهنون مهنا لا علاقة لها بمثل هذا النوع من العمل. وبمرور الوقت زاد عدد هذه الميليشيات، مستندة في ذلك على شرعية سبق وأعطاها لها المجلس الوطني الانتقالي، عقب مقتل القذافي، تتلخص في الاعتراف بها ككيانات يمكن الاعتماد عليها لحماية مؤسسات الدولة، وتخصيص رواتب شهرية لها.
ويقول: «تحولت الميليشيات إلى ظاهرة أشد خطرا على ليبيا من ظاهرة اللجان الثورية التي كان يعتمد عليها القذافي في حكم الدولة. اللجان الثورية على الأقل كان هناك من هو مسؤول عنها في نهاية المطاف، لكن الميليشيات تعمل وفقا لقوانينها الخاصة.. دولة داخل الدولة.. لديها سجون ومحاكم وتنفذ العقوبات بقطع الرؤوس وإطلاق النار على الخصوم في الشوارع، وتفخيخ السيارات، وفي نهاية الشهر يحصل قادتها وعناصرها على رواتب تقدر بملايين الدولارات من الدولة».
ويضيف الشيباني أن المعركة الجارية حاليا بين الميليشيات بقيادة الإخوان في مواجهة قوات حفتر هي معركة حياة أو موت، ليست للمتطرفين في ليبيا فقط، ولكن لهذا النوع من المتشددين في شمال أفريقيا والمنطقة، لأن الهدف كان منذ البداية تحويل ليبيا إلى «بقرة حلوب» لأنشطة التنظيم الدولي للإخوان وتنظيمات أخرى مثل «القاعدة» في المغرب الإسلامي (غالبيته من الجزائريين) وأنصار الشريعة في ليبيا وتونس، والجماعات التكفيرية في مصر والدول المجاورة سواء عربية أو أفريقية. و«في حال نجاح البرلمان الجديد في بسط نفوذه وتشكيل حكومة قوية تضع رقابة على الموانئ والمطارات وتمنع البنك المركزي من صرف رواتب للميليشيات، فإن المتطرفين سينتهون، وهم يعلمون هذا». ويضيف: «سينتهون سريعا إذا حصل حفتر على دعم دولي أو حتى إقليمي من دول الجوار»..
تحالف الميليشيات
يوجد نوعان من الميليشيات المتصارعة في غرب البلاد، وحول مطار طرابلس حاليا، تعرفان باسم «ميليشيات مصراتة» و«ميليشيات الزنتان»، لكن هناك فروقا جوهرية بينهما، سواء في التكوين أو في التوجهات. ويقول علي ناجي، الضابط السابق في الاستخبارات الليبية، إنه بالنسبة لميليشيات مصراتة فيهيمن على قياداتها شخصيات ترجع أصولها إلى مدينة مصراتة، وهي متحالفة مع المتطرفين والتكفيريين والإخوان، وكانت لها حظوة كبيرة لدى البرلمان السابق والحكومات السابقة، وجرت الاستعانة بهذه الميليشيات في اقتحام مدينة بني وليد التي تسكنها قبيلة ورفلة الشهيرة، وذلك بأوامر من البرلمان، العام الماضي، وكذا الاستعانة بها في إخضاع مناطق في سبها في جنوب البلاد كانت تعارض الحكومة، وفي مناطق أخرى في بنغازي وحول طرابلس.
وتتكون ميليشيات مصراتة في الوقت الحالي من الدروع التي يقودها ميكانيكي سابق يدعى وسام بن حميد، الذي كان يقيم في بنغازي بينما ترجع أصوله لمصراتة، وتتكون أيضا من ميليشيات للمتطرفين قادمة من عدة مدن مجاورة لمصراتة، إضافة لمجموعة ما يسمى «غرفة ثوار ليبيا» وهي خليط من المتشددين أيضا من بينهم عناصر ما يسمى بالجماعة الليبية المقاتلة. وحين بدأت عملية الكرامة بقيادة حفتر، أصبحت ميليشيات مصراتة تحظى بتأييد من باقي الجماعات المتطرفة والجماعات الجهادية في عموم البلاد، ومنها «أنصار الشريعة» في كل من بنغازي ودرنة.
وتحظى ميليشيات مصراتة أيضا بدعم قوي من مخزون المتطرفين في مدينة سرت، التي شهدت مقتل القذافي، حيث تحولت المدينة طيلة السنوات الثلاث الأخيرة إلى معقل للمتشددين من ليبيا والجزائر وتونس ومالي والنيجر، بالإضافة إلى عصابات من قطاع الطرق واللصوص الذين يعملون بحرية ويستخدمون الأسلحة في نصب الأكمنة وتوقيف الضحايا وطلب الأموال من الأثرياء وتصفية الخصوم بمقابل مادي.
ولا يوجد من الإسلاميين خارج تحالف المتطرفين، سوى الجماعة السلفية ذات الأغلبية العددية، إلا أنها جماعة لا تجنح على ما يبدو إلى القتال، رغم تعرض أبرز تنظيماتها المعروفة باسم «كتيبة سجناء أبو سليم» للهجوم من جانب تنظيم أنصار الشريعة مرتين على الأقل خلال الشهر الماضي، مرة في بنغازي والأخرى في درنة، وجرى ذبح عدد من عناصرها، كما يقول أحد مساعدي الشيخ «ف ش». زعيم الكتيبة المتخفي في أحد جبال درنة.
