بيروت: تستحوذ تداعيات تغيّر المناخ على اهتمام حكومات العالم، من اتفاقية كويتو المنبثقة عن الأمم المتحدة عام 1992 إلى اتفاقية باريس للمناخ عام 2015، وغيرها من الفعاليات لمواجهة الخطر الذي يسببه ارتفاع الحرارة القاتل.
ويرى معظم الخبراء أنّ هذه الجهود لن تكون كافية لمنع متوسط درجة الحرارة العالمية من الارتفاع بمقدار 1.5 درجة مئوية. كما أبدوا تخوّفهم منذ سنوات من أنّ العالم سيعاني من عواقب وخيمة متصاعدة، مثل موجات الحر القاسية والفيضانات وغيرها من الكوارث الطبيعية.
هذه العواقب بدأت تظهر بشكل واضح على صعيد العالم، إنّما الخطورة في الأمر تكمن في التداعيات «الساخنة» التي بدأت تطال القطاع الصحي؛ حيث تهدد الحرارة الآن صحة الإنسان وحياته، إذ تتسبب في وفيات أكثر من مخلّفات الأعاصير أو الفيضانات، ما يخلق معضلة جديدة لخبراء الصحة العامة، الذين أطلقوا صرخات اسثغاثة مؤخراً لنشر الوعي وتكثيف الأبحاث حول تأثيرات الحرارة القوية على المجتمعات، خاصة المهمشة منها، والتي تفتقد لأدنى مستويات العيش. كما طالبوا بتحرّك عاجل لوضع خطط لإنقاذ البشرية، محذرين من تصاعد عدد الوفيات بسبب الحرارة الشديدة في حال لم يتم وضع خطط عمل لمكافحة الحرارة.
الفيضانات القاتلة نتيجة تغيّر المناخ وعلماء يحذّرون: الأمر سيزيد 14 ضعفاً خلال عقود
أبحاث تكشف مخاطر الحرارة على حياة الإنسان
كشف تحليل أجري في عام 2020 عن خطورة إغفال تداعيات الحرارة القاسية على ارتفاع عدد الوفيات في الولايات المتحدة، حيث اقتصر البحث في البيانات على المصطلحات الطبية مثل ضربة الشمس، فيما تم تجاهل أسباب الوفاة الأخرى المحتملة، مثل النوبات القلبية وغيرها من الأمراض الناتجة عن الحرارة الشديدة.
وحذّر أستريد كالداس، عالِم مناخ بارز في اتحاد العلماء المهتمين بمتابعة تداعيات تغيّر المناخ، من مغبة عدم التحرّك العاجل في ظل استمرار تعرّض الناس للخطر؛ مبدياً تخوّفه من ارتفاع مؤشر الموت بسبب الحرارة. وأكد كالداس على الحاجة إلى «تكوين فكرة عما يمكن أن يحدث إذا لم نتحرك».
فقد زاد عدد حالات دخول المستشفيات بسبب الأمراض المرتبطة بالحرارة مؤخرًا في جميع أنحاء العالم، فضلاً عن تسببها باضطرابات القلب والأوعية الدموية والجهاز التنفسي. وكشفت الدراسات الأخيرة أنّ تغيّر المناخ يؤثر على صحة الإنسان، بسبب تسارع وتيرة وشدة الظواهر الحرارية.
كما اجتاحت موجات الحر وحرائق الغابات جنوب أوروبا والولايات المتحدة هذا الصيف بطريقة مؤلمة ومميتة؛ حيث تم الإبلاغ عن 600 حالة وفاة زائدة في شمال غربي المحيط الهادي في الولايات المتحدة وحدها.
بالإضافة إلى ما سبق، قدّرت بعض الإحصاءات أن أكثر من 1300 حالة وفاة سنويًا في الولايات المتحدة ناتجة عن الحرارة الشديدة، مقارنة بحوالي 600 حالة وفاة سنويًا تعود في معظمها إلى ارتفاع درجة الحرارة.
ووفقًا لتقرير رسمي منبثق عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ، والذي يجمع أحدث الأدلة العلمية حول تغير المناخ، من المتوقع أن تصل درجة الحرارة العالمية أو تتجاوز 1.5 درجة مئوية من الاحترار، خلال العشرين سنة المقبلة. ويتوقع التقرير أن تكون درجات الحرارة القياسية هذه أكثر تواتراً وشدة، وستستمر لفترة أطول بسبب تغيّر المناخ الذي يسببه الإنسان.
