باكو: «نحن نضع الدبلوماسية أولا وسنرى إلى أين تقودنا.. لكن إن أخفقت الدبلوماسية فنحن مستعدون للجوء لخيارات أخرى»، بهذه الكلمات التي جاءت على لسان الرئيس الأميركى جو بايدن فى القمة الأولى التي جمعته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في البيت الأبيض في السابع والعشرين من أغسطس (آب) الماضى، عبر عن السياسة الأميركية ليس فقط تجاه الحليف الإسرائيلي وإنما حيال أزمة البرنامج النووي الإيراني الذي مثل نقطة تباين بين البلدين في كيفية التعامل مع السياسة الإيرانية في المنطقة، تلك السياسة التي تحمل مخاطر عدة، بعضها يتعلق بسعيها لامتلاك ترسانة نووية تهدد أمن المنطقة واستقرارها من ناحية، وبعضها الآخر يتعلق بتدخلاتها في شؤون دول الجوار عبر أذرعها المنتشرة في بعض دول المنطقة من ناحية أخرى.
وفي ضوء هذا التوجه الأميركي الذي أعطى أولوية للعمل الدبلوماسي عبر استكمال المسار التفاوضى (5+1)، إلا أنه لم يغفل في الوقت ذاته أن ثمة خيارات أخرى يمكن اللجوء إليها إذا ما فشل هذا المسار الذي يشهد تعثرات وعقبات بسبب السياسات الإيرانية المراوغة. ولكنه لم يكشف عن طبيعة هذه الخيارات التي يمكن اللجوء إليها، وهو ما يفتح المجال لعديد التساؤلات حول ماهية هذه الخيارات وأشكالها، هل هي خيارات اقتصادية أم عسكرية أم تجمع بين الأمرين؟ وفي حالة إذا ما لجأت الولايات المتحدة إلى الخيار العسكري، هل سيتخذ شكل ضربات عسكرية مباشرة أم ستتبنى نهجا مغايرا؟ هل سيكون تنفيذ هذه الخيارات بشكل متتالٍ أم بشكل متوازٍ؟ هل لدى الحكومة الإسرائيلية الجديدة ذات الطابع اليميني فرصة للسير وفق النهج الأميركي أم ستتبنى النهج الذي سارت عليه حكومة بنيامين نتنياهو في توجيه ضربات مباشرة غير معلنة تجاه البرنامج النووي الإيراني وتجاه مصالحها في المنطقة كما كان يحدث في سوريا؟
في خضم الإجابة على هذه التساؤلات، يستعرض التقرير الخيارات الأميركية والموقف الإسرائيلي ورد الفعل الإيراني، من خلال محورين على النحو الآتي:
البرنامج النووي الإيراني بين الرؤيتين الأميركية والإسرائيلية
ليست مبالغة القول إن الرؤية الأميركية سواء أكانت الإدارة الحاكمة جمهورية كما كانت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب أم ديمقراطية كما كانت في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما والحالى جو بايدن، ترى أن السعي الإيراني لامتلاك برنامج نووي يمثل خطورة على أمن المنطقة برمتها بما يهدد المصالح الأميركية في المنطقة، وهو ما يتفق مع الرؤية الإسرائيلية التي ترى في طهران المهدد الأول لأمنها. ولكن التباين يبرز بين الرؤيتين في كيفية التعامل مع المسعى الإيراني في هذا الخصوص، إذ إنه في الوقت الذي ترى فيه إسرائيل أهمية توجيه ضربة إجهاضية للبرنامج النووي الإيراني على غرار ما جرى مع البرنامج النووي العراقي عام 1981 وكذلك السورى عام 2008، خشية استكمال خطوات طهران في هذا الخصوص، حيث يحمل ذلك تهديدا أكثر خطرا على الأمن والاستقرار في المنطقة في ظل السياسة التي تتبناها طهران منذ ثورتها عام 1979 والمتعلقة بمبدأ تصدير الثورة، وهو ما يعني تدخلها في الشؤون الداخلية ليس فقط في دول الجوار الجغرافي وإنما في مختلف المناطق، ولعل هذا التهديد يمتد إلى أوروبا وأفريقيا وبعض دول أميركا اللاتينية على غرار ما تسجله عديد التقارير والدراسات عن الوجود الإيراني عبر أذرعها وتوابعها في هذه المناطق.