أما ميليشيات الزنتان وأشهرها كتيبتا «القعقاع والصواعق» فهي محسوبة على التيار المدني في الدولة ومحسوبة أيضا على قوات «عملية الكرامة» واللواء حفتر، وأغلب قادتها من منطقة الزنتان، وتكونت هاتان الكتيبتان على أنقاض اللواء 32 المعزز الشهير، الذي كان يقوده خميس القذافي نجل القذافي في حربه ضد «الثوار الليبيين» على الأرض المدعومين بطيران حلف الناتو من السماء. ويقول الضابط ناجي إنه بعد أن أصبحت المعركة أكثر وضوحا بين طرفين متناقضين، انضمت عدة قبائل إلى ميليشيات الزنتان، خاصة بعض المقاتلين من منطقة ورشفانة، وأصبحت تحمل اسم قوات «الجيش الوطني»، مشيرا إلى أن حفتر قدم إسنادا مهما لهذه القوات في دفاعها عن مطار طرابلس الذي تحاول قوات مصراتة السيطرة عليه منذ أسابيع دون جدوى، حيث تسببت المعارك في تخريب مدارج المطار وإحراق طائرات ومخازن وقود وغيرها من الخسائر التي تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات.
لكن تظل بنغازي هي أساس الحراك في ليبيا. وتعد هذه المدينة المطلة على المتوسط والجبل الأخضر نموذجا مصغرا للمجتمع الليبي إذا يوجد فيها أبناء وعائلات لنحو 280 قبيلة بمن فيهم ذوو الأصول المصراتية وقبائل أولاد علي. ولهذا حين تقع فيها أي أحداث تتأثر بها باقي البلاد الليبية. ويقال هنا إن «بنغازي فيها الداء والدواء». وكان القذافي يقسمها لأربعة أقسام سياسية في أوقات التصعيد للمؤتمرات الشعبية أو ما يعرف بالانتخابات. وهذه الأقسام كان لها امتدادات أساسية داخل قبائل نشطة في بنغازي وباقي المدن، وهي قبائل العواقير والمصاريت والمرابطين والسعادي. ويقول موسى قدورة الباحث في الشؤون الليبية إن ضعف التركيبة السياسية الليبية في السنوات الخمس الأخيرة من حكم القذافي ودخول تيار جماعة الإخوان الليبيين، على خط إصلاحات سيف الإسلام القذافي تسبب في إرباك المنظومة الليبية برمتها. ويزيد موضحا: «كانت هناك مجموعة مساجين في قضية كانت تعرف باسم (قضية الإخوان) وجرى الإفراج عنهم في عام 2005، وتوسط فيها الدكتور يوسف القرضاوي، وكانت أبرز قياداته من بنغازي لكنهم ذوو أصول من مصراتة، وكان منهم الراحل عبد الباسط عيسي الفايدي، ومن أشهرهم عقب ثورة 17 فبراير الدكتور شامية، الذي كان مسؤول الاقتصاد في المكتب التنفيذي (الحكومة) التابع للمجلس الوطني الانتقالي وهو أستاذ جامعي يحمل دكتوراه في الاقتصاد».
[caption id="attachment_55252248" align="alignleft" width="300"] مظاهرة مؤيدة لحفتر[/caption]
ويضيف أنه، وبعد الإعلان الدستوري أسس الإخوان حركة سموها «حزب العدالة والبناء» على أساس أنك حين تقول إن الإخوان يعملون في السياسة يرد قادة الحزب بأنهم لا يتبعون للمرشد أو المسؤول عن الجماعة في ليبيا. ويتساءل قدورة: هل هذه حقيقة أم لا؟ غير معروف.. لكن أعتقد أن هذا سببه أن إخوان ليبيا يريدون تجنب غضب الليبيين الذين لا يحبون تنظيم الإخوان بسبب منشئه المصري وفكره المنغلق القادم من القاهرة. والمشكلة التي تواجه إخوان ليبيا تتلخص في أنهم لا يعرفون دور القبيلة، و«لذلك فإن تجربتهم لن تنجح. ليس لهم وجود لا في البيضاء ولا في طبرق ولا غيرها من المناطق القبلية. كما أن حزب العدالة والبناء الإخواني ليس له وجود فعلي إلا في بنغازي وطرابلس».
ولعب أحد قادة الإخوان المعروفين في بنغازي وهو من أصل مصراتي، دورا في توحيد الميليشيات المتطرفة في الشهور الأخيرة لمواجهة قوات حفتر، وكان هذا الرجل يدرس في اليمن بعد أن فر من ليبيا على خلفية إحدى القضايا السياسية في عهد القذافي، إلا أن سيف الإسلام نجل القذافي تمكن من التواصل معه عبر السفارة الليبية في اليمن، واتفقا سويا على إجراء مصالحة مع المعارضة في الخارج وتأسيس حركة «ليبيا الغد» الإصلاحية، وكان ذلك بعد عام 2005. وحتى عام 2013 كان تنظيم أنصار الشريعة الأقل خبرة، وقياداتهم صغار السن غالبيتهم مواليد التسعينات، وهو تنظيم منشق أساسا من تنظيم إسلامي آخر اسمه «كتيبة راف الله السحاتي». وكتيبة راف الله السحاتي منشقة هي الأخرى عن كتيبة «17 فبراير». وكلها كتائب ظهرت خلال الثورة ضد القذافي، وهي متشددة لكنها تختلف في درجة التشدد.
لكن ماذا يحدث في طرابلس بالضبط؟ يقول الباحث قدورة إن هذا ما حدث مرتين في السابق.. مرة في أيام الاحتلال الإيطالي، وأخرى أيام حكم الملك إدريس السنوسي.. «الجزء الشرقي لولاية طرابلس كان قديما يسير بقيادة مصراتة، والجزء الغربي بقيادة قبيلة الورفلة (يحل محلها الزنتان حاليا) وهي الفترة التي لقي فيها رمضان السويحلي حتفه، وهو من مصراتة، أثناء الاقتتال حول الزعامة في طرابلس». ويضيف أنه بعد أن تأسست الدولة الليبية في بداية خمسينات القرن الماضي، بدأت المناوشات بين الطرفين مجددا، لكن الملك حل المشكلة وقام بإعلان بنغازي عاصمة للدولة.