وتؤدي الزيادات في درجة الحرارة الإجمالية للغلاف الجوي والمحيطات المرتبطة بتغيّر المناخ إلى تغيّرات في أنماط الرياح والرطوبة ودوران الحرارة. وتساهم هذه التغيرات في التحوّلات في الظواهر الجوية المتطرفة، بما في ذلك الظواهر الحرارية الشديدة.
* اجتاحت موجات الحر وحرائق الغابات جنوب أوروبا والولايات المتحدة هذا الصيف بطريقة مؤلمة ومميتة.
كما ترتبط التأثيرات الناجمة عن الحرارة الشديدة أيضًا بزيادة عدد مرات دخول المستشفى وزيارات غرفة الطوارئ، وزيادة عدد الوفيات الناجمة عن أمراض القلب والجهاز التنفسي، والصحة العقلية، ونتائج الحمل والولادة السلبية، وزيادة تكاليف الرعاية الصحية أيضًا.
العوامل الناتجة عن تداعيات تغيّر المناخ دفعت كبار الخبراء إلى الدعوة لاتخاذ خطوات للسيطرة على الوضع. وصرح أكاديميون من جامعة لوبورو البريطانية أن المستقبل الحار يتطلب تخطيطًا عاجلاً ومزيدًا من الاستثمار في البحث لتقليل مخاطر الأمراض المرتبطة بالحرارة والوفاة.
مجلة «لانسيت» العلمية تكثّف أبحاثها
حذّرت سلسلة أبحاث من تداعيات الحرارة المرتفعة على الصحة. وكشفت المجلة العلمية «دا لانسيت» أن معدلات الاعتلال والوفيات المرتبطة بالحرارة ستزداد في حال لم يتم الاستثمار في البحوث القائمة على الأدلة واستراتيجيات إدارة المخاطر.
وجمعت السلسلة خبراء أكاديميين من علم الأوبئة وعلم وظائف الأعضاء والطب وعلوم المناخ والبيئة المبنية والتنمية المستدامة مع مساهمات من 15 مؤلفًا من ثماني دول من أربع قارات.
وتعد دراسة النمذجة المكوّنة من جزئين التي أجرتها كاترين بوركارت وزملاؤها من دراسة العبء العالمي للأمراض والإصابات وعوامل الخطر، أول تحليل شامل لعبء الوفيات العالمي الناتج عن درجات الحرارة، بالإضافة إلى تفنيد الأسباب المحتملة بطريقة علمية.
وأشارت تحليلات البيانات المأخوذة من 65 مليون حالة وفاة وتقديرات لدرجة الحرارة في تسعة بلدان، إلى أن الحرارة الشديدة والبرودة مرتبطة بـ17 سببًا للوفاة من أمراض القلب والجهاز التنفسي والهضمي، والانتحاروغيرها من الأمراض.
هذا، وقدّر المؤلفون أن 1.7 مليون حالة وفاة في جميع أنحاء العالم في عام 2019 كانت مرتبطة بالحرارة الشديدة والبرودة (356000 حالة كانت مرتبطة بالحرارة). على الرغم من أن هذه التقديرات العالمية تحمل بعض الشكوك بالنسبة للبعض، إلا أن الدراسة توضح أهمية ارتفاع درجات الحرارة كعامل خطر على الصحة العالمية، وتوفّر بيانات قيّمة لمساعدة صانعي السياسات لإيجاد حلول سريعة وفعّالة.
مراكز صحية وخبراء يخرجون عن صمتهم
حذّر جريجوري ويلينيوس، أستاذ الصحة البيئية ومدير برنامج المناخ والصحة في جامعة بوسطن، من خطر الحرارة الشديدة على الصحة وتجاهل تداعياتها، قائلاً: «الأيام الحارة يمكن أن تؤدي إلى معاناة الناس من الجفاف، والإرهاق الحراري، وفي الحالات القصوى، ضربة شمس». وتابع: «لكن الأيام الحارة ترتبط أيضًا بارتفاع مخاطر الإصابة بعدد من الحالات الأخرى التي لا يُعتقد عادةً أنها مرتبطة بالحرارة، مثل مشاكل الكلى والتهابات الجلد والولادة المبكرة بين النساء الحوامل». وأردف: «تمثل ضربة الشمس والإجهاد الحراري والجفاف جزءًا صغيرًا نسبيًا من إجمالي المخاطر الصحية المرتبطة بأيام الحرارة الشديدة. كما لفت إلى أنّه ليس فقط الحرارة الشديدة وحدها هي التي تشكل خطرًا. حتى الأيام الحارة المعتدلة يمكن أن تعرّض الأشخاص الذين يعانون من مشاكل صحية تحديداً لخطر أكبر».