ولذا، تؤكد إسرائيل على موقفها الرافض لامتلاك إيران سلاحا نوويا، ذلك الموقف الذي عبر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت في تصريحات صحافية على هامش القمة، بقوله: «إن إسرائيل طورت استراتيجية شاملة لمنع إيران من الخروج عن السيطرة فيما يتعلق بقدراتها النووية ووقف عدوانها الإقليمي»، مؤكدا في الوقت ذاته على أن الموقف الإسرائيلي لا يمكن أن يتغير في هذا الملف الذي يمثل تهديدا مباشرا لأمنها القومي كما عبر عن ذلك بقوله: «لن نستعين أبداً بمصادر خارجية لأمننا. إن من مسؤوليتنا أن نهتم بمصيرنا لكننا نشكركم على الأدوات... التي تزودوننا بها"، وذلك في إشارة واضحة إلى أن إسرائيل قد تضطر إلى الإقدام على خيارات أكثر صرامة في التعامل مع طهران ما لم تتخذ الولايات المتحدة التهديد الإيراني على وجه الجدية. ويُفسر هذا الموقف من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد بنيت في ضوء ما يتعرض له من ضغوطات داخلية أبرزها تلك الانتقادات التي توجه له من جانب معسكر المعارضة الذي يقوده بنيامين نتنياهو ويحاول من خلاله المزايدة على أدائه الذي يصفه بـالضعيف تجاه إيران.
على الجانب الآخر، تأتي الرؤية الأميركية في كيفية التعامل مع السياسة الإيرانية، حيث نجد بعض التباينات بين الديمقراطيين والجمهوريين، حيث تتقارب رؤية الإدارة الأميركية في ظل حكم الجمهوريين مع الرؤية الإسرائيلية وإن ظلت على مسافة من هذه الرؤية، صحيح أن الإدارة الجمهورية في عهد دونالد ترامب ألغت الاتفاق النووي الذي أبرمته الإدارة الديمقراطية في عهد باراك أوباما إلا أنها في الوقت ذاته لم تتجه نحو الخيار العسكري في التعامل مع التهديدات الإيرانية وإنما كان خيار العقوبات الاقتصادية هو الأكثر فعالية إلى جانب غض الطرف عن ضربات أمنية سيبرانية غير معلنة من جانب إسرائيل ضد البرنامج النووي الإيراني، فضلا عن توجيه بعض الضربات العسكرية لأهداف إيرانية سواء في البحر كما هو حال الاعتداء على بعض سفن النفط الإيرانية او ضد وجودها وأذرعها في المنطقة.
على العكس من ذلك لا تزال الإدارة الديمقراطية الأميركية تعطي للخيار الدبلوماسي الأولوية في التعامل مع التهديدات الإيرانية، وهذا ما يفسر الموقف الذي يتبناه الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن بالتأكيد على أولوية هذا الخيار، خاصة وأنه كان نائبا للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عند توقيع الاتفاق النووي مع طهران، ويسعى إلى التأكيد على صحة وجهة نظره في أولوية الأداة الدبلوماسية في التعامل مع الملف الإيراني.
ولذا تأتي سياسته الراهنة استكمالا لهذه الرؤية في إحياء المسار التفاوضي كسبيل للوصول إلى تفاهمات واتفاقات مع الجانب الإيراني، دون أن يلغي ذلك إمكانية اللجوء إلى خيارات أخرى حال فشل هذا المسار التفاوضي. صحيح أنه لم يحدد طبيعة هذه الخيارات وتراتبيتها، إلا أنه من الصحيح كذلك أنها تكاد تكون محصورة في ثلاثة خيارات على النحو الآتي:
- الخيار الاقتصادي، ويعني فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية التي تؤثر سلبا على الأوضاع الداخلية الإيرانية، بما يؤثر بدوره على الاستقرار الداخلي في ظل تردي الأوضاع المعيشية للمواطنين بسبب الحصار الذي يزداد إحكام قبضته.