وفي الوقت الحالي، ومع احتدام الصراع على العاصمة، انتقل البرلمان منذ نحو شهر، لعقد جلساته في طبرق في أقصى شرق البلاد، مع وجود مفاوضات على نقل الحكومة أيضا، وفقا لـ«قدورة» بينما يجري التفكير في نقل العاصمة أيضا من طرابلس الغرب إلى إحدى المدن الهادئة ومقترح لها مدينة البيضاء.
درنة.. إمارة أفغانية
ويقول شهود عيان من مدينة درنة عقب خروجهم من المدينة التي يسيطر عليها المسلحون المتطرفون من تيارات مختلفة، إن المدينة تفتقر لأي مظهر من مظاهر الدولة طوال السنوات الثلاث الماضية. ويضيف أحد الشهود الذي كان يعمل في حراسة ميناء المدينة المطل على البحر: «في شهر رمضان الماضي دخل نحو 500 من (داعش) من سوريا عبر ميناء درنة البحري. جاءت بهم مركب في الفجر وهم يتحدثون اللهجة السورية وبعضهم أجانب من إنجلترا وفرنسا.. وجماعة أنصار الشريعة في درنة ربعهم فقط هم الليبيون». ويشير إلى أن «بن جومة» يتحكم في المدينة من منطقة «رأس هلال» التي تنتشر فيها الغابات الشجرية حتى منطقة «الفتايح». ويقول في آخر مشهد رآه في المدينة وهو يودعها قبل أيام: «يقومون في الوقت الحالي بإغلاق الطريق من منطقة سوسة حتى رأس هلال، بالكتل الحجرية الضخمة، حتى لا يدخل أحد إلى هذه المناطق التي يقيمون فيها، لأن سوسة يوجد فيها حرس من الجيش وخفر السواحل الذين يعتقد أنهم موالون لحفتر».
ويضيف أن جماعة سفيان بن جومة لديها إمكانات كبيرة.. «صواريخ وأسلحة لا يوجد لها مثيل في الجيش الوطني. وتمكنت جماعته وجماعات المتطرفين الأخرى من جمع هذه الأسلحة منذ وقت مبكر من ثورة 17 فبراير. وكان الهدف أنه بعد أن يسقط معمر يكون لديهم استعداد لمواجهة من يمكن أن يناصبهم العداء، مشيرا إلى أن سبب التفجير في الرجمة (أحد معسكرات القذافي الكبرى) في بداية الثورة كان منهم هم.
ويقول: «في بداية الثورة كان الثوار، من كل الاتجاهات أيضا، يمدون جماعة بن جومة بالسلاح. ففي بداية الثورة كان الكل يعمل مع بعضه بعضا، ملتحون متشددون وعلمانيون وليبراليون وغيرهم، لكن الآن الوضع اختلف، والحرب اشتعلت بين رفاق الأمس.. لكن لا شك، وشهادة لله، أن المتطرفين هم من كانوا يحاربون في الصفوف الأولى أيام الثورة ضد القذافي وهم أول من يدخل معسكرات الجيش ويقومون بانتقاء أفضل أنواع الأسلحة خاصة الثقيل منها، ومصادرتها لأنفسهم».
وعن علاقة درنة ببنغازي يقول أحد وجهاء المدينة ممن يقيم حاليا في خارجها خوفا من قتله: «علاقة درنة ببنغازي علاقة مصلحية. نحن في درنة لدينا أنصار شريعة وفيها تنظيم القاعدة. وفي الفترة الأخيرة بدأت الخلافات تدب فيما بينهما.. وجرى اقتتال بين الطرفين كما جرى اقتتال مع كتيبة سجن أبو سليم أيضا ذات التوجه السلفي. صار خلاف بين أنصار الشريعة و(القاعدة)، ووقع اقتتال ومعارك في الوديان خاصة في وادي كرسة ذي التضاريس الوعرة والذي تعود شهرته إلى أيام مواجهات الإسلاميين مع القذافي».
وفيما يخص أعداد الجهاديين هناك، سواء أنصار شريعة أو «قاعدة»، يوضح: «أحيانا تشعر أن أعدادهم ليست كبيرة، وأحيانا تراهم يستعرضون قوتهم بشكل مخيف.. هم لديهم القدرة على تجنيد الشباب العاطل. أي أنهم في يوم من الأيام يمكنهم أن يوفروا 300 مقاتل في وقت قياسي. وفي بعض الأحيان تكون لديهم القدرة على توفير 800 مقاتل في سرعة البرق. وفي بعض الأيام لا ترى من هذه الجماعات أي أثر إلا عدة سيارات دفع رباعي تمر من هنا أو من هناك. وتوجد بينهم قيادات وكوادر ليست ليبية».
وفي مقابلة مع شيخ قبلي من درنة، بعد فراره منها إلى مدينة طبرق القريبة من مصر، يقول: «الناس العادية في درنة تقول لك لا نعرف شيئا عن تفاصيل هذه الجماعات التي انتشرت في المدينة حتى حولتها إلى ما يشبه المدن الأفغانية بسبب نوع الملابس واللحى الطويلة.. حتى الذي يعرف يقول لك لا أعرف. وهناك مقولة بين أهل درنة تتعلق بتصرفات أنصار الشريعة وجماعة سفيان بن جومة، وهي أنهم (لا يعطوك ولا يخطوك)؛ أي لا يعطونك أي إفادة أو إجابة ولا يتركونك في حالك بعد ذلك». و.. «إذا سألت عن أمر فأنت ربما تكون مصريا أرسله السيسي (رئيس مصر الذي أزاح الإخوان عن الحكم) في صورة صحافي أو باحث، ويطلقون عليك الرصاص أو يذبحونك مثلما تفعل (داعش). وقد يرسلون لك شخصا بسيارة يقتلك في الشارع ويمضي، ولا أحد يتحرك.. كل يوم يصير مثل هذا في شوارع درنة. سيارة شيفروليه زجاجها أسود وليس عليها أرقام ضربت رجلا بالرصاص ومضت. حتى الكلام لا يستطيعون أن يتكلموا وليس لديهم إمكانية لتوقيف المهاجمين أو منعهم من القتل».