* 1300 حالة وفاة سنويًا في الولايات المتحدة ناتجة عن الحرارة الشديدة، مقارنة بحوالي 600 حالة وفاة سنويًا تعود في معظمها إلى ارتفاع درجة الحرارة.
كما حذّر ويلينيوس من المخاطر الصحية للحرارة الشديدة والتي تعتبر «حقيقية ومهمة». وأوصى بضرورة الابتعاد عن الشمس قدر الإمكان، وشرب الكثير من الماء، وضرورة السكن في أماكن باردة.
إلى ذلك، أكدت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في واشنطن، على خطورة الحرارة الشديدة على الصحة، بناء على أبحاث أجرتها مؤخراً. وكشفت هذه المراكز أنّ الحرارة الشديدة يمكن أن تؤدي إلى مجموعة متنوعة من حالات الإجهاد الحراري، مثل ضربة الشمس، وهي أخطر الاضطرابات المرتبطة بالحرارة، حسب ما كشفت التقارير الطبية التي تخوّفت من عدم قدرة الجسم على التحكم في درجة حرارته، الآيلة للارتفاع، حيث تفشل آلية التعرق، وتحجب البرودة عن الجسم، ما يسبب الوفاة أو العجز الدائم إذا لم يتم تقديم علاجات طارئة.
هذا، ولفتت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية أنّ الأطفال الصغار وكبار السن وبعض الفئات الأخرى بما في ذلك الأشخاص المصابون بأمراض مزمنة، والسكان ذوو الدخل المنخفض، والعاملون في الهواء الطلق هم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الناجمة عن الحرارة القوية.
كما ترتبط درجات الحرارة المرتفعة بمشاكل الجهاز التنفسي. وأحد الأسباب أن ارتفاع درجات الحرارة يساهم في تراكم تلوث الهواء الضار. فقد شهدت العديد من المدن في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بما في ذلك سانت لويس وفيلادلفيا وشيكاغو وسينسيناتي، زيادات كبيرة في معدلات الوفيات أثناء موجات الحر.
كيف تحمي نفسك من أحداث الحرارة الشديدة؟
في حين أن العديد من المجتمعات تملك برامج لمعالجة تداعيات المناخ، حثت مراكز السيطرة على الأمراض السلطات على اتخاذ إجراءات لجعل المجتمعات أقل عرضة لتأثيرات تغير المناخ.
* حثت مراكز السيطرة على الأمراض السلطات على اتخاذ إجراءات لجعل المجتمعات أقل عرضة لتأثيرات تغير المناخ.
وأوصت المراكز نفسها باتباع نهج آمن وإدارة التهديدات الصحية المرتبطة بالحرارة الشديدة من خلال:
- أنظمة الإنذار المبكر من موجات الحر التي تساهم في الحماية من خلال الإبلاغ عن مخاطر موجات الحر واقتراح إجراءات وقائية، حيث تتميّز بتكلفة أقل بكثير من علاج أمراض الحرارة والتعامل معها.
- تنبيهات الحرارة كمحفزات للمدن والمقاطعات لاتخاذ إجراءات وقائية، مثل فتح مراكز التبريد حيث يمكن للجمهور التجمع للتخفيف من الحرارة.
- أجهزة التبريد التي تصنّف بين الأدوات الأساسية للوقاية من الحرارة الشديدة، وموردا صحيا أساسيا لكافة الأسر.
- الحفاظ على رطوبة الجسم وتجنب التمارين الشاقة في الهواء الطلق أثناء التنبيهات الحرارية للوقاية من الآثار الضارة للحرارة الشديدة.
- توفير سهولة الوصول إلى نوافير الشرب العامة وأحواض السباحة ومنصات الرش للحفاظ على البرودة خلال فترات الحرارة الشديدة.
- تحديث قوانين البناء وقوانين تنسيق الحدائق لتوفير الحماية من الحرارة الشديدة. على سبيل المثال، يمكن للأسطح الخضراء (الأسطح المغطاة بالنباتات) وأشجار الظل ذات المواقع الاستراتيجية أن تقلل درجات الحرارة الداخلية وتحسن كفاءة الطاقة في المباني.
- زراعة الأشجار بما في ذلك أشجار الشوارع والمناطق الحرجية، التي تساهم أيضاً في التخفيف من الحرارة، بما يصل إلى 9 درجات فهرنهايت.