- الخيار الأمني، ويعني توجيه ضربات أمنية سيبرانية إلى المنشآت النووية الإيرانية بما يعطل استكمال البرنامج ويفشل خطواته على غرار ما تم في منشآة نطنز الإيرانية.
- الخيار العسكري، ويعني توجيه ضربات عسكرية خاطفة وسريعة لبعض المنشآت الإيرانية، إلى جانب بعض قواعدها وأذرعها الموجودة في المنطقة على غرار ما يحدث من ضربات أميركية وإسرائيلية ضد الميليشيات الإيرانية في سوريا.
وإزاء هذه الخيارات الثلاثة، يُمكن للإدارة الأميركية أن تجمع بينها بشكل يُجبر طهران على الرضوخ للتفاوض والالتزام بتعهداتها، وهو ما يحقق مصلحة الطرفين في منع امتلاك طهران للسلاح النووي كما تعهد بذلك الرئيس جو بايدن خلال هذه القمة بقوله: «ناقشنا مع بنيت التهديد الذي تشكله إيران والتزامنا بضمان عدم تطوير إيران أبدا لسلاح نووي».
إيران النووية... كيف يمكن مواجهتها؟
من نافل القول إن ضرورة تبني الولايات المتحدة لاستراتيجية تكاملية من الخيارات في التعامل مع التهديدات الإيرانية تفرضها المواقف الإيرانية المتشددة من ناحية، والخبرات السابقة في التعامل مع هذا الملف من ناحية أخرى. إذ يجب على الرئيس الأميركى جو بايدن أن يستفيد من الخبرات التي اكتسبها حينما كان نائبا للرئيس في عهد إدارة باراك أوباما، فلم يمنع الاتفاق النووي الموقع عام 2015 طهران من الاستمرار في السعي لامتلاك السلاح النووي، بل كان البرنامج سبيلا لتمكين طهران من تطوير منظومة صواريخها البالستية من ناحية، وتحقيق مكاسب مالية من ناحية أخرى مكنتها من دعم أذرعها ووكلائها في المنطقة بما يعزز من قدراتها التفاوضية.
ولذا، فمن الأوجب أن يتزامن مع استكمال المسار التفاوضي الذي تتبناه الإدارة الأميركية، مسارات أخرى اقتصادية وأمنية بل وكذلك عسكرية إذا ما اقتضى الأمر، بما يفرض على طهران الانصياع لاستكمال المفاوضات بشكل جدي، بدلا من تعثرها اليوم بسبب مواقفها المتشددة الناجمة عن رؤيتها لطبيعة اللحظة الراهنة التي تعدها فرصة ذهبية يمكن من خلال تحقيق مكاسب عدة، خاصة مع الانسحاب الأميركي المفاجئ من أفغانستان وما حمله ذلك من دلالات تتعلق بطبيعة التوجه الأميركي، إذا ما تعنتت طهران، فالإخفاق الأميركي في الملف الأفغاني أفسح المجال لطهران رغم تبايناتها مع حركة طالبان بأن تحقق مكاسب عبر التواصل مع الحركة وفتح صفحة جديدة من العلاقات مستغلة في ذلك الأقلية الشيعية من الهزارة الأفغان فضلا عن حجم التجارة الذي يزداد على الحدود بين البلدين، وهو ما قد يعطيها ورقة جديدة للمساومة مع الجانب الأميركي بما قد يحد من الضغوط الأميركية عليها للالتزام بتقديم كافة الضمانات المطلوبة بشأن برنامجها النووي، الأمر الذي يجعل من الاستمرار في المسار التفاوضي- من وجهة النظر الإيرانية- نوعا من الإلهاء لحين استكمال عملية التخصيب والإعلان عن إيران نووية، وحينها تصبح المصالح الأميركية ومصالح حلفائها في المنطقة وعلى وجه الخصوص إسرائيل في مهب التهديدات الإيرانية، التي شهدت في الآونة الأخيرة تشددا في خطابها كما عبر عن ذلك سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني في تغريدة له جاء فيها أن «كلا من بنيت وبايدن أكدا على اتخاذ خيارات أخرى تجاه إيران، وفي حين يمثل هذا الأمر تهديدًا غير قانوني لدولة أخرى، فإن من حق إيران اختيار الرد المناسب ضمن الخيارات المتاحة».