ويضيف شاهد آخر، يدعى عبد الله، وهو تاجر من سكان المدينة الذين فروا بأسرتهم منها أخيرا: «أحيانا تقوم سيارة باستهداف الشخص في الشارع، ويكون خلفها سيارة أو سيارتان للتأمين والحماية، على أساس أنه لو تعرضت السيارة الأولى لأي مشكلة تنجدها السيارة التي وراءها. نحن لم نعد نعرف من يقتل من، ولا ماذا يريدون، يقولون نريد تطبيق شرع الله، لكن ألسنا كلنا مسلمين؟ وكلنا ملة واحدة؟ وكلنا على المذهب المالكي؟ ليبيا كلها على المذهب المالكي وعلى دين وسطي، لكنهم يقولون إن الآخرين، مثل جيش حفتر والبرلمان الجديد، كفرة وأولياء الطاغوت. ما أراه أن هؤلاء المتطرفين يريدون الكرسي لا شرع الله ولا غيره.. ثم إذا كنت تريد تطبيق شرع الله فلماذا لا تأتي وتتناقش مع الناس.. حتى أهل بلدك لا تتناقش معهم.. لماذا؟».
ويتدخل ابن عبد الله، وهو شاب تخرج قبل عامين في جامعة الأزهر بمصر، واسمه ناصر: «درنة مدينة رعب.. شرع الله ليس فيه قتل.. القتل يكون في حرب بين المسلمين والكفار مثلا. بين دولة ودولة مثلا.. نحن ليس لدينا كفار في درنة ولا في ليبيا. لكن أن نقتل عباد الله فهذا أمر عجيب. وحين تحتج على قتل الناس وتقول لهذا أو ذاك توقفوا عن القتل، يردون بأنهم ليسوا وراء هذه الأعمال. إذن من وراءها، وماذا يحدث؟ حاول بعض الناس الوجهاء في درنة التحدث مع سفيان بن جومة، لكنهم فوجئوا بأن مستواه في علوم الدين متواضع جدا، وقال لهم إنه لا يتزعم أحدا وغير مسؤول إلا عن نفسه.. ونسمع أن هناك من يدعمه من الخارج. والمتطرفون في درنة كثر غير سفيان.. حين تجلس مع أحد منهم يقول لك إنه غير مسؤول إلا عن نفسه».
محاكم شرعية
وتقع درنة بين جبلين، وهي تشبه مدينة السلوم المصرية، لكن الفرق أن درنة يحيط بها الجبل من ثلاثة اتجاهات ما عدا ناحية البحر، ووراء تلك الجبال توجد مجموعات كبيرة من الوديان التي يختبئ فيها المتطرفون ولديهم معسكرات تحت الأرض، وكذا توجد معسكرات داخل المدينة نفسها. ويضيف ناصر الذي طرده المتشددون من مسجد الصحابة الذي كان يؤم فيه المصلين في درنة: «المتطرفون احتلوا أخيرا مبنى البلدية وكتبوا عليه (المحكمة الشرعية).. وحاكموا فيها ما لا يقل عن عشرين من الليبيين والمصريين وغيرهم من جنسيات مختلفة ونفذوا فيهم حكم الإعدام في المسجد نفسه (مسجد الصحابة) وهو أكبر مساجد المدينة وتوجد أمامه ساحة واسعة، مشيرا إلى أن المسجد أخذ اسمه مما يعتقد أن بعضا من المسلمين الأوائل دفنوا في منطقته».
ويضيف ناصر قائلا إن المتطرفين نفذوا خلال عيد الفطر إعدام ثلاثة في المسجد عن طريق المحكمة الشرعية الجديدة هذه. لكنه يقول إن السؤال هو من أعطاهم الأمر بعمل محكمة شرعية. هذا من بنات أفكارهم لأنه لا توجد حكومة. العلاقة الوحيدة بين هذه الميليشيات والدولة تتلخص في حصولهم على رواتب شهرية بملايين الدولارات، بالإضافة إلا أنهم يتلقون مساندة من جماعة مصراتة والإخوان المتمثلة في ميليشيات الدروع، وذلك من خلال المطارات والموانئ التي يسيطر عليها قادة تلك الجماعات خاصة مطار معيتيقة وميناء مصراتة، إضافة لميناء درنة نفسه.
وسبق للقذافي في منتصف تسعينات القرن الماضي أن شن هجوما على الوديان التي كان يتحصن فيها المتطرفون في درنة، لكن الآن أصبحوا أكثر قوة من السابق.. ويقول الوالد عبد الله الذي شارك في الثورة ضد القذافي إن المتطرفين أصبح لديهم معسكرات في العديد من الوديان والجبال، وأسلحة متنوعة.. «في أيام القذافي كان عدد من لديه سلاح من المتطرفين هنا لا يزيد على عشرين نفرا، وأسلحة من نوع كلاشينكوف، لكن اليوم معهم جميع أنواع الأسلحة.. رأينا رتلا عسكريا تابعا لهم وعليه صواريخ قادرة على إسقاط الطائرات، وقلنا من أين جاء وأين كان. وطاف في درنة ثم اختفى. وفي بداية الثورة نهبوا صواريخ بعيدة المدى من مخازن الجيش.. من معسكر قرب الزويتينة ناحية بنغازي».
ابن عبد الله، الكبير، واسمه أبو بكر وكان يعمل بائعا في سوق الخضر والفاكهة في درنة قبل الفرار منها، تعامل مع مشترين سوريين يبدو أنهم تحولوا إلى أمراء حرب ويتحصنون في وديان درنة ويتحركون في سيارات دفع رباعي ذات زجاج معتم.. ويقول: سوريون ملتحون وفي ملابس أفغانية كانوا يأتون لشراء الفاكهة من دكاني.. يوم نعم، ويوم لا.. وهم نوع من الزبائن يختلفون عن الليبيين، لأنهم لا يسألون عن السعر ولا يفاصلون.. يأتي الواحد من هؤلاء ولا يسأل عن الأسعار ولكنه يشتري ما يريد بنفسه ويضع على الميزان بنفسه، ثم في النهاية يسأل عن إجمالي سعر ما أخذه من موز وتفاح وغيره من الفاكهة والخضراوات، كميات.. ثم يخرج رزمة من الفلوس ويدفع كما أقول له. ويضع كل ذلك في السيارة المغلقة والمعتمة دون أن أعرف ما فيها.
وأهل درنة العاديون يتحركون دون أن يعرض طريقهم أحد، رغم عدم وجود جيش أو شرطة أو إدارة محلية رسمية في المدينة. أما من يجري التعرض له بالخطف أو القتل فيكون عادة من أجل المال أو المنهج.. يقول عبد الله: «يعرفون أنك مليونير أو صاحب مال، يخطفونك أو يخطفون أحد أفراد أسرتك. يكلمونك بالهاتف.. (ها؟ تدفع أم لا؟). وإذا لم تدفع يقطعون رأسك، قد يبدأ الطلب بعشرة ملايين دينار (الدولار يساوي نحو 1.3 دينار ليبي) وتجري المساومة والتخفيض ولا توجد جهة يمكن أن تلجأ إليها.. البعض الآخر يقع ضحية لهؤلاء بسبب الخلاف السياسي أو العقائدي. الكثير من الناس الأبرياء قتلوا. هناك رجل من عائلة السعيطي جرى اختطافه في منطقة الكرسة وطلبوا منه 500 ألف دينار وأعطاهم 300 ألف وباقي عليه 200 ألف. وإذا خالف يقتل أو يختطف أو يقتل أحد أفراد أسرته للانتقام».
واختفت كل مظاهر الدولة من درنة. ويوضح ناصر قائلا: «من قبل ألقوا القبض على صديق لي شاب اسمه محمد وقطعوا رأسه لأنه انتقدهم.. وكان عمره 21 سنة.. ألقوا القبض عليه في بوابة على مشارف المدينة من الغرب، فصرخ في وجوههم وأخذ ينتقدهم ويقول لهم إنهم إرهابيون وقتلة. فتركوه أول الأمر لأنهم لم يكونوا يريدون القبض عليه وقتله في البوابة لأنها معروفة وتحت أعين العامة. وأخبر أهله وأخبرني بالقصة.. فقال له أهله حسنا هم لم يكونوا يريدون قتلك لأنهم لو كانوا يريدون لفعلوا. لكن بعد أسبوع ألقوا القبض عليه في الشارع مجددا وضربوه وأخذوا منه سيارته المرسيدس من نوع معروف باسم (عيون).. ويبدو أنهم شعروا بأن هناك حركة في المنطقة، فتركوه، وبعد يومين اتصلوا به: (إذا كنت تريد سيارتك تعال خذها، وإذا عملت أي حركة أو أتيت معك بأي شخص أو غيره، فسنطلق عليك النار). وذهب، ولم يعد.. وفي اليوم الثاني عثر أحد المواطنين على رأسه مقطوعة وموضوعه في كيس فوق السور المحيط بمسجد الصحابة في وسط درنة».
ويضيف قائلا إنه «في صباح اليوم التالي عثر رجل درويش معروف في المدينة على كيس فأخذه ودار خلف المسجد ليفتشه، إلا أنه سرعان ما أخذ يصيح قائلا: (يا ناس.. وجدت رأسا.. وجدت رأسا). وهرع إليه المواطنون فأخذوا الرأس للمستشفى، وهناك جرى غسل الوجه وتصويره وسؤال أهل درنة عمن لديه شاب متغيب ليروا إن كان هذا رأس ابنهم أم لا، إلى أن تعرفت عليه أسرته، فدفنوا الرأس وعملوا عزاء، وبعد أيام عثر أحد المواطنين على الجثة فجرى دفنها مع الرأس».
وحاولت قوات حفتر الحد من خطر هذه الجماعات والجرائم التي تقوم بها في المدينة التي كانت في السابق تشتهر بالفنون والتجارة، وشن الجيش الوطني عدة هجمات على معاقل المتطرفين واللصوص المتحصنين في الوديان جنوب درنة، مثلما كانت توجه ضربات لباقي المتطرفين حول بنغازي وطرابلس. ويقول أحد ضباط حفتر ويلقب بـ«العقيد الفيتوري»: «الموجودون في درنة جماعات مختلفة ليسوا منضوين تحت قيادة واحدة أو هكذا يبدون.. التكفيريون متحدون، لكن السلفيين يختلفون عنهم.. وبينهم اقتتال. يوجد سلفيون في درنة. هذا معلوم. ويوجد مجرمون ولصوص أيضا، لكن المشكلة تكمن في الأسلحة الثقيلة التي يحوزونها»، مشيرا إلى أن طيران الجيش شن عدة غارات في محاولة منه لكبح جماح تلك الجماعات، لكنه قال إن الأمر قد يستغرق وقتا طويلا إذا لم يتلق الجيش مساعدات تقنية وأسلحة متقدمة في الفترة المقبلة. وتوقع أن تكون الحرب على المتشددين في درنة الأطول والأصعب بسبب التضاريس.