كما شهدت هذه التهديدات أيضا تنوعا في ساحة حركتها رغم النفي المتكرر من طهران لما ترتكبه من اعتداءات سواء في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية عبر توجيه ضربات مباشرة لقواتها الموجودة في المنطقة كما حدث في الآونة الأخيرة وتحديدا في أوائل مارس (آذار) 2021 بسقوط صواريخ على قاعدة الأسد الجوية التي تستضيف معظم القوات الأميركية المتبقية البالغ عددها 2500 جندي، أو في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية من خلال تفجير السفن التابعة لها كما حدث في تفجير ناقلة النفط«إم/ تي ميرسر ستريت»المُشغلة من شركة «زودياك ماريتايم»الإسرائيلية أمام سواحل سلطنة عمان، أو من خلال الاعتداء على حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة عبر وكلائها على غرار الاعتداءات المستمرة من جماعة الحوثي اليمنية ضد الأراضي السعودية، فلم ينس الجميع الاعتداء الغاشم بطائرات مسيرة على مصافي تكرير النفط في العاصمة السعودية الرياض في مارس 2021، والتي لم يكن هدفها أمن المملكة فحسب، بل كانت تستهدف بشكل أوسع، أمن واستقرار إمدادات الطاقة في العالم، والاقتصاد العالمي كما عبرت عن ذلك وزارة الطاقة السعودية في إدانتها لهذا الاعتداء آنذاك.
خلاصة القول إن الخطر الذي تمثله طهران سواء بسعيها لامتلاك برنامج نووي أو بزرع وكلائها في دول المنطقة وغيرها من مناطق العالم، يمثل تهديدا حقيقيا للسلم والأمن الإقليميين والدوليين. ويزداد هذا التهديد في خضم ما تشهده المنطقة من أزمات تفكيكية لعديد دولها من جانب، وما يشهده النظام العالمي من تحولات مع تراجع أميركي وعودة روسية وصعود صيني، وهو ما يوجب أن تكون المواجهة سريعة وشاملة ومحكمة لضمان أن تأتي بنتائجها المستهدفة، إذ كشفت الخبرات التفاوضية السابقة مع طهران قدرة الأخيرة على التلاعب والمراوغة والمماطلة ومحاولة كسب الوقت والحلفاء في سبيل تمكينها من تحقيق أهدافها في أن تصبح دولة نووية.
ومن ثم، فالقمة الأميركية الإسرائيلية الأولى وإن حملت تحولا كما يرى البعض في الموقف الأميركي بضرورة التشدد مع المسعى الإيراني وذلك بمناسبة حديث الرئيس جو بايدن عن خيارات أخرى، إلا أن الارتكان إلى السبيل الدبلوماسي أولا كمسار وحيد في المرحلة الراهنة دون أن يضع الرئيس الأميركي نصب عينه الخيارات الأخرى التي يجب أن تسير في شكل متوازٍ لضمان أن تخلص المفاوضات إلى اتفاقات وتفاهمات ملزمة تُحجم التمددات الإيرانية من ناحية، وتبعث بروح تعاونية في المنطقة التي تشهد كل يوم لهبا جديدا يزيد من نيران الاشتعال من ناحية أخرى، فلن يؤدي هذا المسار الدبلوماسي إلى نتائج مرضية أو تغيرات مقبولة في السياسة الإيرانية.