حروب الشوارع
أما في بنغازي، فقد تكشفت تفاصيل جديدة في عملية اقتحام المتطرفين لمعسكرات حفتر هناك، وتبين من خلالها، وفقا للمحققين، وجود علاقة قوية فعلية بين الإخوان والمتشددين من «أنصار الشريعة» التي استولت على معدات جنود النخبة بالجيش الليبي وتعهدت بتصفيتهم عقب احتلالها لعدة أيام معسكر الصاعقة في المدينة في العشر الأواخر من شهر رمضان الماضي. وكان حفتر وقادة الجيش الوطني قد سارعوا بعملية انسحاب تكتيكي من تلك المعسكرات، لكن كان يوجد فيها معلومات تفصيلية على أجهزة الكومبيوتر عن الجنود والمعدات، كما كان حفتر قد ترك عددا من الجنود والأسلحة داخلها احتياطيا، حيث قامت هذه المجموعات الصغيرة بالدفاع ببسالة عن المعسكرات حتى سقطت في أيدي «أنصار الشريعة».
ومنذ هيمن التكفيريون على ضواح بأكملها في مدينة بنغازي، انتشرت ظاهرة القتل والتفجيرات وقطع الرؤوس، بالتزامن مع محاولات أنصار الشريعة أيضا ومن يدعمهم من ميليشيات المنطقة الغربية، أي ميليشيات مصراتة والإخوان (الدروع)، للسيطرة على مطار بنينة.
ومن بين الوقائع الجديدة فيما يتعلق بعملية سيطرة أنصار الشريعة على معسكرات في المدينة التي تعد ثاني أكبر المدن في البلاد، ومهد الثورة ضد القذافي، يروي جندي برتبة عريف من جنود «الصاعقة» يدعى عبد الحفيظ، قائلا إن جماعة «أنصار الشريعة»، حين اقتحمت المعسكر، حصلت على أسماء جنود الصاعقة وبدأت في تصفيتهم وملاحقتهم بعد وضع أسمائهم على حواسب محمولة للكشف عن المشتبه بهم ممن يجري توقيفهم عند الحواجز التي يقيمونها في المدينة. ويضيف: «كانت عناصر أنصار الشريعة قد دخلت الكتيبة رقم 319 (ضمن معسكر الصاعقة الرئيس) وقاموا بذبح كل من فيها، وكان عددهم 25 جنديا. ويقول: كانت كتيبتي تقع خلف مقر الكتيبة 319 أي كنت في كتيبتي المعروفة باسم الكتيبة 36، ولم تكن لهذه الكتيبة أي مهام أيام القذافي إلا حماية رؤساء الدول والضيوف الكبار الأجانب، ويخرج منها عادة في مثل هذه المهام النادرة من 25 إلى 30 جنديا. وقام أنصار الشريعة بهدم السور الذي يفصل كتيبتنا عن الكتيبة 319، ودخلوا عندنا وبدأوا بحرق السيارات لكي يشكل الدخان حاجزا وستارا لهجومهم. وكان ذلك في وقت الصباح».
ويتابع موضحا: «واشتعل القتال.. وبدأت الذخيرة تنفذ من رفاقي. وأخذ أحد الجنود يصيح: «يا خالي، يا خالي ماذا سيحدث، يا خالي».. وصاح آخر: «الذخيرة يا حفتر.. أين الذخيرة يا حفتر. نتعرض للهلاك يا حفتر».
ويزيد العريف عبد الحفيظ: «هذا المعسكر كان فيه أربعون غرفة.. منها عشرون في الطابق الأول وعشرون في الطابق الثاني. لكن عدد الموجودين في المعسكر لم يكن يزيد عن نحو عشرين جنديا فقط. واستولى أنصار الشريعة على ست أو سبع سيارات. جماعتي كانوا أغبياء ولم يفجروا مقر الإدارة من أجل حرق الأوراق والحواسيب التي كانت فيها. للأسف أخذ أنصار الشريعة الأوراق وأخذوا أسماءنا وملفاتنا وكومبيوتراتنا، وكل ما يتعلق بنا من تفاصيل منذ التحاقنا بالكتيبة حتى المعركة الأخيرة».
ويضيف أن الهدف من جمع أسماء أفراد الكتيبة هو التصفية وقتل الجنود الآخرين. وقال إنه جاءه تهديد مرتين على هاتفه الجوال. وسبق أن ألقت أنصار الشريعة في درنة القبض على هذا الجندي حين كان يرافق شاحنات بضائع لتأمينها إلى مدينة درنة، وكانوا يعدون لقتله بعد مصادرة البضائع إلا أنه ذكر لهم اسم أحد أقاربه من جماعة الإخوان والذي يقود مجموعة مسلحة في المدينة وكان من الموالين لقائد كتيبة أنصار الشريعة في درنة، سفيان بن جومة حتى وقت قريب، من أجل عدم قتله. ويعيش هذا العريف الآن وسط جنود حفتر في منطقة المرج قرب بنغازي.
وبخلاف الرعب من الاقتتال وتفخيخ سيارات الخصوم عبر شوارع المدينة، تنتشر في بنغازي أعمال الخطف. ويقول سليمان، وهو مسؤول محلي سابق في المدينة، إنه شاهد على قيام جزائريين بالمشاركة في القتال في صفوف المتطرفين سواء في المعارك ضد قوات حفتر أو في أعمال الخطف وطلب الفدية. ويوضح: «يمكن بكل يسر أن يعترض طريقك مسلحون جزائريون أو توانسة أو مصريون.. كنت منذ أسبوع في منطقة بوعطني في منطقة سوق الأغنام.. هناك أعداد كبيرة من التوانسة المتطرفين، تلاحظهم بسهولة من خلال لهجتهم.. أحدهم صاح في وجهي بلحيته الطويلة وشعره الكث طالبا مني إخلاء المنطقة، وقال لي: (بربك.. بربك.. امش بعيدا). أما الجزائريون فهم كثيرون، ويشاركون في أعمال الخطف، وهم من خطفوا رجلا ثريا مشهورا يدعى عبد السلام.. وضربوه، وأخذوا فدية من عائلته قدرها مليونا يورو، بعد أن كانوا قد ساوموه على عشرة ملايين يورو».
وعما إذا كان أهل بنغازي يستطيعون التعايش مع أنصار الشريعة، يجيب الرجل الذي كان عضوا في المؤتمر الشعبي أيام القذافي: «مستحيل. لماذا؟ لأنهم يزعمون أنهم يريدون تطبيق الشريعة.. بينما نرى أن لديهم شريعتهم الخاصة بهم التي لا يتقبلها غالبية الليبيين. أكبر واحد من عناصر أنصار الشريعة عمره 25 سنة. وحين يجري تجنيد الشباب من هؤلاء يجري إملاء شروط العمل مع أنصار الشريعة عليه، حتى يوافق عليها، مثل أنه إذا انخرط في التنظيم وأراد أن يتركه فمصيره القتل. وألا يضع اعتبارا لأي شخص من عائلته، وإذا كان أخوه من الجيش فعليه أن يقتله، لأن قتله فيه تقرب إلى الله. هذا فكرهم».
ويقول ضابط صغير السن وحديث التدريب في جيش حفتر: «أنا وجنودي نقف أحيانا حراسة على مساجين من أنصار الشريعة وتأتيني عروض تصل إلى مائة ألف دينار لتهريب محبوس أو اثنين منهم. وهم لديهم أموال ضخمة.. لدينا معلومات بأنهم قاموا أخيرا بنهب 350 مليون دينار من الأموال التي كانت في طريقها إلى مصارف بنغازي قبيل عيد الفطر. وكانت هذه الأموال قادمة من طرابلس في طائرة جرى الاستيلاء على ما فيها حين حطت في مطار بنينة، وبالتزامن مع ذلك قام أنصار الشريعة بنهب سيارة أخرى كان فيها 12 مليون دينار ليبي من أموال الشعب أيضا. حصلوا على معلومات برقم الطائرة وموعد وصولها، حدث هذا في منتصف شهر رمضان والناس صيام.. اقتحموا المطار فجأة وبدأوا في الضرب حول الطائرة بينما أنصارهم يتقدمون إلى الطائرة بين خطي النيران وحملوا الأموال في سياراتهم وهربوا».
ورغم الرعب الذي تسبب فيه مقاتلو أنصار الشريعة عقب استيلائهم على معسكر الصاعقة، وقيامهم بذبح جنود من الموالين لحفتر، فإن قوات الجيش الوطني تمكنت من امتصاص هذه الصدمات، وعاودت الكرة لطرد المتشددين من المدينة. وسقط صاروخ خلال هذه المعارك الأخيرة على منزل لعائلة البرغثي أمام المدرسة الموجودة في شارع عشرين، بينما كانت المدرسة نفسها قد تحولت إلى أنقاض بسبب الصواريخ، وأدى هذا النوع من المعارك إلى نزوح آلاف العائلات من المدينة إلى مدن مجاورة أكثر هدوءا أو إلى خارج البلاد، عبر حدود كل من مصر وتونس.
أنصار الشريعة
ويعرف سكان بنغازي عناصر من أنصار الشريعة ممن ينتمون لعائلات وقبائل في المدينة، شاركوا في قتل جنود من أتباع حفتر، خاصة وأن هؤلاء الجنود ينتمون لقبائل وعائلات معروفة أيضا. وهذا جعل أنصار الشريعة يخلون سريعا معسكرات الجيش التي سبق ودخلوها، وبعضهم لم يعد يستطيع أن يبيت في بيته خوفا من انتقام السكان، ويلجأ معظمهم للمبيت والإقامة في مزارع منتشرة في ضواحي المدينة. وواحدة من تلك المناطق تقع في سيدي فرج أي إلى الغرب قليلا من مطار بنينة، وهي منطقة مفتوحة وغنية بالمزارع وتمتد عدة كيلومترات حتى منطقة قار يونس غرب بنغازي.
لكن جنودا في الجيش يتحدثون عن أن تنظيم أنصار الشريعة ظهر خلال المعارك التي جرت الشهر الأخير أن لديه أسلحة غريبة جدا. ويقول جندي شارك في التصدي لهجوم المتطرفين على الكتيبة 319: «لديهم أسلحة لها صفير مختلف.. صوتها غريب، وأول مرة نسمعه.. أمضيت أربع سنوات في الحرب منذ 17 فبراير ومر علي كل أنواع الأسلحة، من عيار 106 وغيره، وأستطيع أن أقول إن لديهم صواريخ لا مثيل لها في ليبيا».
[caption id="attachment_55252247" align="alignright" width="300"] محمد الزهاوي [/caption]
ويعمل المتطرفون مثل الأشباح في المدن الليبية، خاصة بنغازي.. «يضربون الضربة ويختفون». لكن في واحدة من الوقائع التي تحقق فيها الغرفة الأمنية في المدينة توجد خيوط تصل بين هذه الضربات وأنصار الشريعة، كما يقول أحد ضباط الداخلية: «في منطقة قنفودة، قبل أسبوعين، كان شرطي زميل لنا يركب سيارة تويوتا متوجها لأسرته في منطقة قرب الدهماني، وضرب عليه المتطرفون الرصاص، وكانوا يستقلون سيارة جيب، انقلبت بهم أثناء محاولة هروبهم، فنزلا منها واختفيا، وعثر الشرطي على أوراق خاصة بجواز سفر لوالدة أحد الهاربين، ونشرنا صور المرأة ومن يتعرف عليها، إلى أن جاء خالهم، وقال إنها أخته، وأخبرناه بالواقعة، فقال إن ابني أخته الاثنين من أنصار الشريعة، لكن الولدين حين جرى توقيفهما قالا إن السيارة لا تخصهما وإن الأوراق كانت بحوزة رجل لتخليص إجراءات استخراج جواز السفر، إلا أنه لم يجر العثور على هذا الرجل أبدا، وما زالت القضية معلقة».
وتتكون الغرفة الأمنية في بنغازي من رجال الشرطة السابقين وتتبع وزارة الداخلية وتعمل بشكل محايد بعد أن فشل الإخوان في استغلال العاملين فيها لصالحهم. وهرب منها إلى مصر عدد من الضباط والجنود بعد تلقيهم تهديدات جدية بالقتل من بينهم ضابط يدعى إبراهيم عمل في السابق كناطق إعلامي باسم الغرفة.
التفخيخ المتطور للخصوم
تجري عملية الاغتيالات في بنغازي بواسطة قنابل ذات تقنية حديثة ويعتقد أنها مستوردة من الخارج، وهي لا توجد إلا في حوزة المتطرفين في بنغازي ودرنة وطرابلس وسرت. ويقول ضابط في الغرفة الأمنية في بنغازي: «أنا رأيت ثلاثة انفجارات.. انفجارات دقيقة للسيارات، يقتل المستهدف بعد جلوسه على المقعد، والغريب أن الانفجار لا يصيب الجالس في المقعد المجاور. بل يصيب الهدف وحده بكل دقة. وبعد التحقيق في الأمر اتضح أن هذا النوع من المتفجرات لا يقتل على الفور ولا يدمر السيارة، ولكنه يؤدي إلى تمزيق شرايين وأوردة في الفخذين والظهر للجالس على المقعد المستهدف، تؤدي إلى الموت بعد دقائق. هذا النوع من الملصقات المتفجرة لا يصنع في ليبيا، ولكنه يشترى جاهزا من الخارج.. مديرية أمن بنغازي وقوات الصاعقة صادروا بعضا من هذا النوع من الملصقات المتفجرة. والتفجير لا يحدث بالهاتف الجوال، ولكن بالريموت كنترول عن بعد، وذلك بعد أن يجري وضع الملصق في السيارة المستهدفة وهي متوقفة.
وسقط بسبب هذا النوع من المتفجرات اللاصقة العشرات من الضباط والجنود خاصة في بنغازي ودرنة». ويقول ضابط آخر إنه حين كان يخدم في سلاح الصاعقة في بنغازي كان شاهدا على تنفيذ عملية جرى تنفيذها ضد سيارة العميد يوسف لاصيفر، الذي كان نائبا عاما، وكان مسؤولا عن الشرطة العسكرية، بالطريقة الآتية: جاء العميد لاصيفر للصلاة على جثمان خالته في مسجد عمر بن الخطاب في منطقة الليثي، ولم يكن يقود سيارته ماركة تويوتا لاند كروزر، لأنه كان مصابا في قدميه، ولهذا كان يقود به شقيقه. ويضيف: «بعد صلاة الظهر خرجنا، وكانت السيارة واقفة بجوار الحديقة التي أمام الجامع، وفجأة انفجرت، وشقيقه الذي كان يرتدي ثوبا، لم يصب بأي أذى إلا ببعض من دم أخيه الضابط، بينما العميد حملوه وأخرجوه من السيارة وكان كأنه مضروب في فخذيه وظهره بالسواطير. المتطرفون كانوا يعرفون أنه لا يقود السيارة وأنه يجلس على المقعد الثاني، واشتعلت السيارة لأن خط البنزين كان تحت المقعد المجاور لمقعد السائق، أما السيارات التي لا تنفجر بعد تفخيخها باللواصق فالسبب يرجع إلى أن مكان خط البنزين في السيارة يوجد تحت المقعد الآخر، حسب نوع السيارة، وهذا حدث في عملية ضد ضابط آخر في الصاعقة.
ويقول إن المتطرفين في بنغازي ودرنة يشيعون أنهم يستخدمون الجلاطين (متفجرات ديناميت بدائية تعتمد في تفجيرها عن بعد على الهاتف الجوال)، لكن.. «هذا غير صحيح، لأن الجلاطين يؤدي لتفجير السيارة بأكملها». هذه الملصقات أتى بها مقاتلون متطرفون من الخارج. وتوجد تحقيقات في معلومات عن تعاقد المتشددين على عشرة آلاف حقيبة تحوي متفجرات لاصقة من هذا النوع، وتوجد خيوط تقول إنه جرى استيرادها باسم وزارة الدفاع (وهي وزارة يسيطر عليها متطرفون وعناصر من جماعة الإخوان أيضا). فما حاجة الجيش لمثل هذا النوع من المتفجرات. ولم يتسن الحصول على تعليق من مسؤولي وزارة الدفاع الليبية بسبب الأحداث المضطربة هناك، بينما نفى مسؤول الإخوان في ليبيا، الشيخ بشير الكبتي، أي علاقة لجماعته بأعمال العنف التي تشهدها البلاد.